| الثقافية
سريعاً ومباغتاً كان رحيلها.. منذ قليل كان صدرها يضجّ بالضحكات، كانت تتحدث مع صديقتها في المقعد المجاور بصوت خافت، مسترسلة في تعليقاتها حول أحداث اليوم الدراسي المنصرم، وصوت الحافلة يخترق الآذان المنصتة للحوار.. بقلب يضجّ بهاء كان تتكلم وتضحك وتحيا..
وبقلب مبتهج بانتهاء الدوام المتعب بكثافة دروسه وواجباته كانت تمزح وتطلق النكات الضاحكة كانت تقول لصديقتها إنها متعبة وتشعر بالصداع جراء توالي زحمة الدروس عليها، وإنها فرحة لأن معلمة مادة العربي قد أثنت عليها أمام بقية الطالبات، وإنها تحبّ كثيراً مادة التربية الفنية لأنها تتيح لها ممارسة هواية الرسم التي تعشقها وتبدع فيها، قالت أيضاً إنها ستتناول غداءها بعد وصولها إلى المنزل مباشرة، وإنها ستلعب قليلاً مع أخيها الصغير ثم تنام.. وفي العصر ستذهب مع والدتها لزيارة أقاربهم.. قالت إنها تكره هذه الزيارة لكنها مجبرة عليها إرضاءً لوالدتها التي تصرّ على مرافقتها..
حين توقفت الحافلة عند باب منزلها.. وضعت الحقيبة على كتفها كالمعتاد.. سلّمت على صديقتها التي كانت تحجز المقعد المجاور.. ونزلت الدرجات الضيقة الصغيرة كالمعتاد.. لم تنزل تماماً..
طرف عباءتها في الداخل.. أغلق السائق الباب كالمعتاد.. سريعاً دون أن يتأكد أنها لم تعد في الحافلة!!.. فزعت.. صرخت الحياة في عروقها.. تحركت الحافلة مسرعة.. وكان جسدها الغضّ يترنح كغصن متكسر وسط عاصفة مرعبة.. صرخت الطالبات اللواتي هالهن هذا المشهد المرعب، صديقة المقعد المجاور وجمت كأنما استحالت الى قطعة تمثال مصلوب في مكانه، يرنّ في رأسها صوت ضحكات وأماني ورغبات تلك التي تراها من وراء زجاج النافذة وقد استحالت إلى عجينة من اللحم والعظام.. عندما تنبه السائق إلى هول ما فعل كان الوقت متأخراً.. بعباءتها وجسدها الطفولي المغتسل بالدماء كانت قد انتثرت على أرضية الشارع.. حقيبتها الجلدية السوداء لفظت الدفاتر والكتب والأقلام الملونة خارجها.. كراسة الرسم شرعت أوراقها الملونة، وصارت الرسومات داخل صفحاتها ترقص في الهواء.. وصوت معلمة العربي وهي تثني عليها، وكلمات الشكر مبتهجة داخل دفاترها.. وأمها التي تنتظرها لتهيئها لزيارة أقاربها.. وسرير الظهيرة المتعبة الّذي ينتظر قيلولتها المعتادة..
من يحمل عن أمها أنينها إذا ما علمت بالنبأ؟.. من يجيب على تساؤلات طفلتها الراحلة لماذا فعل السائق ذلك؟!! لماذا يسرع في حين أنه يعلم أن الطالبات إنما هنَّ أمانة في عنقه؟.. هل سيتكرر هذا المشهد مرة أخرى؟!!
هل ستحضن الشوارع مجدداً جسداً طرياً بشغف الحياة، وتحيله إلى بركة دماء حارة، تشخب أحلامها ورؤاها التي تزدهر بتطلعاتها المستقبلية لتصير نبتة صغيرة يلتحم غصنها الطري بوجع الإسلفت، فتنطفئ أغنية الحياة في عروقها؟!!
وفاء العمير
wialomaie@yahoo.com
|
|
|
|
|