| مقـالات
لا نعني بالصحافة، صحافتنا المحلية، لأن ذلك من البديهيات، ولكن نعني الصحافة العالمية والعربية والإسلامية، وما نورده من كل نوع، ما هو إلاّ نموذج فقط، لأن الحصر كثير ومتشعّب، كما حرصنا أن يكون ذلك النموذج مرتبطاً بمبدأ توحيد البلاد، حيث برزت مكانة الملك عبدالعزيز يرحمه الله بسياسته الفذّة، وحسن تصرفه الذي بهر بهما من حوله .. وهو الذي يعتبر دخوله معترك السياسة العالمية كان جديداً، لأنه نشأ في بيئة كانت ضعيفة الاتصال بالعالم الخارجي.. ولكنها توفيق من الله، وهبة ربانية، غير مصطنعة لا من مدرسة، ولا من ممارسات سابقة واحتكاكات بالآخرين ..
فقد أعانه الله على تخطي الأزمات العويصة، ويسّر الله له حل الأمور المنغلقة .. «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم» [المائدة 54]. وقد كتب عنه كثير من الصحفيين والمفكرين الغربيّين معجبين بشجاعته وحنكته..
يقول الكاتب الفرنسي «بنواميشان» في مؤلفه عن ابن سعود، بعدما مرّ بكلمته في عام 1926م الموافق 1345ه عندما دعا إلى عقد أول مؤتمر بمكة إسلامي.. فنشب خلاف حول الصدارة والأفضلية، وحول من يتولى إدارة الأماكن المقدسة، إذْ حسم الأمر، وقطع الخطّ على كل متقوّل، بكلمات قوية هي قوله:
لقد فتحت الديار المقدسة بإرادة الله، وبفضل قوة ساعدي، وولاء شعبي، فأصبح من حقي وحدي أن أتولى إدارتها، كدولة مسلمة حرّة، ليس لأنني أنوي فرض سيطرة شخصيتي على الحجاز، فذلك بعيد عن تفكيري، فالحجاز أمانة الله في عنقي، سأحافظ عليه بكلتا يديّ.
على هذه الكلمات قال الكاتب الفرنسي «بنواميشان»: إن الكلمات تعبر عن إيمان وثقة بالنفس لاجدال فيهما، إن من الصعب أن نتفهّم نفسية ابن سعود، إذا تجاهلنا طبيعة عقيدته الدينيّة، لقد نشأ في مدرسة والده الإمام عبدالرحمن، على التقيّد الصارم بتعاليم القرآن، إن الإسلام في نظره، يمثّل لباب الذهنية العربية، وهو النظام الذي لولاه، لغرق البدو في الفساد والفوضى، لقد قال يوماً للسير «برسي كوكس»: إني مسلم أولاً، وعربي ثانياً، غير أني دوماً خادم لله.
ولما كان ابن سعود، يجسد في ذاته شعباً، رفض دائماً أن يفصل بين الزمنية والروحية، فقد كان نشاطه السياسي والديني، يتمازجان إلى حد يتعذر عليه هو نفسه أن يميّز بينهما .. وعلام يميّز بينهما وكل منهما يدعم الآخر، فامتداد سلطانه، ونشر الدعوة، كانا في الواقع واحداً، وكان لمطامحه السياسية، وغيرته الدينيّة، اتّجاه واحد، وهنا تكمن قوته الكبرى. أ. ه.
والصحفي الإنجليزي: جوردون ماكنزي، يسجل ذكرياته في جدة، عندما وصل إليها في عام 1934م الموافق 1355ه للعمل بإحدى الشركات التجارية البريطانية، فيقول عن مهد الذهب ومنجمها: وقد استغل الرومان هذا المنجم، في أيام حكمهم، إلى أن عصفت بهم عوادي الزمن، فبقي مهملاً مهجوراً، مئات السنين، وكان سيظل عدة مئات غيرها، في زوايا الإهمال، لو لم يتفتّق ذهن جلالة الملك عبدالعزيز، بما هو معهود فيه من حذق وإدراك الحقائق، واهتمامه بشئون رعاياه، مع بعض من يستطيعون استغلال هذا المنجم لمصلحته.
كنت قد قرأت عن الحروب الجريئة الباهرة، التي أخضعت الشطر الأكبر من بلاد العرب، إلى سلطة جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود .. أما الآن فكان ينتظرني، أن أشاهد بعض جهود هذا العاهل الإداري القدير.
وقد تعرّفت عقب وصولي بمدير شركة منجم الذهب العربية السعودية، ورجالات موظفيها، وهي شركة إنجليزية أميركية، تعمل بمعاضدة جلالة الملك عبدالعزيز، وتشجيعه على تعدين الذهب في داخلية الحجاز، واليوم لا يدرّ هذا المنجم ريعاً طيباً، على البلاد العربية السعودية فحسب، بل إنه قد أدَّى إلى استخدام كثير من العرب، وإلى تجديد بناء ثغر جدة، وتشييد طريق جديد جيّد، إلى داخلية البلاد.
ومن بين من قابلتهم، جماعة من علماء طبقات الأرض، «الجيلوجيا» الأمريكيين، الذين وفدوا للعمل في آبار بترول الأحساء، بشرق بلاد العرب، وهذا مشروع آخر يدين بأكثر الفضل إلى حصافة عاهل العرب الملك عبدالعزيز، واهتمامه الرشيد، وهو مشروع كان وقتئذ في دور المهد، كما يدل على ذلك، وجود هؤلاء العلماء المنقّبين، ولكنه عثر بعد ذلك، على كميات كبيرة من زيت النفط، فاستفاد أهالي البلاد العربية السعودية مرة أخرى، وأصبحوا اليوم، يجنون خيرات ما أفاضته عليهم، سياسة حكومتهم الرشيدة، بتوجيه وحنكة الملك عبدالعزيز، من زيادة الدخل.
ثم ختم انطباعاته مدة إقامته في العمل بقوله: وصفوة القول: أن إقامتي القصيرة، بمدخل بلاد العرب، كانت مفيدة، وفي بعض الأحيان بهيجة، وقد صحّ معظم أفكاري، التي كونتها عن هذه البلاد، من قراءتي كتاب «أوتي» وأدركت مبلغ خشونة هذه الأرض، التي أنبتت هذا الجنس العربي العجيب، كما أتيح لي أن أقف على بعض المسائل التي استطاع عاهلها العظيم، عبدالعزيز بمقتضاها، أن يتغلب على أصعب الصعوبات، وأعقد المشكلات بعزم أكيد، وحزم شديد.
وفي عام 1348ه كان غلام رسول مهر، وهو من علماء الهند الكبار عندما كانت شبه القارة الهندية تشمل الهند وباكستان وبنجلاديش وله شهرة عظيمة في بلاده أدبياً وعلمياً، فكان من بين الحجاج، وقد كتب في ذلك كتاباً تُرجم إلى اللغة العربية، باسم: يوميات رحلة في الحجاز .. وكان معجباً هو وكبار الحجاج بالملك عبدالعزيز، ومما قاله عنه: بعد دقائق بدأ السلطان المعظم في إلقاء خطابه، وبعد أن تلا قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم».. بدأ في شرح كلمة التوحيد، ثم شهدنا قوّة بيان السلطان، وما يتمّيز به من سحر خطابي، وحماسة ومحبة للإسلام، ولمدة خمس دقائق، غرق خمسمائة حاج، من مختلف شعوب الأرض، في أمواج هذا السحر الحلال، الذي نتج عن براعة السلطان الخطابية.
أوضح السلطان وبيّن عقيدته، وقال: نحن نسلّم ونؤمن بالقرآن والحديث، وإرشادات الصحابة، واجتهادات الأئمة الأربعة، ونسلّم بهذه كلها بترتيبها، فما جاء فيها فهو على العين والرأس، ولا نتبع غير هذا.
وفي نهاية الخطاب أكّد السلطان على قضية اتّحاد المسلمين، وكرر أكثر من مرة قوله: «لا بقاء للمسلمين بدون الاتحاد، لا بقاء للمسلمين بدون الإتحاد» وقال أيضاً: «إن الناس يخوّفونني من أوروبا، أنا لا يهمني أي شيء في هذه الدنيا، ولا يمكن أن أخفض رأسي لغير الله تعالى، وحين ذكر السلطان رسول الله قال: اللهم صل وسلم عليه.
واستمر هذا الخطاب المؤثر مدة ساعة تقريباً، وبدا السلطان وكأنه عالم دين متمكن تماماً، يعرض للناس حقائق التوحيد، بطريقة مؤثرة، وفي النهاية عبر السلطان عن تواضعه الجم بقوله: أنا لست رجلاً متعلماً، بل أنا مجرد بدويّ، وربما لا أستطيع أن أقرأ عدة آيات من القرآن بطريقة صحيحة، لكن الله تعالى أعطاني منصب الحفاظ على التوحيد: أولادي وبيتي، وأهلي وقومي، وبلدي هؤلاء جميعاً، سيضحّون في هذا السبيل، وأنا سوف أضحّي بنفسي دون تردد، ولكنني لابد أن أتمّ مهمتي، التي يفرضها عليّ منصبي.
وبعد أن انتهى السلطان من خطبته، ارتفعت الأصوات بالدعاء له والشكر لله.
ثم أثنى على الملك عبدالعزيز، كما أثنى عليه كبار الحجاج، واهتمامه بتيسير الحج وخدمة الحجاج، وقد أشار لاحتراق سفينة فرنسية قرب ميناء جدة، وعليها حجاج، واهتمام السلطان عبدالعزيز بذلك، ومما قاله عنه: وحين علم السلطان بذلك الحادث، أمر في الحال، بوقف جميع المراكب لخدمة الحجاج ومساعدتهم، وفي اليوم التالي، تم إنزال جميع الحجاج، من مختلف السفن على الساحل، وقدمت حكومة السلطان عبدالعزيز لهم الطعام والشراب، وأعطت كل حاج مساعدة مالية قدرها 15 ريالاً «يساوي عشرين روبيه فضيّة»، ثم تمّ ترحيلهم إلى بلدانهم.
ويذكر جون.س. حبيب في كتابه.. الإخوان السعوديون في عقدين 1328 1349ه، أن ابن سعود قد رعى حركة إصلاح الإخوان، غير ملقٍ بالاً للنصيحة التي أسداها إليه العديد من المستشارين والثّقات المقربين، ولكن ابن سعود خطّط ليكونوا بمثابة طليعة قواته العسكرية، التي وحّدت شبه الجزيرة باسمه. ولكن ذلك لم يتحقق إلاّ بعد سلسلة من المشكلات، وفترة من الصراع لم يتأكد طولها على الإطلاق..
ثم يقول: وحلاً لمشكلة الكسل والعطالة. أوفد ابن سعود إليهم رهطاً من المعلمين الدينيين، والدعاة الآخرين، وأبلغ هؤلاء المعلمون والدعاة، الإخوان أن الزراعة، والحرف والتجارة والصناعة، لا تتعارض مع الإسلام، وأن المسلم القوي، خير من المسلم الضعيف، وأن الإسلام يشجع على جمع الثروة، والممتلكات عن طريق العمل، وفي النهاية سلّم الإخوان بذلك التفسير.
ونقلاً عن الريحاني: فإن بعض مستقرات الإخوان فاقت من حيث الزراعة والصناعة المدن والقرى المستقرة القديمة، صاحبة الخبرة الأكبر، .. وحلاً للمشكلة الشائكة المتمثّلة في موقف الإخوان، من القبائل والقرويين، دعا ابن سعود لعقد مؤتمر للعلماء في العام 1919م الموافق لعام 1338ه، وعرضت على العلماء في ذلك المؤتمر خمس مشكلات أساسية، على شكل استفسارات طلب إليهم أن يقولوا رأيهم.
وفي موضع آخر، بعد استعراضه لنماذج من مواقف الإخوان قال: ومع احترامنا للإخوان: فلولا حنكة ابن سعود، وبعد نظره للأمور، لدخلت حركة الإخوان مرحلة الفوضى، وأخذت تنشر الدمار.. محطمة بذلك الكثير من المكاسب التي حققها إن لم يكن كلها ، وقد استطاع ابن سعود بمهارته وحنكته، وبعد نظره، وبدون متاعب خطيرة، ألاّ يسمح للإخوان قطّ، أن يلزموه بطريقة عمل يمكن أن تؤدى إلى كارثة في النهاية، حيث نجح في مقاومة محاولات الإخوان التمييز بين المهندسين الجدد، الذين كانوا يعيشون في الهجر، والسكان الآخرين الذين لايعيشون في الهجر.
والمسلم المجري الصحفي، الذي سمى نفسه بعد اسلامه محمد أسد، يقول في كتابه: الطريق إلى مكة بعد أن أطرى الملك عبدالعزيز كثيراً، وأعجب بأعماله وبعد نظره، وتحدّث معه في أمور متعددة: وبلغ توسع ابن سعود الذروة في عامي 1924 1925م الموافق 1343 1344ه، عندما فتح الحجاز، بما فيه مكة والمدينة وجدّة، وبضمه هذه الأرض المقدسة، ظهر ابن سعود ظهوراً كاملاً أمام أنظار العالم الخارجيّ، وكان عندئذٍ في الخامسة والأربعين من العمر.
لقد ملأ ابن سعود عند وصوله إلى هذه المرتبة، بصورة لم يسبق لها مثيل، وفي وقت كان معظم أقطار الشرق الأوسط، يستسلم فيه لتوغّل النّفوذ الغربي، أقول ملأ وصول ابن سعود، إلى الحكم، العالم العربي بالامل، في أنه قد جاء أخيراً زعيم وقائد عربي، يخلص الأمة العربية كلها من عبوديتها، وتطلّعت اليه جماعات اسلامية عديدةو من غيرالعرب لإحياء الفكرة الإسلامية بأكَمل معانيها، وذلك بإقامة دولة، تكون فيها الكَلمة العليا، لروح القرآن وحده.
إن ابن سعود رجل عادل، ومنصف في أموره الخاصة، مخلص لأصدقائه ومؤازريه، وكريم نحو أعدائه، وذو مواهب عقلية، أرفع كثيراً من مستوى معظم أتباعه، ثم يقول عن صفاته التي برزت أمامه:
إنه بسيط متواضع، ذو همة كبيرة على العمل، ولكنه في الوقت نفسه ينهمك.. ومتديّن وينفذ بالحرف، كل الأوامر والنواهي الشكلية في الشريعة الإسلامية.. ويؤدى فروض الصلاة الخمسة في أوقاتها تماماً، ويقضي الساعات الطوال في التهجد،.
أما خير الدين الزركلي، العربي الذي أعجب بالملك عبدالعزيز، ولازمه فترة من الزمن، والّف عنه كتابين: شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، والوجيز من سيرة الملك عبدالعزيز فينقل انطباعات من رأوا الملك أو قابلوه من الغربيين خاصة، والعرب والمسلمين عامة، ومن ذلك ما قاله الرّحالة «إلدون روتر» في وصف زيارته للملك عبدالعزيز في شهر يوليو عام 1925م الموافق لعام 1343ه، فهو يقول: إن هذا الأسد الذي خاض كثيراً من المعارك الصحراوية، والسيد الأعلى لأكثر من نصف سكان الجزيرة العربية، يتكرر نهوضه واقفاً لزواره حين يتقدمون للسلام عليه، سواء كانوا أمراء أم دراويش..
وعن كرمه وهداياه، فقد ذكر أن السفير البريطاني أقام حفلة للوصي على عرش العراق ذلك الوقت وكان من حديث زوجة السفير، أنها كانت في لندن وحينما عاد المستر تشرشل من زيارته للملك عبدالعزيز في الفيوم، وأن تشرشل أراد أن يلبس الغترة والعقال التي كانت ضمن هدية الملك عبدالعزيز له فساعدته على ذلك، لأنها متمرنة في تلبيس ابنها الملابس العربية أحياناً بمصر.. وقالت: إنها ادركتها الغيرة حينما رأت بنت تشرشل تلبس الملابس العربية، التي أحضرها لها أبوها في جملة هدايا الملك عبدالعزيز.. ولما رجعت إلى مصر، كان أول سؤال ألقته على زوجها: هل حفظت لي من هدايا الملك عبدالعزيز يوم كنت في زيارته مع المستر تشرشل.. مثلما حمل هذا إلى ابنته؟. فأجاب بالنفي. قالت: واشتدّ أسفي لأني لم أكن في مصر، أيام استراحة الملك عبدالعزيز فيها، بعد مقابلته للرئيس روزفلت. وقد بلغ هذا الحديث الملك عبدالعزيز في الرياض على سبيل الفكاهة.. فكتب له وليوسف ياسين يقول: تذاكروا في الموضوع، وشوفوا ما هو الشيء المناسب للصوفة التي تقدّم لزوجة السفير وأخبرونا..
هذه بعض ما انطبع في نفوس الغربيين عن الملك عبدالعزيز، أما السياسة وقوة الشخصية والاراء السديدة فهذه اكثر من أن تذكر، وأشهر من أن تعدّد..
قبّح الله جمالا لا ينفع:
جاء في مجمع الأمثال: أن عثمة بنت مطرود البجليّة، كانت ذات عقل ورأي مستمع في قومها، وكانت لها أخت يقال لها: خَوْد، ذات جمال ومبسم وعقل، ثم إن سبعة أخوة من الازد خطبوا خود إلى أبيها، فأتوه وعليهم الحلل اليمانية، وتحتهم النجائب الفُرّه، فقالوا: نحن بنو مالك بن غُفَيْله. فقال لهم: انزلوا على الماء، فنزلوا ليلتهم، ثم أصبحوا غادين في الحلل والهيئة، ومعهم حاضنة لهم كاهنة يقال لها: الشعثاء، فمرّوا بفنائها يتعرّضون لها، وكلهم وسيم جميل، وخرج أبوها فجلسوا إليه، فرحّب بهم، فقالوا: بلغنا أن لك بنتاً، ونحن كما ترى شباب، وكلنا يمنع الجانب، ويمنح الراغب، فقال أبوها: كلكم خيار، فأقيموا حتى نرى رأينا، ثم دخل على ابنته فقال: ما ترين؟ فقد أتاك هؤلاء القوم، فقالت: زوّجني على قدري. ولاتشطط في مهري، فإن تخطئني أحلامهم، فلا تخطئني أجسامهم، لعلي أصيب ولداً، وأكثر عدداً.
فخرج أبوها، فقال: أخبروني عن أفضلكم؟. قالت حاضنتهم الشعثاء الكاهنة: اسمع أخبرك عنهم، هم إخوة وكلهم أسوة، أما الكبير فمالك، جرىء فاتك، يتعب السنابك، ويستصغر المهالك، وأما الذي يليه فالغمر، بحر غمر، يقصر دونه الفخر، نهد صقر، وأما الذي يليه فعلقمة، صليب المعجمة، منيع المشتمة، قليل الجُمْجة، وأما الذي يليه فعاصم، سيّد ناعم، جَلْد صارم، أبيّ حازم، جيشه غانم، وجاره سالم، وأما الذي يليه فثواب سريع الجواب، عتيد الصواب، كريم النصاب، كليث الغاب، وأما الذي يليه فمدرك، بذول لما يملك، عزوب عما يترك، ويفنى ويُهْلكِْ، وأما الذي يليه فجندل، لِقْرنه مجدِّل، مقلٍّ لما يحمل، يعطي ويبذل، وعن عدوّه لاينكل.
فشاورت أختها عَثْمه فيهم، فقالت: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدّخْل، اسمعي مني كلمة: إن شرّ الغريبة يعلن، وخيرها يدفن، تزوجي في قومك، ولا تغررك الأجسام.
فلم تقبل منها، وبعثت إلى أبيها زوجني مدركاً، فتم ذلك على مائة من الإبل ورعاتها، وحملها مدرك، فلم تلبث عنده إلاّ قليلاً، حتى صبّحهم فوارس، من بني مالك بن كنانة، فاقتتلوا ساعة، ثم انكشف عنها زوجها وإخوته وعشيرته، فسبيت فيمن سبي من النساء، فبينما هي تسير بكت، فقالوا: مايبكيك؟ أعلى فراق زوجك، قالت: قبّح الله جمالاً لا نفع معه، إنما أبكي على عصياني أختي في قولها: ترى الفتيان كالنخل، ومايدريك ما الدخل؟ ثم أخبرتهم كيف خطبوها.
فقال لها رجل منهم يكنى أبا فراس شاب أسود عظيم الفم، مضطرب الخلق، أترضين بي على أن أمنعك من ذئاب العرب؟. فقالت لأصحابه: اكذلك هو؟ قالوا: نعم إنه مع ماترين ليمنع الحليلة، وتنقيه القبيلة.
قالت: هذا أجمل جمال، وأكمل كمال، قد رضيت به.. فزوّجوها منه )مجمع الأمثال 1:90(.
|
|
|
|
|