| مقـالات
من العبارات الدارجة على الألسن ما يحشد في إيجاز التعبير البلاغي عن عاطفة الوالدين )الخاصة جدا( تجاه أبنائهم، ومن ذلك قولهم «أدعي على ولدي وأكره من يقول آمين»، و«لسان الأم يدعي وقلبها يستغفر»، و«قلبي على ابني انفطر وقلب ابني على حجر»، فالمدقق في هذه العبارات العربية الشائعة لا بد أن يدرك مدى حدب الوالدين على أبنائهم، حتى في أشد حالات الضجر من تصرفاتهم، وما دعاني أن أكتب لكم الآن من القاهرة في إجازتي، إلا أنه قد تكرر وقوع نظري على جرائم منشورة في الصحف، وفي برامج التلفاز، تمثل- مع الأسف- منتهى عقوق الأبناء لوالديهم، ويتساءل المرء: كيف يصل النكران بالأبناء إلى حد العدوان على من آثروهم على أنفسهم، لا في موقف بعينه أو في حالة مفردة، وإنما على طول مشوار الحياة، ففي عرف الأسوياء من البشر أن الأم قد تجوع ليشبع طفلها، وقد تنزع سوارها الذي ادخرته للزمن، كي تعطيه صاحب حاجة من أبنائها، يقيل بها عثرة أو يقضى لزوما، والأب قد يحرم نفسه من الكثير تنازلا لولده، قانعا بما دون ذلك لنفسه، يرضى بالقليل ويهب الكثير لأبنائه كي يعيشوا حياتهم على أفضل وجه يستطيع أن يوفره ولو على حساب نفسه، وإنما أضرب المثل بالماديات وهي أهم اختبارات العصر، أما الرعاية والمشاعر والعواطف الجياشة من الوالدين لأبنائهم فأكثر من أن تحصى. ولعل المعادلة الصعبة التي نقف جميعا حيارى تجاهها أن أبناءنا- وبناتنا بالطبع- عليهم أن يتخذوا ربما أصعب قرارات حياتهم في سن لا يكتمل فيها النضج، ففي مرحلة المراهقة يتعرض الشباب من الجنسين لمحطتين مصيريتين في حياتهم: الأولى مواجهة الثانوية العامة، المجموع والكلية، وفي هذه المحطة يكون الوالدان مدركين تماما خطورة الموقف ومحتشدين له، لكن في أحيان كثيرة يكون إدراك الأبناء واحتشادهم أقل، وكم من الأبناء والبنات الذين لم يعطوا هذه المحطة حقها من الكد والجلد، وضربوا بنصائح والديهم عرض الحائط، عضوا اصابع الندم، وقالوا- ولو في سرهم- ليتنا سمعنا كلامهم!
والمحطة الثانية التي يتوقف عندها قطار الشباب هي محطة العواطف والانجذاب الفطري بين الجنسين، وما يحيط بها من ضبابيات، فقد تعمى الأبصار حين تدق القلوب- الغشيمة- عن حقائق هامة في الطرف الآخر، وينساق الشباب كأنهم مسحورون، فإذا زال السحر وانصرفت الشياطين، أدركوا- ولات حين ندامة- ان معارضة الأهل كانت في محلها، وأن ليتهم استمعوا إلى نصحهم. هكذا يدرك الأبناء- متأحرا- مدى حدب الوالدين عليهم وصواب آرائهم في شؤونهم، وأن شيئا في الدنيا لا يداني تلك العلاقة التي فطر الله الخلق عليها، إنسانا وطائراً وحيواناً، منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة، وهي لا تحتاج أدلة، فالكون شاهد عيان عليها في كل زمان ومكان، لكن- وياللأسف- لا يدركها أبناء آدم إلا متأخرين، عندما يصبحون هم آباء وأمهات، يسبغون- في رضى- على أبنائهم من رحيق حياتهم، ويتمنون لهم من الخير فوق ما يتمنون لأنفسهم، ويكفي ان الوالدين)فقط( هما اللذان لا ينافسانك الحياة ولا ينافسانك خيرها، كيف وهما- بإرادة الله- قد وهباك الحياة! وفيك يرون امتدادهم، ويسعون جاهدين كي تحصل ما عجزت بهم المقادير ان يحصلوا.
على أنه في كل الأحوال لا بدلنا- معشر الآباء والأمهات- ألا نكل عن بذل الجهد المضاعف في تربية أبنائنا، مهما واجهنا من صعاب، ومهما اختلفوا معنا في النظرة إلى الأمور، حتى لو تعسفوا في الاختلاف، فالتربية اليوم مع ثورة المدينة الكاسحة قد أصبحت أشق مهام الحياة على الإطلاق، لكنها المهمة التي لا مفر منها ولا مناص.
وأستميحك- عزيزي القارئ- أن تجيزني عن الكتابة للأسبوعين القادمين، وإلى أن يتجدد اللقاء لك مني أجمل المنى.
|
|
|
|
|