| الثقافية
ها هو «عواد» يعود من عمله اليومي مثقلاً بهموم مكدسة مشحونة بالإرهاق مليئة بمشاكل لا تفارق تفكيره حتى في المنام!
إلا أن عواد منشرح البال دائماً، وبسمته لا تفارق شفتيه الغليظتين اللتين تغطيان فتحات أسنانه المتباعدة وهو يتحرك حاملاً بدانة جسمه ولحيته الكثة التي اختلط سوادها ببياضها، ونظارته التي لا تتعدى رموش عينيه، وبذلته الواسعة التي يظهر فيها «جاشه» مشدوداً بعناية متناسقاً مع «بسطاريه» اللذين يهتم بلمعانهما دائماً قبل خروجه.
- مسئوليتي كرجل أمن تتطلب مني الدقة والملاحظة.
هذه هي إجابة عواد المتكررة لمن يسأله عن صرامته في العمل، وكما هو دقيق في الالتزام بالغرابة خصوصاً في تعامله مع زوجته وفاء، فالملابس المرقطة هي الأفضل في نظر عواد، والأنسب للعب مع الأطفال خشية التصاق الأوساخ وتلاؤماً مع جو المنزل، ولأسباب أخرى اقتصادية جوهرية، والنوم متعة عواد اللذيذة حين يغط فيه بعد عودته من العمل إلى قبيل غروب الشمس، والجرائد وجبة يومية لا تنسى فقبل دخوله للمنزل يتجه إلى صندوق الجرائد الذي ظهرت عليه بوادر «الصنق» من فعل البيئة فيفتحه بعنف ويتناول الصحف ثم يصعد الدرج متجهاً إلى غرفته وهو يردد: أين الغداء؟ ثم يدخل غرفته كدر المزاج فينزع ملابسه بشيء من الضيق المحمل بمقطع من التنهدات، وتأتي وفاء وهو لم يكد يرتدي ثيابه المنزلية وتضع طبق الأرز وجبته المفضلة على سفرة الطعام البلاستيكية مع المشروبات الأثيرة عنده والسلطات فيقبع عواد أمام السفرة بعد أن يغسل يديه.. تخلصاً من بقايا العمل.. يبتلع اللقمة الأولى.. ويصرخ:
- ألم أقل لكم بأن الملح في الطعام كالكابوس في المنام.. أتريدون قتلي ألا يكفيكم موتى التدريجي في العمل؟
- الملح قليل ولا يضر بصحتك.
ترد وفاء على السؤال المهاجم الذي اعتادت سماعه بنفس الإجابة اليومية.. يبتلع اللقمة الأولى بتذمر ثم تليها الأخريات لإسكات الجوع وينساب معها الهدوء إلى جوفه.. يقلب صفحات الجريدة.. اعتاد عواد على القراءة أثناء الأكل.. العناوين الرئيسية غريبة بعض الشيء.. لم تتحدث عنها الفضائيات أمس.. رفع نظره إلى أعلى الجريدة فسقطت من يده لقمة مكورة
- ما هذا ؟
يصرخ في زوجته ثم يتدارك ويسألها..
- وفاء.. اليوم الاثنين؟
- اليوم الاثنين وخال من الأملاح.
ترد بمكر.. يهمل عواد غداءه ويركز اهتمامه في الجريدة، ثم يتحدث بصوت عال..
- لا يفرق الموزعون هذه الأيام بين الأيام.. هل تذكرين يا وفاء عندما اشتريت الدجاج المبرد، واكتشفنا أن تاريخ الانتاج غداً! أيضا الموزع أتى إلينا الآن بجريدة الثلاثاء.. قبل صدورها بيوم.
لكن الموزعين لا شأن لهم في إصدار الصحيفة.. جميع الأخبار غريبة وجديدة.. أعاد عواد القراءة بتمعن دقيق.. وفاء واقفة أمامه ترقبه باستغراب، وبينما يتصفح الجريدة سقطت عيناه على زاوية أخبار الناس.. فجأة شحب وجهه وازرق جسده.. ارتعدت يداه، وتقلصت عضلات فكيه.
ظنت وفاء أن الملح هو السبب، أو أن إحدى «المكورات» اعترضت طريقها إلى المعدة! تسأله لا يتكلم يشير للماء ولا يرد، وعيناه معلقتان على الجريدة.. نظرت وفاء فاذا بصورة زوجها عواد في أخبار الناس مكتوب أسفلها «انتقل إلى رحمة الله النقيب عواد الغازي إثر نوبة قلبية ألمت به أمس»
فجر عواد الصمت بزفرات حارقة مصحوبة بمقطع صياح:
- سوف أموت غداً.. لا بل اليوم.. الصحف تكتب الأخبار التي حدثت.. اليوم موتي.. كيف هذا؟ انها مكيدة دبرها أحد الخبثاء.. لكن لا تصل إلى أن يميتوني حياً مهما كانت علاقتي بهم.
ردت وفاء ومقلتها تدمع..
- الجرائد تكذب.. والصحافيون هم مروجو الكذب..
اصفر وجه «عواد» والتزما الصمت.. بدت حركاته كمن فقد الوعي، عندما حاول الصعود إلى غرفته كاد أن يسقط على الدرج لولا تدخل وفاء التي تتبعه بشهقات مكتومة.. دخل غرفته متجهاً إلى دولاب ملابسه الخشبي ليخرج بذلته العسكرية من بين قمصان النوم بنجومها اللامعة وعرق إبطيه مازال عالقاً بها رغم غسيلها اليومي.
- لماذا؟ هل تعمدت التقصير عندما تقمصتك أثناء العمل؟ أكنت ظالماً في عملي؟
تنهال الأسئلة على البذلة وضعها على سريره ووقف يحدثها وكأنه يخاطب رجلاً عاقلاً.. تنهال دموعه وهو يسحب البذلة بعنف ليلبسها، ووفاء ترقبه بذهول وصمت.. ربط عواد «بسطاره» وتحزم ب «جاشه» قائلاً:
- أنا الآن مستعد للموت.. حتى وإن كنت مخفقاً في عملي.. المهم أن أموت مع بذلتي.
يبكي عواد وتهدئ وفاء من روعه والكلمات تنزف منه:
- موتي لن يكون وحدي.. اتركيني للموت فهو يترقبني.. عواد الآن على موعد مع القدر.. أيها الموت إن كنت تظن أني أهملت أو أسأت في عملي.
.. ظل يتجول في غرفة النوم محركاًيديه رافعاً التحية مصدراً أوامره العسكرية أمام المرآة حتى سقط على سريره وهو يقول:
- فلتأت الآن.. تعال.. إني جاهز.
ظنت وفاء أنها كلماته الأخيرة تخرج مع أنفاسه المتبقية..
- عواد استيقظ..
ترفع صوتها وفاء بعد ان سحبت الغطاء من فوقه..
- استيقظ فقد نمت البارحة ببذلتك بعد عودتك مجهداً من عملك الإضافي الذي طلبته أنت حرصاً على قيامك به بنفسك.
نهض عواد ونظر في المرأة متحسساً ملامح وجهه.. لا أزال حياً.. وانطلق ببذلته «المتعكرشة» من آثار النوم إلى صندوق الجرائد.. تنظر وفاء له بذهول مستغربة لما يحدث.. أخذ الجرائد يبحث عن تلك.. وفجأة إذا الجريدة هي نفسها التي شاهدها بالأمس.. قلب الصحيفة فإذا بنفس الأخبار التي قرأها.. اتجه إلى زاوية أخبار الناس فإذا صورته بنفس المكان الذي رآه.. أحس عواد بعودة الموت مجدداً.. ظل ضباب الموت يحيط بعينيه، والأمل يحزم أمتعته مغادراً، والحزن يتربص بوفاء، وبينما ينظر إلى صورته ويقرأ التعليق أسفلها.. إذا به يسقط مغشياً عليه.
وفاء الشمري
|
|
|
|
|