| الثقافية
لم يعد العمل المسرحي لدي أغلب المدارس الحديثة مجرد سلسلة من المشاهد تجسد ألواناً من الصراع في صيغته الواقعية والنفسية كصدى لما يجري على الأرض عبر رؤية تلم شعثه وتمنحه معناها، وتعبر عن موقف الكاتب ازاءه، فقد كانت المدرسة الواقعية تعتبر الفن موازاة رمزية للواقع تنفذ الى جوهره، وتعيد إنتاجه من جديد بما يتسق مع منظور الكاتب الذي يدعي الموضوعية والحياد إزاءه.
ثمة محاولات لإبداع عالم جديد ليس إنتاجاً منبثقاً عن الواقع بتضاريسه الخارجية او تعبيراً عن محدداته وقضاياه، بل هو فيصل عنه، له شخصيته الجمالية المستقلة وقوانينه الخاصة، تركيبة يتواشح فيها الكابوس مع الفانتازيا مع شظايا الواقع في توليفة جديدة يستعان فيها بمزيج من العناصر يتماها فيها الحلم بخصائصه المتميزة مع الخيالات والرؤى لإنتاج مواقف وانطباعات لا يمكن صياغتها صياغة منطقية، بل تتعالى على المنطق لتفترع منطقها الخاص.
** وهنا تبرز مشكلة التلقي، وهي تتحول الى اشكالية، لأن العمل المسرحي على الرغم من انطوائه على الواقع بشكل او بآخر يظل عصياً على الإدراك التقليدي، إذ يرتاد مناطق جديدة في وعي المتلقي، ثمة محاولة لنفي الواقع ونسف الوعي بمفهومه المتعارف عليه، ومن هنا تأتي صعوبة التعامل مع مثل هذه الأعمال المسرحية.
ثمة مغامرات شكلية تجريبية تتوسل بطرق شتى وأدوات مختلفة، والهدف منها تمكين خشبة المسرح على الرغم من محدودية المساحة فيها من استيعاب هجوم المجتمعات والأفراد باختزال المواقع وحشره في رموز تضيق فيها العبارة ويتسع عبرها التأويل، وذلك في محاولة لاستغلال العلاقة الوثيقة بين نشأة المسرح والطقوس الدينية لدى اليونان فظهر ما يسمى بالمسرح الطقسي الذي تتحول فيه هذه الطقوس الى رموز.
وفي مسرحية الزاوية المظلمة التي أدتها فرقة الدمام المسرحية استغلال لعناصر مسرحية تتكامل فيها عناصر الفانتازيا والكابوس والطقوس والعناصر الشعبية، في البيئات البحرية، حيث تحولت شبكة الصيادين الى صارية: لوحة تتقطاع عليها الوقائع والمصائر، فضلاً عن الصندوق القديم، صندوق العروس الذي يضم حاجياتها وملابسها، وكذلك الأشباح، والشيخ الذي يحمل مشعل الحكمة وأتباعه الذين يترسمون خطاه، هذا الشيخ الذي يتجه الى الشخصية الرئيسية في المسرحية مخاطباً اياه في عبارات منتقدة موجعة لاذعة كما يتوجه الى الجمهور، ينطق بالحكمة، ويتفوه بعبارات أقرب الى العبارات الصوفية في عمقها ورحابة اتساع الدلالة فيها وقابليتها للتأويل.
** ليس ثمة حوار مسرحي بالمفهوم التقليدي، فالجانب الدرامي «الصراعي يكاد ينحصر في مواجهة الاشباح التي تسوق العواصف وتهز ارجاء البيت وتحاصر الشخصية التي تتلعثم ولا تكاد تبين، وحين يضيق بها الحصار تلقي بنفسها في الصندوق الذي يصبح رمزاً للمفارق بين وظيفته القديمة، ووظيفته الجمالية، فيصبح أشبه بصندوق قمامة تلقي فيه الأشياء في أعقاب الانهيارات المستمرة لشخوص المسرحية التي لاتكاد تميز بين سحنها وملامحها.
هناك تقنية مسرحية عالية تتمثل في الاخراج والديكور والصوت والتمثيل، فالبطولة الحقيقية للصوت والضوء وخيال الظل، وكذلك الثوابت والمتغيرات الديكورية المحدودة.
هذه مسرحية بلا نص اعتمدت على المؤثرات الصوتية في الدرجة الأولى، وعلى بعض عبارات يرددها اشخاص غامضون، يقومون بأدوار تمثيلية تتكئ على الحركة الجسدية في الدرجة الأولى، وعلى التعبير بالحركات والصرخات، بينما يتردد بكاء طفل وصوت أمه الحنون التي تهدهده داعية إياه الى النوم في نغم حزين مؤكدة ان عين الخالق لا تغفل ولا تنام.
فيما ينبعث هذا الصوت تبدو حركة مذعورة وصرخات على المسرح يقوم بها اب ملتاع مفزوع تطارده الاشباح والكوابيس بينما يركض خلفه ابنه محاولاً ان يهدئ من روعه وسط مؤثرات صوتية، يحاول الأب ان ينوم ابنه مخلصاً إياه من فزع اللحظة وحرجها وضيقها، بينما يتقلب قلقاً ملتاعاً مفزوعاً على خشبة المسرح، ثمة أضواء وخيالات وصخب وظلال، تنعكس على شاشات ثلاث تبدو سوراً يفصل بين البيت والخارج، هناك كتبة وملاحون وعاملون آخرون، الآلة الكاتبة التي تعمل، وثمة من يقذف الأوراق من وراء السور المكون من قماش يعكس الظلال، وهناك من يقذف بهذه الأوراق الى الصندوق، حركات عبثية تتوالى من خلف السور، وفي داخل البيت، وكل شيء يصب في نهاية المطاف داخل الصندوق، بما في ذلك واحدة من هذه الشخصيات التي تخرج مصلوبة على سارية الشباك تتحدث بلغة محتشدة وعبارات غامضة.
** والطفل الذي يؤول الي حضن ابيه المفزوع يرمز إلى المستقبل، ولذلك نجده يصعد مع الشيخ الموشح بالبياض الى المنصة العالية في لوحة استعراضية تومئ الى الخلاص حيث يتبدى الطفل وقد خلص بملابسه البيضاء مع الشيخ الى شاطئ النجاة حيث ترتفع الهامة واليد ويسطع نور الشمس وينتهي المشهد.
ليس ثمة من يزعم انه قادر على تقديم شرح واضح تفك رموز المشهد داخل المسرحية ، ولكن حسبنا أن نشير إلى مايلي :
أولا الصمت وسط المؤثرات الصوتية ثم احتباس الصوت الإنساني وحشرجته بعد الخروج من شرنقة تشبه المشيمة التي يرقد داخلها الجنين، حتى إذا مزقت هذه الشرنقة وخرج الشخص الذي بداخلها خرج من صمته ولكنه تعثر في كلامه، وظل غير قادر على النطق الحقيقي قذف بنفسه في الصندوق ثم خرج ليصلب نفسه على السارية الشبكة التي أطلقت لسانه بالكلام فماذا يعني ذلك؟ هل يتجاوز سطح الواقع الى عمق الكينونة الإنسانية الى مسألة الوجود الإنساني حيث الشرنقة البلاستيكية تمثل المشيمة وتمزيقها يعني الخروج من الزاوية المظلمة «الرحم» الى رحابة الحياة التي تدفع به الى المكابدة فلا ينطقه الا الألم حيث تستمر المكابدة التي اشار اليها القرآن الكريم، ام ان المشهد لايخرج عن دلالته العصرية.
ثانياً: مفهوم العاصفة التي تجتاح الحياة داخل المنزل فتزلزل الجدران وتتحول الى أشباح وكوابيس تسلب الانسان طمأنينته وتجعل منه جسداً يتلوى على جمر القلق والعذاب والفزع والخوف، ولماذا ينهض الابن بلباسه الابيض يحوط اباه بخوفه عليه وإشفاقه، والاب يهدهده فينيمه، وابان ذروة القلق والعذاب تبرز الاشباح الثلاثة بما تعنيه من مدلولات الحصار حيث تخرج فرادى من مكان السارية «الشبكة» وتتجمع فوق المكان الذي كان يجلس فيه الاب وينام عليه الابن، ويأتي الشيخ المرشح بالبياض الذي يجر شريطا متصلا من القماش الابيض يقذف به في الصندوق، ثم يخرج حاملاً مع أتباعه المشاعل في صورة المخلص، ثم يصحب الابن.
ثالثا: ماذا تعني هذه الصورة، هل تتآزر مع المشهد السابق لتعطي دلالة كلية تتمثل في الزاوية المظلمة المعاصرة التي لايمكن الخروج منها الا بالاهتداء بمشاعل النور بما تمثله من حقيقة سماوية حيث يحملها الشيخ المتشح بالبياض على يد جيل جديد أكثر نقاءً وشفافية، لذا يحتضن الشيخ ويصعد به الى اعلى المنصة.
رابعاً: لماذا هذا الحشد الامشاج المتباينة؟ الآلة الكاتبة وعربة المقعد «المشلول» وخيالات الظل التي تنعكس على الشاشة، والاوراق المتطايرة من فوق السور، هل هي الصورة الاخرى الموازية للمشهد الرئيسي، الآلة الكاتبة والاوراق الملقاة.. الكلمات التي تفقد معناها حينما تتحول الى رديف للزيف، والبحار الذي يجدل الحبال ويحاول جر السفينة المتخيلة الى شاطئ الامان وعربة المقعد التي ترمز الى السيف والشبح شبه العاري الذي يظهر ظله على الشاشة.. إن المشهد هنا يبدو اكثر خصوصية وهو يتنابح مع البيئة المحلية، ويعمل على ترميزها في آن من خلال تقاطعها من الفانتازيا والكابوس وطماليات التي تعتمد على الطقوس.
هذه التوليفة تضيء الدلالات من زاوية اخرى تتجاوز او تتقاطع مع كلية الرؤية وكينونتها الوجودية، مما يطلق العنان للمتلقي في آن يتخيل ويستنتج.
وهكذا تبدو المسرحية ذات تقنية عالية في إخراجها وتمثيلها، فالممثلون على درجة كبيرة من الوعي والثقافة والادراك النافذ لما توحي به من عالم دلالي متكامل، مما يشهد على رقي ملموس في صناعة المسرح والانجاز الذي حققته جمعية الثقافة والفنون من خلال توفير درجة متقدمة من التخصص والنضج.
غير ان ثمة ملاحظات تتعلق بالعلاقة بين المسرحية ومتلقيها، فالجرعة التجريدية عالية في المسرحية الى حد ان استيعابها يستلزم وجود مستوى من التلقي رفيع المستوى، ودرجة من الثقافة تتجاوز الجانب التقليدي المألوف الذي يهيئ المشاهد لاستيعاب الدراما الواقعية، كما ان استمرار العرض على النحو الذي اشرنا اليه بما فيه من تجريد يستلزم لوناً خاصاً من المؤثرات الصوتية، والديكور وشيئا من الجدية الصارمة التي تتطلب قدرا من التركيز والمتابعة، وهو امر مرهق يضغط في اتجاه فسيولوجي وذهني ونفسي، ولا يتخلله اي قدر من الراحة، من هنا كان حجم الحضور ليس كما هو متوقع، وان كان مرضيا على اية حال، فمثل هذه المسرحيات ذات الطابع التجريبي حينما كانت تمثل في مسرح الجيب بالقاهرة في عقد الستينيات مثلا لم تكن تحظى بنصف هذا الحضور الذي حظيت به مسرحية الزاوية المظلمة.
لذا نشد على ايدي القائمين على هذه المسرحية تأليفاً واخراجاً وتمثيلاً وتنفيذاً «إضاءة وديكورات واكسسوارات» واشرافاً «جمعية الثقافة والفنون بالدمام» مهنئين على هذا المستوى الرائع.
|
|
|
|
|