| الثقافية
عندما كنت أسير في الشوارع وحيداً، تلك الشوارع الترابية المثيرة للمخيلة ولكل المشاعر. كنت أرسم بقدمي لوحات كأنها موسيقى، أسير ببطء وعيناي على الأرض. ارسم خطا واضحا اقطعه بخط آخر ثم دائرة ثم نقاط مبعثرة تعزف على وتر الإحساس الحاد بوطأة الوقت والوعي الحاد تجاه الكثير من الصور الاجتماعية المحيطة والمثيرة. لم أكن أفهم معنى لكثير من القصص التي أسمعها. كنت أظن أنها قصص من نسيج خيال جامح فهل يعقل ان هذا الشارع الطويل الذي أمر به كل يوم راسماً الكثير من اللوحات بقدمي المترتبين ينطوي على هذه الحكايات المثيرة للخوف والحزن والألم والشفقة أيضاً، أسمعهم يتحدثون عن ذلك الشاب )منصور( الذي نسمعه كثيرا ولانراه كأنه أسطورة من الزمن القديم، يقولون إنه في مساء الجمعة الماضية أشعل النار في جسده وأن بيتهم تحول إلى كومة رماد وأن )الولد( نقلوه إلى المستشفى بين الحياة والموت ثم أخيراً فارق الحياة هناك.
قبل العصر بقليل أذهب بمشيتي البطيئة قاصدا بيت هذا الولد المتمرد الذي قالت عنه أختي )مسكين( وقالت عنه والدتي )مجرم(، رأسي إلى الأرض وقدماي ترسمان الخطوة على لوحة التراب، هذا هو بيتهم، ولكن أين )كومة الرماد( التي يتحدثون عنها. لم يتغيّر في بيتهم شيء، أظل أمام باب البيت وقتا ربما يخرج أحد منهم. قد أرى كومة الرماد في الداخل أنتظر ان يفتح الباب حتى وصل والدهم وفي يديه كيسان من الخبز والبرتقال، يفتح باب بيته. يدخل ويترك الباب مواربا بانتظار ابنه، أطل على مدخل البيت وأرى فوق الستارة من الخلف علامات سوداء في أعلى الجدار كأنها آثار حريق )مثلاً( أو كأنها.... لا أدري، الآن بدأت أمسك أول الخيوط. كومة الرماد تحولت إلى خيوط سوداء فقط، نعم كان هناك حريق ولكن ربما ليس مقصودا. أعود وأنا غير قادر على الربط بين ما سمعت وما رأيت، أسمع حركة خلفي فالتقت، أرى ابنتهم الصغيرة تطل برأسها كانت بجديلتيها المعهودتين وعينيها اللامعتين مثل عيني عصفور وأنفها الأحمر الصغير يعطي وجهها شكل الأرنب، تلاقت عيوننا، ابتسمت لها، كانت على وشك الدخول إلى بيتهم قبل أن تخرج لي لسانها الأحمر ثم تبتسم بسخرية وتختفي، وأنا عدت إلى شارعنا أحدث نفسي بأن الصورة الأخيرة لوجه الأرنب أفضل للمخيلة من كومة الرماد.
وصلت شارعنا الصغير والهادئ وأنا أفكر بأشياء كثيرة، لماذا يحاولون ان يقتلوا أنفسهم؟! وتذكرت ان )منصور( كان مريضا نفسيا وأنه عانى كثيرا قبل ان يموت، ولكن هل مات حقاً؟ هل كان هناك حريق بالفعل،؟ كيف يحدث هذا وأخت منصور ما زالت تمارس عادتها بإخراج لسانها الصغير للمارة وتضحك؟
رأيت صديقي خالد يجلس على عتبة الباب الخلفي للجيران وقد شمّر عن ساعديه ورفع ثوبه إلى ما فوق ركبتيه، وبين يديه وفمه قطعة كبيرة من البطيخ يسيل ماؤها على وجهه، جلست بجواره حائراً قلت له الحكاية كاملة، وأضفت عليها مخاوفي وأسئلتي.. لكن خالد سألني:
من أخبرك بموت منصور؟
قلت له: هي قالت هذا.
سألني: من هي؟
أجبت: أختي
قال لي: اسكت، منصور مات في حادث آخر )ثم تلفت حوله(، سوف أخبرك فيما بعد.
كان خالد مرتبكا، وأنا بدأت أشك في أشياء كثيرة حولي، وبدأت أيضا انسج حكاية جديدة لموت الولد الشهير والمتمرد منصور، لكنها بالتأكيد سوف تكون بعيدة عن بيتهم الذي لم يتحول بعد إلى كومة رماد، وقريبة من وجه )الأرنب( الذي يبدو انني أحببته كثيرا وهذا يكفيني.
* جزء من نص قصصي جديد )هي قالت هذا(
ص.ب: 7823
الرياض: 11472
fahadateq@hotmail.com
|
|
|
|
|