| شرفات
لويزا ألكوت رائدة في مجال الرواية الأمريكية وعلى الرغم من انها لم تكن ذات وعي حاد بضرورات الشكل الفني ولم تكن تفرق بين فن الرواية وأدب السيرة الذاتية، إلا أن البذور الأولى للفن الروائي كانت موجودة في أعمالها مثل الرسم الدقيق والحي للشخصيات، والتصوير المقنع للجو المحيط بها والسرد السلس المتدفق للأحداث، والحوار المناسب لتفكير الشخصية وثقافتها. من السهل ان نجد هذه العناصر عندها، ولكن من النادر ان نجد ربطاً دراميا بينها بحيث يؤدي إلى الوحدة العضوية الموضوعية التي يتميز بها الشكل الفني الناضج ولم تتعمد لويزا ألكوت كتابة الرواية كفن بقصد ووعي، ولكنها اتخذت منها مجرد مهرب من حياتها الشاقة الكئيبة. فكانت بالنسبة لها هواية بكل ما تحمله من عفوية وتلقائية غير خاضعة للمعايير الفنية المتفق عليها. ومع ذلك فهذا لاينقص من دورها الريادي في مجال الرواية فقد مهدت الجو والطريق لمن جاء بعدها من الروائيين وأوضحت لهم رواياتها بعض الأساليب الفنية في إدارة الحوار وخلق الشخصيات وتطوير السرد وغالباً مايتجاوز النقاد عن أخطاء الرواد الذين لابد لهم من الاعتماد على مبدأ المحاولة والخطأ وقد استفادت لويزا ألكوت أيضاً من قدرتها على قرض الشعر في خلق الجو الموحى في رواياتها وهذا يضيف إلى رصيدها الريادي في مجال الأدب الأمريكي بصفة عامة.
ولدت لويزا ألكوت في مدينة جيرمان تاون بولاية بنسلفانيا حيث يملك أبوها مدرسة ويديرها وكانت هذه المدرسة بمثابة المقر الذي قضت فيه لويزا شبابها وعلى الرغم من أنها تلقت تعليمها كله على يد أبيها إلا أن عقلها كان من النضج بحيث استقلت بتفكيرها وأصبحت لها نظرة خاصة في الحياة. وقد أوجد هذا عندها إحساساً بالذنب تجاه أبيها لأنها لم تجله الإجلال الواجب الذي يتلقاه من أخواتها ولم تكن حياتها مريحة اقتصاديا بل اضطرت إلى القيام ببعض الأعمال اليدوية الشاقة لكي تساهم في مصروفات البيت ولكي تهرب من هذا الجو الكئيب المحيط بها، لجأت إلى الكتابة التي وجدت فيها متنفسا مريحا لكل ما يعتمل في وجدانها من أفكار وصراعات وكان أول كتاب لها بعنوان «أساطير الوردة» الذي كتبته في السادسةعشرة من عمرها، ولكنه لم ينشر إلا عندما بلغت الثانية والعشرين.
في عام 1863 نشرت أول كتاب لها يحوز على شهرة بعنوان «لقطات من المستشفى» الذي اعتمدت في مادته على خطاباتها التي أرسلتها عندما خدمت كممرضة متطوعة في المستشفى العسكري بجورج تاون. وكانت الخطابات زاخرة بصور حية ونابضة لكل ما تقع عليه عيناها، ومن خلال هذا العمل استطاعت ان تتعرف على امكاناتها في السرد والوصف وهي الامكانات التي برزت عام 1869 عندما أصدرت أعظم عمل عرفت به، وهو روايتها «نساء صغيرات» التي جلبت لها الشهرة سواء داخل وطنها أو خارجه. وقد استمرأت نجاحها فاتبعتها بسلسلة روايات مشابهة. كانت كلها موجهة إلى أجيال الشباب أساسا، ومع ذلك كان لها جمهور كبير من الشيوخ والكهول من هذه الروايات «فتاة من طراز قديم» 1870 و «رجال صغار» 1871 و «حقيبة العم جو» 1872، و «أبناء العمومة الثمانية» 1875، و «تفتح الزهرة» 1876، و «تحت ظلال الزنابق» 1878، و «أبناء جو» 1886. وقد ماتت لويزا ألكوت في بوسطن في نفس اليوم الذي تم فيه دفن أبيها.
ومن الواضح ان المضمون الروائي عندها يعتمد أساساً على سيرتها الذاتية، وحياتها الخاصة. فرواية «نساء صغيرات» تتخذ من شخصيات عائلتها مادة للمواقف والأحداث، بينما تعتمد رواية «رجال صغار» على حياة أبناء أخواتها. وقد نافسها في مجال كتابة الروايات عن حياة الشباب روائي معاصر لها يدعى جاكوب أبوت، ولكنها كانت أكثر أصالة ودقة منه، بحيث عجز عن مجاراتها إلى نهاية الشوط. ومازالت بعض رواياتها رائجة تجاريا حتى الآن - وبعد مضي حوالي قرن من تأليفها - بل ترجم معظمها إلى اثنتي عشرة لغة وتحولت رواياتها «نساء صغيرات» إلى مسرحية ناجحة، وقدمتها السينما الأمريكية مرتين بنجاح كبير، ولذلك يجدر بنا أن نلم بها إلمامة سريعة حتى نتعرف على ملامح الفن الروائي عند لويزا ألكوت.
صدرت «نساء صغيرات» في جزأين: الأول عام 1868 والثاني 1869 وقد تحددت في عنوانها الفرعي بأنها رواية لصغار القراء. وكانت النساء الصغيرات كالآتي: ميج، وجو، وبيث، وإيمي. وقد كتبت هذه الأسماء مع العنوان الرئيسي. ولم يكن في نية لويزا أن تكتب هذه الرواية أصلاً لولا اقتراح توماس نايلز أحد الناشرين وأصحاب المطابع في بوسطن الذي أغراها بكتابة تاريخ عائلتها كما لمسته بنفسها في قالب روائي. وكان الاقتراح إيجابيا وبناء للغاية بحيث جلب الشهرة والثروة لها. وعلى الرغم من أن الفتيات الصغيرات كن الجمهور المقصود بالرواية، فإنها استطاعت ان تتغلغل إلى القراء الأكبر سناً، وأصبح كثير من مشاهدها ومناظرها من صميم الأدب الفولكلوري في أمريكا.
تدور أحداث الرواية حول أربع أخوات، لكل منهن وضع خاص وشخصية مختلفة، فالبطلة جومارش فتاة تميل إلى الحركات والتصرفات العنيفة، وترغب في شق طريقها ككاتبة. والأخت الكبرى ميج تتمتع بجمال ساحر أخاذ وتتمنى أن تعيش حياتها كسيدة صالون من الطبقة الراقية. أما بيث فهي فتاة تغطي وجهها حمرة الخجل وتهوى الموسيقى التي تخلق لها عالماً خاصا بها، بينما تأمل إيمي أن تصبح فنانة عظيمة مشهورة حتى تشبع نزعتها الأنانية المتفردة في إثبات ذاتها. وتبدأ خيوط النسيج الروائي في التشابك بدخول جارهم الشاب الثري ثيودور لورانس أو «لوري» كماكانوا يدللونه كان يرغب في الزواج من جو ولكن تشاء الظروف ان يتزوج من إيمي، بينما تتزوج جو من أستاذ جامعي كهل يدعى بهاير. ولم يكن للرواية شكل فني متكامل بحيث استطاعت المؤلفة ان تضيف إليها ملاحق جديدة كلما طرأ على بالها أفكار جديدة. كانت تظن ان لذة السرد الروائي هي متعة كافية في حد ذاتها للقارئ ولذلك يتوقف إنجازها الأدبي عند هذه الحدود . ولكن هذا لاينفي أنها مهدت الطريق للروائيين الأمريكيين الذين أرسوا تقاليد الرواية مع مطالع القرن العشرين.
د. نبيل راغب/ موسوعة أدباء أمريكا
|
|
|
|
|