| مقـالات
إن كان ثمة مرافعة. فإنها من أجل البلاغة وضد البلاغيين، وليست ضد البلاغة، وليست ضد كل البلاغيين. بل هي ضد الوقافين منهم عند منجز المتنطعين، الذين لا يتحرفون لجديد ولا يريدون لغيرهم أن يتحرفوا.
فالبلاغة العربية تراث مجيد، كانت قبل تجليها بوصفها نظاماً انضباطياً استكشافياً وقدرة ذوقية كامنة في ذائقة العربي كمون السقط في الزند، يُجليها مثلاً حياً بيت أو خطبة أو مثل أو حكمة أو إصلاح بين الناس. ولهذا كان النص الإبداعي: حكمةً وسحراً.
كما في الصحيح، يستثير السامع، ويستهوي المستمع، ويستميل الشهيد، ثم يقنع الجميع ، بل يهزهم طرباً. وقد تبلغ الكلمة مالا يبلغه السيف المصلت، ومالا يحققه المال المبذول، ومالا تظفر به القوة الشجاعة. وكم كلمةٍ أطفأت فتنة، وأغمدت سيفاً، وحقنت دماً، وألفت بين قلوب متنافرة.
والبلاغة والفصاحة والبيان في ضوء ذلك روح تسري في جسم الإبداع العربي، تنثال حلاوتها في ذائقة السليقي، حتى لا يقدر على التعبير عنها وصفاً يجسد حقيقتها. ومثلُنا في ذلك القرآن الكريم، لقد فر من سلطان بيانه من قضى الله بشقائه، واستمال بفصاحته من قدر الله هدايته. ولهذا تواصى المشركون قائلين، كما حكاه الله عنهم :«لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون» فحين غَشِيَ بيانُهُ الجبارين والمتكبرين، ألان قلوبهم وكسر جبروتهم، وطامن كبريائهم، وغمرهم بنفحات الإيمان، حتى لم يكن أحد منهم فظاً غليظ القلب بل أخذه اللين وملأته الرحمة وأفعمته المودة، وصار صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وكأنهم مصاحف يمشون في الأسواق في خُلقهم وفي بيانهم. وما كان إسلام بعض الصحابة إلا بعد أن سمعوه مرتلاً من أفواه السابقين، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال:«بلغوا عني ولو آية».
وبلاغة النص تتراءى فيه كالنور، وتسري في ثناياه كالعبق، وتذوب في أوصال الإنسان كالماء يسري في العروق الصائمة، فيبلها بعد جفاف، ويلينها بعد تصلب، وكالسِّنة أو النوم يدب في الأعصاب فيذهب عنها الإعياء. فإذا قيل لك ما البلاغة؟ أو ما الحب ؟ أو ما الجمال؟ أو ما الشعر؟ تعطلت لغة الكلام، وتخاطبت المشاعر بلغة أخرى سمها لغة الهوى أو السحر.
فالبلاغة والحب والجمال والشعر والسعادة فوق التعريف وخارج التحديد. وما المصطلح أو التعريف إلا تقريب للمعنى المراد، كالإشارة نحو الأفق السحيق تومئ إلى الجهة ولا تحدد الذات.
والذين اجتذبوا البلاغة من هلامياتها إلى القاعدة والمثال والمعيار، كالذين أعياهم تحديد الجمال، فحولوه إلى طول وعرض وسمك ولون ورقة ووزن، ولجؤوا إلى الموازين والمكاييل والمقاييس، يذرعون فيها الرقاب والأذقان والأفخاذ والسيقان، ويزنون الأجسام، ويكيلون الأحكام، وفاتهم أن الجمال حالة نفسية، تعرو الإنسان شعوراً غائراً في الأعماق، ولا تتجسد في الحس، وإنما تتراءى فيه، كما يتراءى لك طيف الخيال مجموعة من الأطياف تتصورها، وكأنه نتاج المودة والرحمة التي يجعلها بارئ النسمة بين الزوجين ليعمر الكون.
تلك في نظري هي إشكالية البلاغة ومعضلة البلاغيين، إنها جزء من العالم «اللامحسوس» ، أردنا تجسيده للتعليم والتقريب، فانصاع معنا جسماً، وذهبت روحه ترف من حولنا ، فبقي معنا الجسد بهموده وجموده ، وطافت حولنا روحه تحمل سر البلاغة ودلائل الاعجاز، ولا يتصور جمال النص وإعجاز البيان إلا الموهوب المتذوق، وكم رقص الملوك بين يدي الشعراء طرباً وإعجاباً كما فعل عبدالملك بن مروان مع جرير، والذين اتخذوا البلاغة بأمثلتها وقواعدها المبتسرة من السياق، ثم لم يبرحوا ذلك إلى فضاءات النصوص كمن أطلوا من ثقب ضيق على حديقة غناء، لقد عزلوا أنفسهم عن مطارح البلاغة ومنابتها، وارتهنوها في نتف لا تسمن ولا تغني.
إشكالية البلاغة كإشكالية المعروف الذي لا يعرف، نشتغل بالمحاكاة، نجسد اللامرئي بالمرئي، واللامفهوم بالمفهوم، واللامتصور بالمتصور، ننتزع جملة من سياق آية، أو بيتاً من بناء قصيدة، كما ننتزع أنفاً أو عيناً من جسم جميل، نغرس فيه مشارطنا، ونعمل فيه أدواتنا، نغوص في بنيانه، ونهد أركانه، وما سر جماله إلا بالبناء، وما روعة بهائة إلا بالتلاحم والتماسك والتناسب والتناسق. هذا التقويض بعض ما وقع فيه البنيويون حين فككوا بناء النص، أو التشريحيون حين شرحوا نسيجه، أو التقويضيون حين فرقوا بين لبة وأخرى ظناً منهم أنه بناء أو نسيج أو تركيب، وهو كذلك، ولكن البناء والنسيج كما النمو العضوي في الأناسي أو في النوابت، لا يمكن السر في طياته، وإنما تكمن عظمة الصانع. والتفكيكيون، والتشريحيون والتقويضيون يفعلون ذلك في سبيل الوصول إلى نوع العلامات وماهية العلاقات كما الأطباء الذين يبحثون عن سر الحياة وما هي إلا الروح ، والروح من أمر ربي وما أوتي أحد من العلم إلا قليلاً. والتفكيك والتشريح اللذان لا يعيدان النص إلى خلقه السوي، يذهبان البهاء ويعيدان اللبنات إلى أصلها قبل ممارسة الخلق الإبداعي، بحيث لا تكون حية، يضع الناقد يده عليها فيراها في علاقاتها الجديدة.
إذاً فالبلاغة آليات تبحث في الجمال عن الجمال، أو هكذا يجب أن تكون، إنها مجموعة من المقاييس المتكلفة الصنع. ولما كان الجمال اتساقاً وتناسقاً أصبح من العسير جداً تناغم المقياس مع المقيس مع أنه من الضروري استخدام تلك الآليات للتقرب من سر الجمال العصي المنال.
ومعضلة البلاغة المعيارية أن المقياس ثبوتي، والتناسق بين أجزاء البناء الحسي أو المعنوي حركي مغاير، ولا تلاؤم بين السكون والحركة.
ولهذا تظل البلاغة بمقاييسها في سباق متعثر مع المتغير. ولما لم يكن هناك جرأة ولا شجاعة في تغيير الثبات المعياري البلاغي، ظلت البلاغة في معزل عن النص الحركي، وظلت في معزل أيضاً عن آليات النقد الحديث المتداخلة معه إلى حد التوحد.
وإذ لا نجد حاجة إلى إثبات تداخل آليات النقد مع آليات البلاغة، أو إثبات أن آليات البلاغة بعض آليات النقد، نجد أن كلاً من النقد والبلاغة متمايزان إلى حد التنابذ، وهذه الجفوة المفتعلة تركت فراغاً لدى البلاغيين والنقاد معاً، وأدت بالتالي إلى تحبيس آليات البلاغة، وتهميشها في المشهد النقدي التطبيقي. فناقد اليوم أخذته مناهج اللغة وآليات التفكيك والتشريح والتحويل والتناص وأنواع النصوص، حتى لم يعد شيء في النص أهم من اللغة، ولم يكن للبلاغة وآلياتها وإجراءاتها ذكر في العملية النقدية، والدارسون لها والمدرسون والمنفقون عليها لا يجدونها معهم بوصفها آلية كما يجدون النحو والصرف والعروض وعلم اللغة وسائر آليات النقد وأدواته، وحين لا تكون حاضرة المشهد فلماذا كل هذا الاحتفاء؟
والبلاغة والنقد صنوان، فيما يعتمد البلاغيون أن يكونا غير صنوان مما أدى إلى استبطان الشعور بالمركز والهامش، واندفاع الاتجاهين إلى ادعاء المركزية وتهميش الآخر. والسبب في كل ذلك الرؤية الخاطئة التي تتعمد التمييز بين الناقد والبلاغي، وهي التي نجدها ماثلة في أروقة الجامعات، وكأننا بسبيل تفتيت الوحدات، وتفريق الجماعات، والأمر من الاتحاد بحيث لا يتسع للتعدد. لقد أسهمت المناهج الأكاديمية في تعميق هذه العزلة الافتراضية، ذلك أننا نجد أنفسنا أمام قسم للبلاغة، وقسمٍ للنقد الأدبي، ونبحث عن مسافةٍ وهمية بين النقد والبلاغة فلا نجد، وإذا قبلنا بقسم النحو والصرف لحيثيات معقولة ومقبولة ومعروفة فإن القبول بالتفريق بين النقد والبلاغة يحفزنا على القبول بقسم للخط، وآخر للإملاء ، وثالث للعروض، وماذا علينا لو دمجنا القسمين ووضعنا البلاغة في حجمها الطبيعي بوصفها آلة نقدية، فالعلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص، فالنقد أعم لأنه يشتغل في النص وفي مكوناته وبتاريخه وبمبدعه، بينما تنكفىء البلاغة لا على النص جملة بل على جزئياته المقطعة الأوصال، متخذة مصطلحات التشبيه والاستعارة والمجاز المرسل ومالا حد له من مصطلحات تقام على كل جملة وفي عقب كل بيت، تنتزع كلمة أو جملة وتقصر عن العبارة والأسلوب، ثم تقول إجراءً نمطياً مكروراً، لا تبديل فيه، ولا تعديل. على أن النقد في بعض تحولاته البنيوية انكفأ على النص مميتاً ما سواه، ولكنه انكفاء يأخذ النص كله لا بعض جملة، كما تفعل البلاغة، وهو ما يوصف به الفعل النقدي بين التعالي والكمون، التعالي فوق النص، والاشتغال بما قبله أي بمنتجه والمؤثر في المنتج ، أو الكمون داخل النص، ونفي ماهو خارجه. والعملية النقدية إما أن تكون: درساً تاريخياً للنص، أو درساً بنيوياً للنص، أو درساً بعدياً لأثر النص، وهو ما يمكن أن نسميه بالأدب المقارن ، والدرس الكموني للنص إما أن يكون: لغوياً أو شكلياً أو موضوعياً.
والبلاغة اليوم وقبل اليوم كمٌّ من المعايير والمقاييس يُعرض عليها كم من الأمثلة والشواهد المبتسرة المعادة المحددة التي لا تستبدل، وما أظن البلاغيين الأوائل حفيين بهذا الأسلوب السكوني النمطي.
فالمعيار هو المعيار كما أنشأه الأوائل والشاهد هو الشاهد كما ساقه الرواد والإجراء هو الإجراء كما حكاه الأقدمون حفظنا كل هذا قبل أربعين عاماً.
وحفظه أساتذتنا قبل ذلك، وأقرأناه أبناءنا اليوم كما هو، وسيقرئه أبناؤنا لمن لم يأت بعد، وإذا قيل للراكدين في قعر المنجز التراثي:
تعالوا إلى كلمة سواء في شأن البلاغة. قالوا: إنا وجدنا سلفنا على طريقة، ونحن على آثارهم سائرون، وما هو قائم لمجرد التعليم وتقريب البلاغة، وليست البلاغة ما تشاهده أو تقرؤه من مثال أو إيضاح أو قاعدة أو تمرين. هذه مجرد عينات تقرّب البلاغة إلينا أو تقربنا منها، ولا تقدمها بكل تفاصيلها، وتلك تعلات تروض جموح الطامحين إلى حل جذري لإشكالية البلاغة وكسر متعمد لحدة تساؤلاتهم. ولأن الساحة تكتظ بالإبداع، وتمتلئ بالمقاييس والمعايير والمذاهب النقدية، ولأن النقاد يتفاعلون مع النصوص في غياب تام للبلاغة وعلمائها وطلابها الذين لا يعرفون إلا حفنة من الأمثلة والشواهد الثابتة وتاريخاً للبلاغة ورجالها، فإن على سدنة البلاغة أن يكسروا قيودها ويتركوها تدخل المشهد، كما النقد، وكما النحو، وكما الآليات المتعددة.
فأين البلاغة الحقة؟ وأين آلياتها من النص الحديث: قصيدة ، أو قصة ، أو رواية؟. وما نصيب النص الحديث من آليات البلاغة؟ وهل يمتلك الأستاذ اليوم وطالبه إقصاء الشاهد التراثي والنص القواعدي، ثم يمارسان الاشتباك المباشر والمقتدر مع النص الحديث؟
وفي هذه الأجواء التي غابت فيها البلاغة الإجرائية، هل نقول: بأن البلاغة احترقت، وعقمت لمجرد أنها لا تتخطى فصول الدرس ووسائله من سبورة وكراسي؟. ونقول: إننا بفعلنا النمطي الكوني ندرس تراثاً، ولا نشكل وعياً جمالياً، ولا نهييء آليات أسلوبية لاكتشاف سر الجمال في نص أدبي لم يأت بعد ؟ أم نقول: بأن حماة البلاغة هم قاتلوها.
رما يقال: إن البلاغة نشأت لمواجهة نص مقدس، هو النص القرآني، فحين فرغت من تشكيل موقف« المعتزلة» و« الأشاعرة» من آيات الصفاة، وقفت حيث هي. وربما يقال وقد قيل بالفعل: إن بلاغة اليونان نفذت إلينا. فلم تستطع بمعياريتها أن تركض في شرايين النص المتجدد ، وهنا تتابعت الأقاويل حول نشأة البلاغة ومجالاتها، ولك أن تقرأ بعض ذلك في كتاب «البلاغة تطور وتاريخ» . ولسنا معنيين في تحرير الهدف العقدي، أو المصدر اليوناني. إذ المهم عندنا تفعيل البلاغة وآلياتها لتواكب حركة الأدب والمؤاخاة إلى حد الدمج مع النقد الأدبي لتأخذ مكانها في المشاهد الأدبية، التي حرمت منها، فيما أخذت أوسع الأمكنة في كليات اللغة والآداب.
|
|
|
|
|