| الثقافية
مرت الرواية في المملكة العربية السعودية بعدد من المراحل منذ ظهورها في نهاية الثلاثينيات من القرن العشرين، وكانت رواية تعليمية في المقام الأول، لأن متطلبات ذلك الوقت تحتم على الروائي الكتابة في حقل التعليم نظراً لمتطلبات النهضة السعودية التي رسمتها الجهات العليا للقيام بأعباء الدولة الجديدة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد أن الكاتب حديث عهد بالفنون الحديثة التي ظهرت بوادرها في بلاد الشام ومصر، وكانت ضعيفة هناك أيضاً حتى دخول المترجمات على أيدي الكتاب والمترجمين الشوام، الذين بنوا النهضة المسرحية والصحافية، وترجموا الفنون الغربية الحديثة إلى اللغة العربية.«1» فثقافته ثقافة عربية تراثية، فيما يتعلق بالبناء الروائي، فمفهوم الرواية عنده، لا يتعدى مفهوم الراوي، المستمد من التراث العربي، اشتقاقاً من الفعل «روى » وهذا عنصر لا ينفك من التكوين الروائي إلى اليوم في الرواية العالمية، لكن المفهوم في ذلك الزمن مفهوم النقل للنقل، وليس النقل في داخل البناء الروائي، من خلال نقل الفعل الروائي، وليس فعل الخبر، كما هو متعارف عليه في التراث العربي، ومنه التراث الديني. أضف إلى ذلك نسبة المتعلمين في ذلك الوقت، والذي تقدر بأقل الأعداد، أو لا تكاد تذكر على الإطلاق في بعض المناطق من البلاد المترامية الأطراف، حديثة التكوين، وقد اتكأت على موروث عتيد، هو الشعر، الديوان الذي يمكن حفظه في وسط يجهل القراءة والكتابة. والرواية كما هو معروف فن المدينة، لا يمكن أن تظهر إلا في مجتمع يجيد القراءة والكتابة، لذا رأى الروائي أن المتلقي بحاجة ماسة إلى الرواية والقصة التعليمية المباشرة، كما هي الحالة التي تعود عليها في سماع الشعر، وأحاديث السمر البسيطة، فالفن الحديث لم يتبلور بعد في أذهان المتلقين من الطبقة المثقفة ثقافة عصرها. فما كان إصدار عبدالقدوس الأنصاري لعمله الأول والأخير، إلا صدى لهذا المطلب المناسب لزمانه، فقد كان يكتب تلك الأفكار التي تراوده في مجلة المرشد العربي في دمشق، خلال الحرب العالمية الأولى، يناقش فيه تلك الإشكاليات التي تعصف بالشباب العربي، بين مؤيد للغرب ومعارض لدخول العنصر الأجنبي، والثقافة الغربية التي ستكون على حساب الثقافة العربية الموروثة، بحسناتها وسيئاتها، فالإنسان تتجاذبه عدة تيارات ثقافية. الأول ، التيار شديد المحافظة ، الذي يستقي إبداعه من التراث الخالص، ويساير الظروف الخاصة بحساسية شديدة، ولا يغامر بالتجربة التي يخشى أن تفتح عليه باباً يصعب إغلاقه في وقت الحاجة. والثاني، التيار الوافد، سواء من البلاد العربية، أو الأجنبية، وقد تعامل معه الكثير من الكتاب بتجربة ضعيفة، اما لعدم هضمه ومعرفة التعامل به في مجتمع يختلف عن المجتمع الذي طبق فيه لأول مرة، وأنجحته ظروف ذلك المجتمع، أو أن الموهبة لم تسعف كاتبه للتعامل به في ظل الظروف والمستجدات. والثالث، تيار كوّن شخصيته من خلال مزج القديم بالجديد، واستطاع كتابه على قلتهم أن يكونوا لهم شخصية روائية مستقلة تعكس النشاط الإنساني بجدارة ومقدرة، ولم يأت هؤلاء الكتاب من فراغ، فبالإضافة إلى الموهبة العامل الأساسي في عملية الإبداع كانت خلفياتهم تراثية في المقام الأول، وتدريبهم حديث، وبالتالي حصول المتلقي على أعمال متكاملة البناء، تنطوي على الرمز والأسطورة، وتوظيف كل منهما في المكان المناسب، على الطريقة التي سار عليها كبار كتاب الرواية العالمية، ولم تحمل الفكرة فوق ما تستطيع حمله بالطريقة التي يهدف الكاتب من ورائها إلى تحميل العمل الروائي فكرته التي يريد أن يوصلها للمتلقي بأسلوب مدرسي تعبيري، أو ورقة يشرح فيها ظروفه وحاجاته. والمشكلة التي يعاني منها الأدب عموماً والرواية على وجه الخصوص، تلك الهوة السحيقة بين الطرفين، الأول الذي وقف عند زمن معين، وتحجر عند ذلك الزمن ، ولم يؤمن بغيره، حتى صار عنده من المسلمات الثابتة، وما سواه باطل لا تجوز ممارسته، بل ان ذلك يعتبر من الخروج على التقاليد العرفية في عالم الأدب، وأنه سيفسد التراث، والشخصية العربية. والثاني، ضرب بكل التراث و القديم بشكل عام عرض الحائط، وبدأ من حيث انتهى الآخرون، ويرى أن حتى ذكر القديم يعني الجمود والتخلف، وأن أولئك هم حراس الفضيلة الخاصة بهم، فلا يود الاقتراب منهم ولا من التراث الذي يتسمون به.
واتخذ له خطاً جديداً لا يمت إلى القديم بصلة، وصار شعاره، مدرسة فلان وعلان، من الرموز العربية المعروفة، وما علم أن فلاناً هذا قد بدأ من التراث، ولو لم يفعل ذلك ما كان له أن يكون على ماهو عليه. وإذا نظرنا إلى هذين النموذجين من المبدعين نظرة الناقد الفاحص البعيد عن الذاتية، الذي يبني أحكامه على النظريات الأدبية الصادقة، فسنجد أن كلاً منهما على خطأ: فليس هناك قديم بلا جديد، وليس هناك جديد بلا قديم. وإذا عدنا إلى تراثنا الأدبي العربي فسنجد أن سر نجاح رموزه متعلق بالمزاوجة بين القديم والجديد، ويكفينا مؤسس الشعر العباسي «بشار بن برد» الذي استقى ثقافته من القديم وطعمها بالجديد، واستحق بذلك لقب «واضع أصول الشعر الجديد في العصر العباسي «2» فقد هضم أصول الفن القديم وعالج الحياة العصرية من خلاله. وهذان أساسان مهمان في العملية الإبداعية. ووجدنا الأعمال الإبداعية الرائدة عالمياً قد تمسكت بذلك دون تقليد، فلم تطرق مجالاً سبق طرقه، ولم تهمل العنصر المشترك، بل استخدمته في نقد الحياة اليومية، كما فعل أبو العلاء المعري، في كتابه «اللزوميات» وكان أبو العلاء تراثياً، لكنه لم يكن مقلداً، ونقد الحياة اليومية من خلال هذا العمل الذي لم يزل رائداً إلى اليوم.«3» وقد كانت تجارب روادنا في المجال الروائي تجارب مختلفة باختلاف المرجعية الثقافية، فمنهم من كان تراثياً مقلداً في بداية النهضة الفنية، ومنهم من كانت تجاربه تقليدية انطباعية، وآخرون جددوا بما عندهم من حصيلة ثقافية، تجمع بين التراث والمعاصرة. وسنأتي على تفصيل ذلك فيما بعد.
|
|
|
|
|