| محليــات
الحياة لاتثبت على أمر..
فما تعطيه اليوم قد تأخذه في الغد..
وما هو فيها يشكّل لونَها..
هذا ماقالته الصبية وهي في مقتبل عمرها..
أمسكتُ بالقلم الرصاص، سجّلتُ خواطرها.. كتبتُ عن القمر، بعد ان راقبته ليالي، وأخرى لا تدري أين يختبئ، ومن ثَمَّ يعود للظهور، .. لم تكن تعلم سر تغيّر حجمه..، غير أنها عرفته دائرياً..، فكيف يقولون عنه مايقولون، وهو لايشبه الوجه فلا عينان له، ولا أنف، ولا فمٌ، فكيف يكون وجه أمها، أو حتى وجهها.. ومشت وراء العصفور، غير أنَّه يهرب منها، وكلما اقتربت منه حرّك جناحيه وطار، وأقبلت على القطة.. وشيئاً فشيئاً وجدتْها بجوارها، تتلمس ملابسها، وتدكُّ رأسها في قدميها، وتقفز عليها.. ومن ثم رافقتها أوقاتها.
كتبتْ بالقلم الرصاص، عن القمر، والعصفور، والقطة..
سمعتْ أحاديث أمها عن الصدق، والخير والرأفة، وعدم الغضب، وذمّ الكسل، وجمال الحياة، وحبّ الآخرين..، وفائدة القراءة، وجلال الصلاة، وطمأنينة الصمت.. ولم تكن تدري أبعاد دلالات هذه العبارات، غير أنّها كانت تكتب بقلمها الرصاص كلّ كلمة تسمعها، وعندما تخلد إلى وسادتها، كانت تتزامن السهر مع أفكارها.
راسلت الصحف، وعندما لم تجد اسمها كما سجّلته.. بكت كثيراً، وهي تبكي سقطت دموعها على الورق.. لاحظت أن لون الدموع شبيه بلون قلمها الرصاص فقط يميل الى الشفافية، نظرت في عينيها في المرآة وجدت أنّ حيزاً منها بلون قلمها الرصاص لكنّه أشدُّ دكانة منه، فتحت فمها رأت في مرآتها أنّ جوفها كلون قلمها الرصاص وهو أشد شيئاً ما منه غموضاً..، في السماء حيث يبدأ الغروب ينتشر لون قلمها الرصاص، وفي الشتاء تلتف الأرض بلون قلمها الرصاص، وعندما تستيقظ لصلاة الفجر يعمُّ الأرض لونُ قلمها الرصاص، وكلما داعبت المياه في الأحواض الصغيرة، والبحر على شاطئه.. كانت معها ألوان قلمها الرصاص..
أدركت أن كلَّ عمق هو بلون قلمها الرصاص..
حتى جاء ذلك اليوم الذي خاطبها المحرر في جريدة من الصحف التي كانت تراسلها بضرورة أن تكتب بقلم من الحبر.. فكتبت له «لون قلمي هو لون الحياة».. والحياة عمق في كلّ شيء.. فكيف تريدني أن أتسطَّح ؟!.. أنا لا أستطيع أن أكتب بحبر قابل للاختلاط، لكنني أكتب بما يمكن أن يمحى لأن الحياة تعطي اليوم وتأخذ في الغد، كلنا يحيا اليوم لكنه سيموت في الغد، وكلنا يخطئ الآن لكنه يصيب.. وكلُّ شيء لايثبت.. ألا تدري أنَّ هذه الحقيقة هي الحياة، هي حقيقتها المطلقة..؟
وذات يوم قرأت أنّ اللّون الرَّمادي هو لون الحياة..
وكانت تدري أنَّ كلَّ سواد وكلَّ بياض هو من لون قلمها الرصاص «الرمادي» فأتمّت له الإجابة بقولها: «ولأنّ الحياة عميقة، فبعمقها يتفكَّر الإنسان، يذهب إلى أقصى اليمين، أو إلى أقصى اليسار؟!.. لا موقع في الوسط بين الحق والباطل، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين الحب والكراهية، لا وسط ولا حياد في قضايا الكون الكبرى»..
لم يجد المحرر مايقول لهذه الصبية سوى: «تعلَّمت منك فلسفة جديدة، لذلك لن أطلب إليك تبديل قلمك.. غير أن «التصحيح والإخراج» لن يقبلوا ماتكتبين إلا عندما تغيرين قلمك...»
منذ ذلك اليوم اتجهت الصبية إلى صحيفة أخرى.. ولم تعد تكتب لتلك؛ ذلك لأنها لاتقف بين طريقين.
وذلك ما أدركته في مستقبل حياتها..
|
|
|
|
|