| وثائق
لعل الباحث في تاريخ الأمم والملوك والدول المتجاورة على مر التاريخ يظفر بحقيقة قطعية لا تقبل التشكيك؛ وهي أنه لا توجد علاقة بين الدول تستمر على وتيرة واحدة؛ بل لا بد أن تمر بحالات مد وجزر وصفاء وكدر وهذا أمر مشاهد محسوس يحصل بين الأشقاء في المنزل الواحد فما بالك بالدول والحكومات التي تقوم أساساً على خدمة شعوبها والقيام على أمورها وتنفيذ مصالحها وسبل العيش الرغيد؛ وقد يحصل في بعض الأحيان ألاّ تستقيم مصالح هذا الشعب مع مصالح الشعب الآخر لسبب أو لآخر.
إذا تأكد هذا وتقرر في الأذهان لا بد أن يعرف الجميع أن مرور الدول بهذه المراحل يجعلها تحرص على العلاقات الحميدة والحسنة وتبذل كل السبل لتطويرها وتفعيلها؛ وهذا دليل صدق نوايا ورغبة أكيدة في حسن التعامل.
لا شك أن مثل هذه المقدمة لا تصلح إلا أن تكون دليلاً على العلاقة الراسخة والمتينة التي يشاهدها الجميع بين بلادنا المملكة العربية السعودية وشقيقتنا الغالية الجمهورية العربية اليمنية.
وهنا لا أريد أن أتحدث عن العلاقة التي نشاهدها هذه الأيام بين البلدين بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود أمدّ الله في عمره وفخامة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح؛ فهذا أمر نشاهده بأم أعيننا هذه الأيام وما الزيارات المتبادلة بين القادة هذه الأيام سوى دليل واحد على أصالة هذه العلاقة؛ وهذا الأمر من الأمور الواضحة للعيان التي لا تحتاج إلى تقرير وتأكيد بل نشاهد آثارها وثمارها بشكل جلي وواضح.
وإنما الذي أريد أن أتحدث عنه في هذا المكان؛ وفي هذا الموضع هو ذكر جذور وأصول هذه العلاقة القديمة مؤكداً على أن الأصل في هذه العلاقة والطبيعي أن تكون متميزة ومثالية وأنه في حالة حصول أي أمر على عكس المراد في أيام مضت فإنما هو سحابة صيف سرعان ما تزول وتذهب بغير رجعة وتكون درساً للجميع؛ يدل على أهمية حسن الجوار مع الجميع وبخاصة إذا كانت هناك الكثير من العوامل المشتركة بين البلدين المتجاورين يأتي في طليعتها ومقدمتها الدين الإسلامي العظيم الحافل بعشرات النصوص الشرعية التي تحث على حسن الجوار مع الجميع وبخاصة إذا كان مسلماً، ثم يأتي عامل اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي تجمع بين البلدين الشقيقين؛ اضافة إلى الخلق العربي الأصيل؛ الذي نجده يحث على حسن الخلق والمكارم وشيم الرجال التي تجدها بحمد الله واضحة جلية عند أبناء هذين البلدين.
ولعله لا يخفى على الجميع أن العلاقات السعودية اليمنية تعود إلى عقود سابقة قبل قيام هذين البلدين في طورهما الحديث؛ فتؤكد كتب التواريخ وبخاصة تواريخ الجزيرة العربية ان حكام وأئمة اليمن الكبار تربطهم علاقات متينة ومراسلات علمية وبحثية وودية صادقة مع الأئمة من آل سعود منذ فترات طويلة ماضية.
فمما حفظت لنا كتب التواريخ ما سطره يراع الإمام الكبير محمد بن علي الشوكاني )ت 1250ه( المؤرخ والمحدث والمفسر حيث ألف كتابا حافلاً في تراجم علماء وفضلاء ووجهاء عصره سماه «البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع» فكان لا بد أن يحفل هذا الكتاب بتراجم بعض الأئمة من آل سعود الذين جمعوا بين القيادة السياسية والإمامة الدينية فكانوا لا يلقبون إلا بالإمام؛ فقد ترجم الشوكاني في كتابه هذا ترجمة حافلة لسعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود بيّن فيها الكثير من الموضوعات التي تهم الباحث في الدولة السعودية آنذاك؛ بل وبيّن الشوكاني طرفا من المراسلات بالتي كانت ترد إليه من آل سعود بصدد توضيح بعض الأمور؛ ومن أجل هذا كان الشوكاني مدققا في ما يثار عن هذه الدعوة ودولتها من أخبار لا تصح حينما يقول )الله أعلم بصحتها(.
وفي كتاب آخر حفظ لنا الشوكاني شيئاً من هذه المراسلات التي جرت بين قيادة البلدين في تلك الفترة، فمن ضمن هذه المراسلات التي حفظت لنا في كتاب )ذكريات الشوكاني( رسالة تدل على متانة العلاقة ووحدة الهدف والمقصد النبيل الذي هو طاعة الله سبحانه وتعالى والقيام بحقوق على الشعوب فقد أرسل الإمام عبدالعزيز بن سعود رسالة للإمام المنصور الشريف علي بن المهدي يتناقش معه فيها بأسلوب هادئ في بعض الأمور ويحثه من منطلق الاخوة الدينية بالقيام بتصحيح يشمل خيره الجميع؛ فقد قال له: السلام التام تهدى إلى سيد الأنام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ثم ينتهي إلى جناب الإمام بن الإمام علي أعده الله بطاعته وسلمه من الآفات وحفظه من طوارق البليات واستعمله بالباقيات الصالحات؛ وبعد: الخط الذي مع محمد بن محمسة وصل وصلك الله إلى رضوانه؛ وما فيه من مواصلة الدعوة والدرس والذي غيره كذلك وصل؛ وهذا واصلك بيد ابن محمسة إن شاء الله هدية هي أجل الهدايا عندنا؛ فالمأمول فيك قبولها...
قلت: هذه ديباجة الرسالة ثم تضمنت الكثير من الموضوعات الدينية والشرعية؛ وكما تشاهد كيف كانت طليعتها حافلة بالعبارات الصادقة والثناء وتبادل الهدايا.
ومن ثم أتى الرد والجواب من الإمام المنصور علي مؤكداً تميز العلاقة ومحبة الخير بين الطرفين والرغبة الصادقة في الوصول إلى الحقيقة؛ فقد جاء الرد ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لواجب الوجود مفيض الجود؛ والصلاة والسلام على صاحب اللواء المعقود والحوض المورود وعلى آله وصحبه الذين هم نجوم السعود ورجوم الجحود؛ وبعد فهندي السلام المتم البرود المستعذب الورود إلى مقر المحب الودود كريم الآباء والجدود عبدالعزيز بن سعود لا زال ثابت القدم على طاعة الملك المعبود فايزا بكرامة ذي الكرم في اليوم الموعود؛ فإنه وصل إلينا كتابك وقدم علينا خطابك وجميع ما عليه...
ومما جاء في هذه الرسالة العظيمة والتاريخية مما يدل على خلق الملوك والحكام؛ ومما يدل على حجم العلاقة الكبيرة بين هذين الحاكمين الكبيرين فقد قال إمام اليمن ما نصه وبكل تواضع: ونصحك الصحيح قبلناه وعلى كاهل السلامة حملناه والدين النصيحة لا سيما إذا كانت صحيحة..
قلت: أنظر الخلق والعمل ما يتناصح به القادة والحكام فيما بينهم؛ وكأن هؤلاء بمنهجهم هذا يضعون قواعد لمن بعدهم ويسنون للجميع طريقاً أننا على طريق واحد فلا بد من التناصح والتشاور لأن التناصح من أبرز صفات المحبين وهذا ما كانوا عليه.
وقد حفل الكتاب المسمى ذكريات الشوكاني ونشر في اليمن بالعديد من النصوص والمراسلات التاريخية بين قادة البلدين في الدولة السعودية الأولى وما بعدها مما يدل أكبر الدلالة على أن ما بين البلدين كشجرة باسقة أصلها ثابت وفروعها في السماء؛ وانه مهما حدث من ريح أو عاصفة بين فينة وأخرى فإن الأصل نمو العلاقة وتطورها؛ ولا يعني ذلك بالضرورة عدم وجود فترات من المستحسن ألا تكون سوى تاريخا يجب أن يطوى ولا يروى؛ وأن الأخ قد يحصل بينه وأخيه ما لا يرتضيه كل منهما لكن لحكمة يعلمها الله يجري ما يجري ثم تعود الأمور إلى مسارها الطبيعي.
|
|
|
|
|