نص «الحمراء» يمثل في جوهره حكاية واقعية تحمل حدثا عاديا بالامكان وقوعه وتكراره ، وهي حكاية السائح العربي الزائر للحمراء قصر أجداده الذي هو اليوم مجرد مزار سياحي ، ويلتقي السائح بدليلة سياحية من غرناطة تحمل ما تبقى له من ملامح على ارض لم تنسه ابدا، ويبدو النص من هذه الزاوية مباشرا في لغته وفكرته ومعانيه لا اقصد المباشرة التجريدية المرفوضة في الادب مما يوفر على القارئ القدر الأكبر من الجهد التفسيري للنص.
النص عمودي بقافية الدال المكسورة التي اعطت للنص نغمة جميلة مع تواصل الابيات سيظهر هذا في حال الالقاء ، وتأتي هذه القافية انسيابية الى ابعد الحدود مما يشعرك بأن القافية هي التي اتت الى القصيدة وليس العكس، فكثير من الشعر العربي تشعر فيه ان الشاعر يذهب الى الكلمة الاخيرة في البيت طلبا للقافية، كما أن نزار حرص كعادته على اعطاء موسيقى داخلية للنص وتناغم واضح بين الفاظه فلاحظ مثلا )وأميةٌ.. راياتها مرفوعةٌ.. وجيادها موصولةٌ( لاحظ مدى التناغم وتكرار الايقاع في )اميةٌ.. مرفوعةٌ.. موصولةٌ( بعلامة الرفع المنون، وكذا ايقاع آخر بين )راياتها.. وجيادها(، ويتكرر هذا في النص )الزخرفات.. الزركشات(، جرحاً نازفاً.. جرحاً ثانيا(.
لا تبدو فكرة الحمراء عموما جديدة، فالالم على الاندلس جرح عميق اصيل يبدأ من )لكل شيء اذا ماتم نقصان( عند ابي البقاء الرندي ولاينتهي عند نزار قباني، وكثير من الذين طرقوا الفكرة سيطرت عليهم وطغت على الشعر في القصيدة حتى تحول النص إلى لهجة بكائية لاتحفل في العادة بصور وخيال وعاطفة، خذ مثلا)أحزان على الأندلس( لنزار قباني:
كتبت لي ياغاليه.. كتبت تسألين عن أسبانيه
عن طارق يفتح باسم الله.. دنيا ثانيه
عن عقبة بن نافع.. يزرع شتل نخلة في قلب كل رابيه
سألت عن أميةٍ... عن أميرها معاويه
عن السرايا الزاهيه.. تحمل من دمشق في ركابها.. حضارة وعافيه
هل حرك النص فيك شيئاً؟.. ولا انا، ولعلك تلاحظ هنا كيف جاء السعي إلى القافية المتقدم ذكره وكيف جاءت الصور سطحية لاشعور فيها، وعود إلى الحمراء فميزته انه لم يستسلم للفكرة بل كانت جزءاً مجرد جزء من النص عموما، وما أقصده هنا أن النص يحمل المتعة الأدبية من خلال جملة أمور منها المشهدية التي يحكيها النص من لقاء في مدخل الحمراء وحوار مصاحب ثم الدخول وحوار جديد وحتى العناق والوداع، وتتميز هذه المشهدية بأنها ليست حيادية فالنص لم يكن نقلاً تقريرياً للحادثة فقد لاحظ وجهها الدمشقي الذي رأى خلاله منزله القديم وأمه وحجرته فتحرك السؤال لتجيبه بكلمة واحدة )الكلمة/ الحدث( في غرناطة ميلادي قالتها فتلاحقت الصور كأنها مشاهد سينمائية رآها في عينيها فصحت القرون وصحت ذكرياته وارتفعت الرايات الأموية وانطلقت الجياد وصار هو فارسا أمويا يستغرب التاريخ الذي جاء به ليرى حفيدته، وبالمناسبة لاحظ بعد مسافة أبيات قليلة) ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي( هذا التحول الكبير من جد يعود لحفيدته إلى طفل يمشي خلفها، وهذا وان يكن حال نزار في النص إلا انه حال أمته بأكملها.
وأمر آخر أن نزار المتألم لضياع الأندلس المتأثر بكلمات دليلته )غرناطة، دمشق أين تكون، الحمراء زهو جدودنا، أقرا على جدرانها أمجادي(، لا يفعل أبدا صوراً جزئيه وبدون أن أغرق في شرحها مثل: )شعرك المنساب نهر سواد(، ومثل: )والشعر يلهث خلفها كسنابل تركت بغير حصاد(.
قال نزارقباني في حوار صحفي: الشعر حدث مدهش، وتبرز في هذا النص لغة الدهشة لاحظ مثلا )هل أنت أسبانية سائلتها(، ولوقال سائلتها هل أنت أسبانية لما فقد شيئا إلا الدهشة.
كما أن جماليات النص توفر الحوار بينهما فهي تسأل وتجيب كما يفعل هو، وكذا الإفكار الجزئية للأبيات كانت متميزة ومحرضة على التفكير لاحظ مثلا) عانقتُ فيها عندما ودعتها( ولم يقل ودعت فيها عندما عانقتها.
إذن النص يحقق متعة جمالية فالحدث وان كان عاديا زيارة الحمراء إلا أن النص نجح في نقل الحدث إلى فضاء شعوري ارحب بكثير من واقعه المادي الضيق.
من الناحية الموضوعية يحمل النص بشكل أو بآخر نزعة النستولوجيا التي هي توق غير سوي للماضي أو إلى استعادة وضع يتعذر استرداده، أقول داعما لهذا لاحظ انه لم ينقل إحساسه بجمال الحمراء المكان كما لم ينقل إحساسه بجمال المرأة فعيناها مسرح لمشاهد الماضي، وكذا وجهها وشعرها:
ودمشق أين تكون قلتُ
ترينها في شعرك المنسابِ نهرَ سواد
في وجهك العربي في الثغر
الذي مازال مختزناً شموس بلادي،
وكذلك لاحظ هذا في الصورة التي قدمتُ الحديث عنها عن القرون السبعة وكيف اصبح جزءاً من الصورة، ثم لاحظ انه عندما رأى منزله خلال وجهها رأى منزله القديم، ولاحظ انه عانق طارق أحد رموز الماضي وودعها وكأن هذا أهم ادوراها أن تلبي احتياجه النستولوجي والنستولوجي هو من يحن إلى زمن مضى لم يعد موجودا ولا يمكن أن يعود، بصرف النظر عن تقويمنا لذلك الزمن إلا أنني لابد أن استدرك بالقول أنني اعتبر النص راقيا من الناحية الفنية، وحتى لا أتورط في رأي أحادي أقول أن النص يحمل جماليات قدمتُ بعضها، وكذلك يحمل عيوبا ظاهرة مثل: الزخرفات أكاد اسمع نبضها فكلمة أكاد لو لم وان لم يستجدِ القوافي يقلها لكان ابلغ للصورة واجمل وابعد خيالا، والنص إلا انه استجدى بعض الكلمات الإضافية لتحقيق الوزن ليس إلا، مثلا )لحفيدة سمراء من أحفادي( لاحظ كلمة سمراء، إضافة لا يستدعيها الشعر بقدر ما يستدعيها الوزن، وخذ مثلا آخر:
سارتْ معي والشعرُ يلهثُ خلفها
كسنابلٍ تُركتْ بغيرِ حصادِ
يتألقُ القرطُ الطويل بجيدها
مثلَ الشموعِ بليلةِ الميلادِ
ثم قال:
ومشيتُ مثلَ الطفلِ خلفَ دليلتي
وورائي التاريخ كوم رمادِ
إذن ماذا كانت حاجته إلى البيتين الأولين باستثناء رغبته في إعطاء صورة عن المرأة وكانت صورة خالية تماماً من أي مشاعر وهذه بدورها ملاحظة أخرى، ولاحظ: رجلا يسمى طارق بن زياد، فإذا تسامحنا مع كلمة رجل فبالتأكيد لن يحدث هذا مع كلمة يسمى.
ختاما أقول أن النص غني بالجماليات والعيوب لدرجة تصعب مهمة الناقد، وما هذه الورقة إلا محاولة ازعم أنها جادة لقراءة النص ولاشك انه بقي الكثير ليقال عن الحمراء.