* منيف خضير الضوي:
لا يختلف اثنان على قدرة ابن الرومي على استقصاء المعاني والإيغال فيها إلى درجة السخف أحياناً والعصر الذي عاش فيه ابن الرومي «221 283ه»، ترك بصمته الواضحة على منهج الشاعر العقلي، وميله لشعر الحكمة وتعاطيه الفلسفة والنزوع إلى المنطق الرياضي.
ورغم ان مراثي ابن الرومي قليلة ولا ترقى إلى بقية الأغراض في شعره إلا أن النزعة العقلية تسربت في أحسن مراثيه وهي قصيدته الشهيرة في ولده الأوسط «محمد» الذي مات منزوفاً ولما يزل طفلاً..وقصيدته هذه تفجرت حزناًوجزعاً على واسطة العقد!! وأخرجت مشهداً تاماً عن حياة طفله، ومرضه وذبوله..وتأبى النزعة العقلية لدى ابن الرومي إلا أن تظهر نفسها في مطلع قصيدة الرثاء هذه:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي
فجودا فقد أودى نظيركما عندي
فهو يخاطب عينيه. مقرراً أن البكاء له دور كبير في إزالة الحزن «التطهير النفسي»، ويريح النفس البشرية... ورغم حتميته على رأي الشاعر..إلا أنه لا يجدي!! لأن البكاء والتفجع لا يعيدان الميت.. والنزعة العقلية هنا واضحة ومتأثرة بالعلوم الدخيلة مع الثقافة العربية آنذاك كعلم الفلسفة والمنطق..
ثم يميل الشاعر إلى عقد مقارنات هي من صميم حزنه وألمه على فراق ابنه فالسرير فارغ، وهذا الملعب فقد اللاعب، بل إن أخويه الباقيين يتحولان إلى مصدر عذاب، لا إلى مصدر عزاء لأنهما يذكران به.. وتعاود النزعة العقلية الظهور على طريقة لم تكن معهودة في المراثي العربية القريبة العهد بعهد الشاعر..
إذا لعبا في ملعب لك لذعا
فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد
فما فيهما لي سلوة بل حرارة
يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
بعد ذلك تعاود نزعته العقلية الظهور على شكل حكمة فيقول:
وأنت وإن أفردت في دار وحشة
فإني بدار الأنس في وحشة الفرد
عدم التكيف مع مجتمع السمر نتج هنا عن الحزن الذي يعزل صاحبه بكثرة التفكير فكأنه وحيد في عالم اللاوَحدة!!
ومع حزنه العميق وعاطفته المتدفقة يلح الخيال مرة أخري ويتنازل الرثاء هذه المرة لغرض الوصف الذي يغلب على الرثاء أحياناً!!يصف ابنه المحتضر فيقول:
ألح عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد
كما أنه لم يتخل عن النزعة المنطقية .. فهاهو يبرر لنا استحالة التماسه التعزية في ولديه الباقيين:
وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكلٍ مكانٌ لا يسد اختلاله
مكان أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه؟
أم السمع بعد العين يهدى كما تهدي؟
وهكذا يصبح عزاء الشاعر «والذي عبر عنه في قصيدة أخرى»، هو الموت!!
كيف يكون الموت عزاء؟! فتجيب النزعة العقلية: ان الموت هو الحل الوحيد للالتقاء بمن يحب في الدار الآخرة..وكيف يكون القبر وطناً؟! لأنه القبر هو أولى منازل هذه الدار.. حزن عميق .. وعويل، وتفجع تخفف آلامه تلك النزعات العقلية والتي تمنحه قراءة سنة الحياة.. ثم الإيمان بها:
وتسليني الأيام لا أن لوعتي
ولا حزني كالشيء ينسى فيعزبي
ولكن كفاني مسليا ومعزيا
بأن المدى بيني وبينك يقرب
وبانتظار هذا اللقاء لا وطن للشاعر ولا ملاذ سوى القبر!!
ما أصبحت دنياي لي وطن
بل حيث دارك عندي الوطن
وبالنظر إلى القصيدة تبدو نزعة التعليل والتفسير والمقابلة والتفصيل واضحة في ثناياها، فالشاعر لا يكتفي بعرض موقف ما بل يعمد إلى تعزيز موقفه بالأدلة والبراهين فهو لا يمكن أن ينسى ولده المتوفى وإن متع بابنيه بعده، فلكل ولد مكانته الخاصة فالأولاد كالجوارح لا يمكن للسمع أن يحل محل البصر.
ولا يقل رثاؤه للمغنية «بستان»، روعة عن رثائه لأبنائه ففيها من التفجع ما فيها. ولا الطبيعة تمنحه السلوان والعزاء والذي كان عزاءً لقلبه قبل ذلك..
بستان يا حسرتا على زهر
فيك من اللهو بل على ثمر
بستان لهفي لحسن وجهك
والإحسان صارا معاً إلي العفر
إلى أن يقول:
بستان أسقيت من مدامعنا
الدمع وأعقبت عقبه المطر
.. ويقول:
تبتل العود عند فقدكم
وازدجر اللهو كل مزدجر
وغاب عنا السرور بعدكم
واحتضر الهم حين محتضر
وبالنظر إلى هذه القصيدة وما قبلها نجد التمايز بين الاثنتين وذلك لشدة ارتباط كل منهما بصاحبها من جهة وبالشخص المرثي من جهة أخرى بل إن التمايز بين رثاء ابن الرومي وبقية المراثي العربية لا يحتاج إلى كثير من الذكاء لإدراكه.. وإن كان ثمة معان تقليدية فمردها أن فجيعة الموت معاناتها واحدة في كل زمان ومكان.. والنزعة المنطقية «في هذه القصيدة»، والتي تكاد تقارب المنطق الرياضي واضحة في بعض أبيات القصيدة «يسهل القول.. يصعب التحديد..، أمران: بين وشديد.. زانها من الغصن.. قد وجيد.. ومن الظبى:
مقلتان وجيد»، كما أنها تكشف لنا من الناحية الفكرية والأدبية استمرار تأثر الشاعر بالمفاهيم الشعرية الكلاسيكية وتأثر الشاعر بالفلسفة والمنطق وعلم الموسيقى..وجزع ابن الرومي على يحيى بن عمر ظهر جلياً في القصيدة «الجيمية»، مخاطباً بني العباس:
أفي الحق أن يمسوا خماصاً وأنتم
يكاد أخوكم بطنه يتبعج
وتمشون مختالين في حجراتكم
ثقال الخطى أكفا لكم تترجرج
وليدهم بادي الطوى ووليدكم
من الريف ريان العظام خديج
ثم يستمر بهجائه لبني العباس مقارناً بينهم وبين آل البيت ومناقبهم:
أبى الله ألا أن يطيبوا وتخبثوا
وأن يسبقوا بالصالحات ويفلحوا
لعل قلوبا قد أطلتم غليلها
ستظفر منكم بالشفاء فتثلج
وتظهر الحكمة في ثنايا القصيدة يقول:
ويقضي إمام الحق فيكم قضاءه
تماماً «وما كل الحوامل تخدج»،
وثمة رائعة مبتكرة من روائع الرثاء العربي تعتمد اعتماداً كاملاً على الوصف «كأحد الفنون العقلية»، دون أن تخلو من لحظات أسى وخلجات نفس ملتاعة وهي رثاء البصرة والتي فتحت باباً لنوع من الشعر ازدهر في العصر الأندلسي وهو رثاء الممالك والمدن!! ورثاء البصرة موحدة الموضوع، متسلسلة المعاني يعتمد من خلالها على عقد مقارنة بين البصرة المزدهرة والمدمرة معتمداً على ثقافته ويبرز الوصف في قوله:
كم رضيع هناك قد فطموه
بشبا السيف قبل حين الفطام
بل الما بساحة المسجد الجامع
إن كنتما ذوي إلمام
فاسألاه ولا جواب لديه
أين عبادة الطوال القيام
أين عمارة الآلي عمروه
دهرهم في تلاوة وصيام
وخلاصته القول: إن ابن الرومي وإن لم يشغل نفسه طويلاً بالرثاء بل يمكن أن نقول أن شعر الرثاء عنده قليل بالنسبة لحجم ديوانه إلا أن رثاءه صادق اللوعة عميق التفجع، يأتي الخيال ليسعف العاطفة بأوصافه فيرسم معالم الفجيعة، ويلونها بألوان الأسى القاتمة، وتلح النزعة العقلية في أشعاره وتعاود الحنين بين أبيات القصيدة ووجودها« أي النزعة العقلية»، قد يكون مقبولاً في شعر الحكمة والمدح والفخر... وغيرها، ولكنه أمر حديث أن يتربع على قسمات قصيدة الرثاء عند ابن ابن الرومي.
المراجع:
1 ابن الرومي. الديوان. شرح الشيخ محمد سليم. دار إحياء التراث العربي بيروت.
2 الدكتور شوقي ضيف. الفن ومذاهبه في الشعر العربي. دار المعارف بمصر.
3 الزركلي خير الدين. الأعلام . دار العلم للملايين . بيروت.
4 الدكتور محمد حمود . ابن الرومي. الشاعر المغبون. دار الفكر اللبناني . بيروت. سلسلة شعراء العرب.