أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 8th July,2001 العدد:10510الطبعةالاولـي الأحد 17 ,ربيع الثاني 1422

وَرّاق الجزيرة

من آفات النشر
كتاب منسوب إلى غير مؤلفه
د. خالد بن عبد الكريم البكر
البحث عن المخطوطات في مظانها، واقتنائها وقراءتها بشكل مهني صحيح، واعدادها للنشر اعدادا علميا جيدا، مستوفيا لشروط التحقيق العلمي، وملتزما بالمنهج العلمي المتبع في مثل هذا اللون من الدراسات، يعد من علائم اليقظة الفكرية العربية والاسلامية، ومن دعائم تجسير المسافة بين الأصالة والمعاصرة. ولا أظن أحدا من الباحثين وأهل العلم يتمارى في كون الجهود العلمية المبذولة في ميدان التحقيق، تصل ما انقطع في مفاهيمنا لبعض الفنون المعرفية عند المسلمين، وتكمل ما نقص في تصوراتنا عن جانب من جوانب العلوم، وتسد الفجوات الهائلة في ادراكنا بسبب غياب المادة العلمية اللازمة لبناء تصور منطقي واضح القسمات والملامح. أو هي بعبارة موجزة تساهم في عملية «إحياءالتراث الاسلامي» وحسبها شرفا ونبلا ان تكون كذلك.
لكن هذه الصورة المشرقة قد لا تكون حاضرة بالضرورة عند نشر كل مخطوط جديد، لاسيما إذا انتصب لمهمة التحقيق من لم يحسن استيعاب قواعد النشر العلمي، أو لم يعبأ بها. ويجسد العمل الذي قام به الدكتور محمد زينهم محمد عزب في نشره لكتاب «طبقات علماء أفريقية» للخشني)1(، مثالا واضحا على سوء التعامل مع المخطوطات وتشويه نصوصها، بل وحتى انتزاع المخطوطة من مؤلفها الأصلي ونسبتها الى آخر.
والواقع أننا لا ننوي القيام بمراجعة نقدية شاملة للعمل الذي قام به الأستاذ المذكور، ومن ثم اطلاع القارىء الكريم على حجم الضرر الفادح الذي لحق بالمادة العلمية للكتاب من جراء تداخل النصوص ببعضها، واضطراب المعنى في كثير من مواضع الكتاب، بسبب اهمال المحقق للكلمات التي وقع بها تصحيف أو تحريف، وقعوده عن اصلاحها وردها الى أصولها الصحيحة، ثم لغفلته عن الكلمات الساقطة وعدم اعتنائه باستكمال النقص من مصادر أخرى مشابهة، اغترفت من كتاب «طبقات علماء أفريقية» بكلتا اليدين. الى غير ذلك من السقطات الشنيعة، والتي لا أجد للمحقق الكريم عذرا ينجيه من تبعتها العلمية والأدبية، ولسوف نخصص لها فيما بعد دراسة مستقلة.
لكننا الآن بصدد محاسبة المحقق في نسبته الكتاب الى غير مؤلفه الأصلي، فقد أورد المحقق في مقدمته تعريفا مقتضبا لمؤلف الكتاب، ساقه ملخصا مما جاء عند السيوطي )2( والذهبي )3(، فذكر أنه:)أبوعبدالله محمد بن عبدالسلام بن ثعلبة القرطبي اللغوي صاحب التصانيف، ثقة كثير الشأن، يذكر مع بقي وذويه، طلب للقضاء فامتنع، ونشر حديثا كثيرا، مات سنة 286ه()4(.
ولنا وقفات عدة حول ما سبق، فمنها:
1- يتضح من الترجمة المشار اليها أعلاه ان صاحبها من علماء الأندلس المرموقين، لا سيما في مجال الحديث والنحو، فهو من قرطبة حاضرة الخلافة الأموية في الأندلس، وهو معدود في طبقة بقي بن مخلد المحدث الأندلسي ذائع الصيت. ولم يكن صوابا ما فعله المحقق حينما استقى الترجمة من مصادر مشرقية متأخرة ك«تذكرة الحفاظ» للذهبي، و«بغية الوعاة» للسيوطي، وأغفل الرجوع الى المصادر الأندلسية المبكرة، مثل )تاريخ علماء الأندلس( لابن الفرضي و«المقتبس» لابن حيان، و«جذوة المقتبس» للحميدي، فهذا خطأ منهجي بين.
2- لم يرد في المصادر الأندلسية أو المشرقية)5( على حد سواء أدنى اشارة الى ان محمد بن عبدالسلام الخشني )ت286ه( قد كتب مؤلفا في طبقات علماء أفريقية أو قريبا منه. ثم أليس من الغريب ان يتصدى عالم أندلسي للكتابة عن اقليم اسلامي آخر، لا تشده اليه روابط الولادة والمنشأة أو ذمام الاقامة وطلب العلم، وجل ما يعرفه عن أفريقية أنها محطة على طريق الرحلات الأندلسية الى المشرق الاسلامي؟.
وحتى على فرض ان محمد بن عبدالسلام الخشني كان يمتلك من التأهيل العلمي ما يسوغ له انجاز مثل هذه المهمة. أفلم تكن بلاده الأندلس أحوج من غيرها لجهوده العلمية، لاسيما وان الأندلس كانت خلوا من كتب التراجم والطبقات في القرن الثالث الهجري، فهو ميدان جديد وقتئذ، لم يرده الرواد بعد.
3- إذا كان محمد عبدالسلام الخشني المتوفى )286ه( - أي في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري - هو مؤلف كتاب )طبقات علماء أفريقية( حسبما قرر المحقق، فكيف يمكن تفسير العديد من الاشارات الواردة في تضاعيف الكتاب حول حوادث تاريخية وقعت في القرن الرابع الهجري، كاشارته مثلا الى الوباء الذي اجتاح أفريقية سنة )307ه()6(، أو ذكره لبعض الوفيات الكائنة في سنوات )310ه()7( و)316ه()8( و)318ه()9( و)325ه()10( و)328ه(، أو حتى تسجيله لبعض أخبار المجالس العلمية التي حضرها بنفسه في القرن الرابع الهجري، كقوله:«دخلت عليه سنة سبع وثلاثمائة»)11(، وقوله في موضع آخر:«لقيته سنة عشر وثلاثمائة وكتبت عنه حديثا كثيرا»)12(.
ولربما خطر في أذهان البعض ان المحقق كان واهما في ضبط سنة وفاة المؤلف، فلعله مات في القرن الرابع الهجري لا أواخر القرن الثالث الهجري.
والواقع؛ أنه لا يمكن افساح المجال لمثل هذه التكهنات، فمحمد بن عبدالسلام الخشني القرطبي قد توفي بالفعل سنة )286ه(، باجماع المصادر الأندلسية )13( التي ترجمت له. هذا من جهة؛ ومن جهة ثانية فإن مصدر الخلل الذي تورط فيه المحقق وساقه الى هذا الاستنتاج الخاطىء حول شخصية مؤلف الكتاب، يكمن في تشابه أسماء المؤلفين، بحيث يصعب أحيانا على غير المتخصص التمييز بينها بدقة ووضوح. فكتاب )طبقات علماء أفريقية( ليس لمحمد بن عبدالسلام الخشني، وإنما هو لخشني آخر، اسمه بالكامل )محمد بن حارث بن أسد الخشني المتوفى سنة 361ه وقيل 371ه(، ومع ذلك فإن الالتباس الحاصل في ذهن المحقق بسبب الشبهة في الاسم لا يطرح عن كاهله تبعة الاهمال والتقصير، إذ لو أن المحقق مد بصره قليلا في الصفحة الأولى من صفحات الكتاب الذي حققه لوجد العبارة الاستهلالية التالية:«قال محمد بن حارث:»)14(، وهذا تقليد علمي شائع في أسلوب التأليف عند المسلمين، فعادة ما يفتتح المؤلفون كتبهم بالاشارة الى أسمائهم على هذا النحو. ثم ان محمد بن حارث الخشني ليس نكرة في التراث الاسلامي، وإنما هو علم مشهور من أعلام الفكر والثقافة في الغرب الاسلامي، وقد ولد ونشأ بالقيروان، ثم غادرها الى الأندلس، وهو غلام حدث لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره)15(، وقد أشار ابن حارث الخشني الى خروجه من أفريقية في كتابه الماثل بين أيدينا.)16(.
لقد كان على المحقق ان يقرأ ترجمة ابن حارث الخشني في مظانها، ولو أنه فعل لأدرك ان ابن حارث الخشني قد امتاز بكتابة التراجم والطبقات، فأنجز عددا من المؤلفات المهمة في هذا الميدان، وصل الينا منها كتاباه:)قضاة قرطبة( و)أخبار الفقهاء والمحدثين( اضافة الى هذا الكتاب الموسوم:)طبقات علماء أفريقية(، والذي أشارت اليه مصادرنا)17( بعنوان: )تاريخ الأفريقيين( وذلك أثناء الحديث عن مؤلفات ابن حارث الخشني.
هذا ما يدعو الى القول بأن محقق الكتاب مقصر أشد التقصير في اهماله هذه المعلومات، وملوم في نشره للكتاب بصورة شائهة، حتى وان زعم في صفحة العنوان ان عمله عبارة عن:)تقديم وتحقيق وتعليق( فتأمل! .
الهوامش
)1( صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب سنة 1413ه/1993م عن مكتبة مدبولي - القاهرة.
)2( السيوطي، بغية الوعاة، ج1، ص160.
)3( الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج2، ص649.
)4( الخشني، طبقات علماء أفريقية، مقدمة المحقق، ص7.
)5( ابن الفرضي، تاريخ علماء الأندلس، ج2، ص648 - 650؛ ابن حيان، المقتبس، تحقيق محمود علي مكي، ص258ك؛ الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج2، 649؛ السيوطي، بغية الوعاة، ج1، ص160.
)6( الخشني، طبقات، ص55.
)7( المصدر نفسه، ص40.
)8( المصدر نفسه، ص45.
)9( المصدر نفسه، ص 39.
)10( المصدر نفسه، ص 46.
)11( المصدر نفسه، ص 36.
)12( المصدر نفسه، ص 37.
)13( ابن الفرضي، تاريخ، ج2، ص650؛ ابن حيان، المقتبس، تحقيق محمود علي مكي، ص261؛ الحميدي، جذوة، ج1، ص118.
)14( الخشني، طبقات، ص9.
)15( ابن الفرضي، تاريخ، ج2، ص802.
)16( الخشني، طبقات، ص37،47.
)17( عياض، ترتيب المدارك، المجلد الثاني، ص531.
جامعة الملك سعود - قسم التاريخ

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved