| الثقافية
«دموع من القلب» مسرحية مثلت على خشبة مسرح الادارة العامة للتعليم بمنطقة حائل مساء يوم الثلاثاء الموافق للحادي والعشرين من صفر 1422ه والخامس عشر من مايو عام 2001م في ذكرى نكبة فلسطين بعد مرور ثلاثة وخمسين عاماً على اغتصاب ارضها وتشريد شعبها، وفي اطار الحفل الختامي لمدارس المنطقة برعاية سعادة المدير العام للتعليم بالمنطقة الدكتور رشيد بن فهد العمرو.
مؤلف المسرحية الأستاذ كمال الدسوقي وهو مخرجها أيضاً ويعمل مشرفاً مسرحياً في الادارة العامة للتعليم في منطقة حائل، وأشرف عليها الدكتور عبد الله طلق العنزي اشرافاً عاماً والأستاذ علي العريفي ادارياً وساعد المخرج الأساتذة سعود المحيفر وراضي عصام وعيد الشمري، وأما الديكور فنهض به الأستاذان صالح الزيدان ومحمد ابراهيم، وأما الأثاث فكان للأستاذين عاطف الشاعر ولبيب عبد الصادق وقام على الإدارة المسرحية الأساتذة يوسف السعدون ومحمد العنزي ومسعد السويدي وقام بالتمثيل الفرقة المسرحية النموذجية بالمنطقة.
** وواضح من عنوان المسرحية ان موضوعها «مأساة فلسطين: قادة الصهاينة من الحرس القديم يرددون «غداً يموت الكبار وينسى الصغار» ولذا بالصغار يرضعون لبن المأساة ويشبون على ايقاعها، وينخرطون في صفوف المناضلين المجاهدين وأمضى عزيمة، يسلمون الراية لمن بعدهم، فكانت انطلاقة عام 1965 ثم مقاومة عام 1967 ثم معارك السبعينيات والثمانينيات ثم انتفاضة عام 1987 ثم استراحة المحارب فانتفاضة عام 2000 لتدحض تلك المقولة الزائفة، فلم تجف الدموع يوماً، ولم يتوقف شلال الدم، وامتلأت القلوب بالحسرات، ولكن الأمل ظل يانعاً، ولن تموت أمة ترفع راية الشهادة.
ومسرحية دموع من القلب تأتي في سياق يتجاوز المناسبة التاريخية الى طرح رؤية مزدوجة فكرية تربوية في اطار فني ينهض على بنية جمالية متعددة المستويات، وهنا يأتي المنطق المعماري منسجماً مع الموقف الفكري فالمسرحية ذات ثلاثة أبعاد في بنيتها الكلية:
البعد الملحمي: الذي يقوم على السرد والنشيد، وهنا يكمن المنظور التربوي الذي يقدم المعرفة في صياغة مهارية تتوخى استمالة المتلقي وامتاعه والتأثير فيه واقناعه فضلاً عن تعليمه، ومن أجل هذا يخرج السرد عن قناته الرئيسية ممثلة في الرواية الى التوسل بالنشيد وان كان للنشيد دوره المتميز الذي يرسخ المعرفة، ويكرس الرؤية، ويعمق الاحساس الوجداني، وتوزيع الرواية على عدد من الممثلين الذين ينهضون بهذا العبء فرادى في اتساق مدروس، ولقد تجاوز النشيد مجرد ترديد الشعارات الى تكريس القناعات.
واذا كان ثمة فصل بين دور الكورس المنشد والأفراد الساردين «الرواة» فان هناك تكامل منسق بين الفريقين، وعلى الرغم من بروزعنصر الاستعراض والفرحة، فانهما يظلان منضويين تحت جناح «الرؤية / الموقف» الذي يهدف اليه العمل المسرحي دون طغيان هذا العنصر أو ذاك، فالفرجة في نهاية المطاف هي في خدمة الموقف الكلي للمسرحية.
** أما البعد الثاني وهو البعد الدرامي «الواقعي» الذي ينقل الوقائع على الأرض الى خشبة المسرح، ولكن ليس على نحو محايد بل عبر موقف منحاز وطنياً وانسانياً ودينياً، فالقمع الذي يتعرض له الأطفال الفلسطينيون، ولعبة القوة الغاشمة التي ينهض بدورها الجندي الإسرائيلي في المشهد تتضح عبر الحوار، وهو حوار محدث فيه شيء من الاختلال ناجم عن الاندفاع الشديد نحو الانتصار للمظلوم ضد الظالم حيث تتم صياغته بلهجة خطابية تتجاوز واقعية المشهد الى فلسفة الخطاب، فيطغى هذا الخطاب بمضمونه على تقنيات التمثيل المسرحي، ويصبح دعوة مكشوفة مكتظة بالشعارات والمهمات لهذا الطفل يحاور الجندي الاسرائيلي متحدياً بلهجة قوية وأسلوب يعلو على المستودى الإدراكي والطاقة الاستيعابية، حيث ينهي المشهد بإطلاق النار على الطفل الذي يظل مسجى على المسرح فترة طويلة، ويجمد المشهد على هذا النحو ويظل حضوره العيناني بادياً طيلة ماتبقى من المنظر التاريخي.
اما البعد الثالث فيتمثل في التوظيف التاريخي حيث يظهر الامير الذي يحاور قائداً عربياً بملابس تاريخية قديمة، يبرز هذا المنظر فجأة على خلفية المشهد السابق، ويحرص «المؤلف المخرج» على تجريد شخصية الامير بحيث تمثل الموقف التاريخي الاسلامي المتسلح بالقيم الرافضة للذّل والاستسلام والاذعان، وتبدو هذه الشخصية وكأنها رمز لعصر السيادة والعزة والانتصار حينما كانت الامة في اوج ازدهارها؟ وعلى الرغم من ان القائد العربي يعتمد الخوذة العربية التقليدية القديمة ويبرز كواحد من القادة القدماء فانه يتحدث بلسان «السياسة العربية المعاصرة» متبيناً موقف المؤيدين لمحادثات السلام المدافعين عن الرؤية المعاصرة لاقادة السياسيين ويدور حوار مباشر حول العملية السلمية فتجد الموقف المعارض حيث الدعوة الى الاعتصام بالموقف العربي الاسلامي الرافض التعامل مع الصهاينة والموقف الآخر الذي يتبنى المناورة السياسية السلمية كموقف تكتيكي ينسجم مع ما عرف من ان السياسة فن المملكة وهنا تبرز شخصية الشيخ العجوز الذي يتوشح بالعلم الفلسطيني ويتشبث بمقولات الامير العربي المسلم مخاطباً إياه بعبارات تثمن موقفه وتدعو العالم العربي الى الوقوف معه وهو يبحث عن اطفاله ومن الواضح ان هذا الشيخ العجوز يمثل رمزاً للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية؟ اما تمثيله للشعب فعبر منظومة القيم التي تدل عليها اسماؤهم «ولاء، وإباء، وصمود، وجهاد» الذين يبحث عنهم.
أما دلالته على القضية فتتمثل في شيخوخته وكبرسنه حيث عايش القضية من بداياتها وادرك ابعادها وعركته المحارب واكسبته حكمة، ومن هذا المنطلق يتحاور مع الامير العربي مؤمناً على قوله متفقاً معه في تحليله للصراع.
وهكذا تتداخل الابعاد الثلاثة في شخصه: البعد الملحمي الدرامي المواقعي والرمزي التاريخي.
وتأتي الخاتمة التي احرق فيها العلم الاسرائيلي قفلة موفقة دالة اعلاميا وتربويا، والهدف الاعلامي ضروري في مثل هذا النوع من الاعمال المسرحية التي تقدم في سياق هذا المنعطف الحاد من تاريخنا المعاصر.
ولابد من الاشارة الى ان العنصر التاريخي في المسرحية غير موظف على النحو التقليدي في المألوف حيث لم يلجأ المؤلف الى شخصية معروفة او الى وقائع محددة يعيد ترتيبها، او يصوغ تفاصيلها من جديد بحيث تكون دالة، بل اتى التاريخ هنا مجردا من بعده الوقائعي وحتى الزمني ليتم التركيز على البعد القيمي المجرد، وربما يثير اسلوب اقحامه في هذا المشهد تساؤلا «ما» حول الشرعية الفنية التي تم بها على هذا النحو دون ان يأتي في شكل حلم عبر مؤشرات صوتية او ضوئية او ديكورية، ولعل العذر واضح، فجمهور المسرحية يدرك من خلال تكوينه الثقافي والنفسي المغزى من هذا المنظر، فالمسرحية ذات بعد تربوي تعليمي ولهذا يبدو من غير المفيد الوقوف طويلا عند مسألة التوظيف فيما يتعلق بالمشهد الحواري بين القائد والأمير، فاستخدام الاعلام كان وسيلة ناجحة أبرزت المغزى الذي أراده المؤلف وابرزته، المسرحية منطقها الخاص، وقد التقت العناصر الموظفة مع هذا المنطلق دون افتعال.
وقد كانت لغة المسرحية التي تجلت في شعرية النشيد ذات سمات «شعارية» تكرّس الثوابت في منظومة القيم التي تتبناها الأمّة في هذا الموقف التاريخي من قضية الصراع مع العدو في بعده الديني والانساني حيث اخذ طابعا سردياً في الجزء الذي ردّده الرواة وبدا ذا سمات خطابية في الحوار وتأتي هذه السمات منسجمة مع طبيعة المواقف الحوارية وهي مواقف صدامية تفرض ارتفاع وتيرة الصوت وبروز نزعة التحدي والتمسك بالثوابت عبر القاء انفعال يحتم ظهور السمات الخطابية خصوصا في الحوار الذي اداره المؤلف بين الجندي الاسرائيلي والطفل الفلسطيني بينما كانت اللغة متفاوتة الحدة تتراوح بين منطقية الصياغة وفكرية المحتوى وانفعالية الطرح في الموقف الحواري الخاص بالقائد والامير.
** واذا كان ثمة من يعترض على مستوى اللغة وتماثله في المسرحية اذ تتساوى لغة الطفل والشيخ والقائد والكورس فانه في مثل هذا النوع من المسرحيات التربوية التي تصاغ بالفصحى لا يطلب من المؤلف ان يبرز خصوصية اللغة عن كل شخصية من الشخصيات في المسرحية بما يناسب مستواها فهذا امر غير ممكن خصوصا وان الطابع الاجتماعي والمغزى الوطني والديني يقتضي التركيز على الحقيقة الانسانية للشخصية بالاضافة الى المحتوى الرمزي والدلالي لها ولا يجوز اعتبار انما تقوله كل شخصية هو تجسيد لما يحدث في الحياة فليست واقعية لفظية بل واقعية انسانية عقلية ووجدانية وفكرية في اطار وطني.
اما فيما يتعلق بالتمثيل فان المهم هنا العناصر الثلاثة التي يقوم عليها التمثيل الفهم والحركة والالقاء ومن الواضح عبر المهارة البارزة في الاتقان الكامل للغة الحوار والنشيد والرواية حيث لوحظ ان لغة النطق كانت سليمة نحويا وسلسة ومتدفقة لم تشبها شائبة للعتمة او التردد او الخطأ النحوي ان الممثلين على اختلاف مستوياتهم الثقافية والعمرية قد فهموا النص فهما كاملا وفهموا ادوارهم ولذلك لم يكونوا يتحركون كدمى بل اوضح اندماجهم في مواقعهم وانفعالهم بها هذا الاتفان للغة والالقاء والانتقال السلس للادوار بين الممثلين الصغار الذين تولوا عملية الرواية وكانت عملية الالقاء مصحوبة بحركة مقتصدة دون افراط بل ان احد الراوين الاماميين كان لا يتحرك الا بمقدار ضئيل جدا فكان القاؤه على الرغم من لغته المتقنة بلا حركة ملموسة والاقتصاد في الحركة اثناء عملية القص مطلوب لان التركيز على الاخبار وهو جانب معرفي ربما تشوش عليه الحركة المفرطة كذلك فان الانفعال لم يكن باديا في حركة الممثلين على نحو ثابت بل كان جليا واضحا في طريق الالقاء وفي الاداء الصوتي وكان الشيخ والامير بحكم دوريهما الاكثر انفعالا من خلال الحركات التعبيرية وخصوصا الشيخ الذي كان قد هبط من المسرح وتوجه بالحديث الى الجمهور وعلى الرغم من اختفاء وجهه تحت اللحية المستعارة فانه حاول توظيف حركة عينيه وبعض عضلات وجهه في التعبير عن موقفه الوجداني وكذلك بالممثل الذي قام بدور الجندي الاسرائيلي محمد فاضل والي حيث نهض بعد تمثيل كبير اتقنه اتقانا ملحوظا عبر حركه الانفعالية الدائرية والقائه فترة طويلة في وضع معبر تحمله صابرا دون ان يبدي حراكا وسيطر على الموقف باتقان سواء من خلال الالقاء او المهارة الحركية وكذلك بقية الممثلين وهم من الطلاب فقد كان اختيارهم موفقا الى حد كبير.
** وليس من شك ان للمخرج دورا حاسما فيما يتعلق بحركة الجسم فهو الذي يحددها بشكل عام وان كان الممثل هو المسؤول عن تقدير نسبها وكذلك ابرازها بشكل طبيعي او مفتعل وهذا يرجع الى مهارة الممثل وقدرته على الفهم وحسن التقدير فالحركات والسكنات ينبغي ان تكون مدروسة لانها وسيلة من وسائل التأثير على الجمهور وقد نجح الممثلون كما اسلفت في اتقان هذه الحركة.
والمونولوج او ما يشبهه كان حاضرا في هذه المسرحية على لسان الشيخ ، ويفترض ان يكون المونولوج في العادة خطابا للنفس، وهو هنا خطاب للآخر في غياب هذا الآخر، لذا يبدو هذا الخطاب مونولوجا أو شبيها في بداياته وان تحول مع الأمير، وخطاب منفرد، وحوار من جانب واحد في حديثه الى الجمهور، وليس من شك في ان الخطاب المنفرد المونولوج « في بداية الدور» كان من أصعب المقاطع الحوارية ولكن الممثل استطاع ان ينقذه من الافتعال والمباشرة والتسطح بحسن أدائه وبصبره وتدفقه واتقان الحركة أثناء الأداء، ومن المعروف أن أشق الأدوار من ناحية الالقاء هو «المونولوج».
كذلك فإن تأدية دور الاستشهاد أثناء عملية اطلاق الرصاص من الجندي الاسرائيلي كان مفصلا حرجا في التمثيل، غير ان السرعة والخفة والعفوية التي تم بهاالمشهد، أنقذت الموقف من الافتعال واثارة سخرية المشاهد الذي بدا مندمجا تماما مع المسرحية.
أما فيما يتعلق بالاخراج فإن كون المخرج مؤلفا في نفس الوقت أسهم في نجاح عملية الاخراج، فضلا عن ان المشرف المسرحي الذي قام بدور التأليف والاخراج الأستاذ كمال الدسوقي محترف معروف وموهوب وانجازاته في هذا المجال مشهورة، فمسألة فهم المخرج للرواية التي هي قاعدة انطلاق ضرورية محسومة، وكذلك طريقة استخدام المخرج للوسائل المسرحية المختلفة بعامة والضوء والمناظر بخاصة. وقد أختصر المخرج المناظر بحسن ادارته لحركة الديكور حيث أبقى على الجزء الأساسي ممثلا بمسجد قبة الصخرة المشرفة وأروقته ثابتاً وهو يستلزم جهدا في انشائه وتصميمه، وجعل اللوحة الدالة على الحارة الفلسطينية بمساكنها ومنشآتها العمرانية ذات الطابع الخاص في مدينة القدس متحركة عبر شريط متحرك يسهل التعامل معه بخفة وغير ملحوظة، ولذلك كانت المشاهد متصلة، وذلك بحسن استثمار قاعدة المشاهدين أيضا وتحويلها الى عمق للمسرح أسهم في خدمة المشاهد، كما ان القاء عبء الكثافة المشهدية التي كانت تتطلب طاقة ضخمة من أجل اعداد المشاهد وتغييرها على عاتق الممثلين الرواة الذين تميزوا بملابسهم الخاصة الدالة، وهذا عوض عن كم كبير من المشاهد التي لم يكن بالامكان انجازها في ذلك الحيز الزمني الضيق المحدود.
ومهما يكن من أمرفإن المسرحية ناجحة الى حد كبير بوصفها مسرحية ذات بعد احتفالي الطابع «مأساوي المحتوى» تربوي تثقيفي الهدف في سياق المرحلة الراهنة حيث تتأجج الانتفاضة المباركة وتعلو وتيرة القمع الصهيوني مدمرة كل ما تطاله من بنية تحتية مراكز مدنية وعسكرية والغة في دم الشهداء من المجاهدين والمدنيين الأبرياء من الأطفال الرضع والفتيان والنساء مجهزة على الزرع والضرع عبر سياسة الأرض المحروقة التي تأكل الأخضر واليابس في ظل صمت دولي مطبق أو همس خافت يساوي بعين الجلاد والضحية وآلة الحرب الصهيونية تمعن خرابا ودمارا من أجل تحطيم الروح المعنوية، ولكنها لم تفلح أمام هذا الصمود الرائع والتحدي الصلب والارادة القوية، فإن لله عباداً إذا أرادوا أراد.تأتي هذه المسرحية في اطار الموقف المساند للاخوة في الأرض المباركة حيث الأقصى والصخرة المشرفة،
وهو موقف نبيل نلمسه في السياسة الحكيمة وفي المدرسة وفي الشارع وفي الجامعة وفي كل مكان، وما هذه المسرحية إلا تجسيد لهذا الموقف الذي هو مبعث اعتزازنا وأملنا.
|
|
|
|
|