| محليــات
تحسبينني في منأى عن خطواتكِ...؟!
كيف يمكن يا سيدتي أن تُستلَّ من صدرٍ يخفق بالحياة، مُدَيَّةٌ تفتكُ بالحياة فيه؟!
حين كنتِ تحدِّثينني عن تلك الأشجار الغاباتية التي تفتح فمها وتبتلع العابرين في طريقها، كنتُ أرتعب أقول لكِ: لا تخدشي ظني بالأشجار...، ذلك لأنَّني على يديكِ قرأت أساطير الشَّجر...، وأوراق الزَّهر... وعبَرت معكِ دروب النَّخيل...
عرفتُ من الخضرة في الشجر أنَّها النَّماء، والإثمار...، وما يُثْمر لا يَقتل؟!
لكنَّني عرفتُ فيما بعد أنَّ كثيراً من الثَّمر سامٌ...
وتحسبينني في منأى عن عينيكِ؟...
كيف يا سيدتي أستطيع أن أتبَّين الدروب؟... وقد قيل إنَّ أعداداً من الألغام مغروسةٌ في بقاع الأرض...، وهناك في الأرياف البريئة، وعلى صدى أنغام السواقي والنَّواعير، وحفيف همسات الشواطىء، عند حوافِّ الترعات النائمة في غبار الدروب الريفية قُتل عشرات من الصبايا بعبث الألغام كالدُّمي في أيديهن وأيديهم...
عرفتُ يا سيدتي أنَّ ليس كلُّ الدروب الحالمة توصل إلى مدن الأماني، أو إلى مواكب الرَّحيل إلى آماد الكون في فسحة الآمال...، وكنتِ قبلاً تحدِّثينني على صدى أصوات حشرات الليل... كيف تبكي الحشرات وكيف تضحك؟... وحزنتُ...، مع بعضها ضحكتُ في حين، وبكيتُ في أحايين...
ولما بعد تعلمين أنَّني قريبة من خطواتكِ؟!...
وبأنَّني عندكِ... بين عينيكِ؟!...
ذلك لأنَّكِ قريبة تَحدبين عليَّ، تحرسينني من غدر الطُّرقات، وتحصِّنينني من فجيعة الغدر، وتحفظينني من مُدَيَّة القتل؟...
تعلمين كيف أمرُّ في عفوية الطفل، وكيف أجري في شغب براءته، وكيف أحلم بخطوات الزَّمن يركض إلى مراكب العبور نحو بوابات البياض، في صدر البحور المعبأة بمداد المحابر... والمحاجر...
و... أنتِ هناك قد كتبتِ أسطورة المضاء على أشلاء الصَّمت، كي يقوى فيَّ صوت الغناء...، وكي يُشحذ فيَّ قنديل البراءة، وكي يصمد في داخلي ثراء الابتسام...
ألا فهبِّي إليَّ بشيء من عطركِ وأريجكِ... أشعل بهما فتيل النَّدى كي يغسل وجه الدروب...، وتهمي زخات أمطاركِ...
يا سيدتي بقيتُ وحدي...
في حين كنتُ لكِ وحدكِ...
أتدرين متى سمعتُ صرير أبواب الشِّتاء وهي تُغلَق دون الزمهرير؟
حين استوحشَتْ لحظاتُ الصمت، وأنتِ تُطبقين عينيكِ...، رحلتِ دون وداعي؟!
كيف قدرتِ على فعل ذلك؟
لا أدري، ولكنَّني أدري؟
أنتِ لن تعودي... أتعلمين لماذا؟... لأنَّكِ قرَّرتِ الرحيل قبل أن ترحلي...
ولأنّكِ قرأتِ سفْرَ الوداع قبل أن تودِّعي...
علمتُ ذلك منذ ذلك الصندوق الذي انكفأ على شمعته، ولم يعد يدير فيها اسطوانة النَّغم...
وذلك كان حدَّ الحدِّ بين شجن السَّماع، وشجن الضياع!
فقُدرتكِ على النَّفاذ بقدمين عاريتين فوق شاطىء الرحيل، كانت تفوق طائر الرحيل حين يجنِّح فوق الغمام...
هذا المساء وهذا الصباح وهذه الدقيقة وهذه الثانية، وه... وه... وه....،
ساعة، وضحى، وغروباً...، وسحراً... تؤوب الكائنات إلى انتجاع أقبية البوصلات، لكنَّ الاتجاهات كلَّها تشاطرني المكان والزمان...
لا أدري متى أستطيع أن أقول ما قلت، ويكون في قدرتي الصُّمود أمام دموعكِ؟
حين تبكين تذكَّري أنَّني لم أُطْبق جفوني على جفاف...
وتذكَّري أنَّني احتفلتُ بجريان أنهارٍ ذات روافد تفتَّقت عندي، وقبلاً كنتُ أشكو الجفاف...
ولم أنس أنَّ المياه ليست كلُّها تروي...
هناك ما يَشْرَق به الإنسان، وبه يذهب إلى آماد لا عودة له منها.
أتعلمين بأنَّ الدروب لم توحِش إلاَّ لأنَّ النَّاس علمتْ هذه الحقيقة؟
و... لن أرحل حتى يُشرعُ المساء بوابته...، ذلك لأنَّني التحمتُ به حدَّ الغرق في دهنائه الصامتة، في مداه الذي لا يصمت أبداً...،
فمتى تنطقين...؟ كي يبدأ الحَدَّاء في تسيير القافلة؟...
أتدرين بأنَّني زخرفتُ طريق القوافل بأشجار النَّخيل، وكسوتها برمل الشموع...،
ولوَّنتها بضياء البدر؟...
فالنَّخيل لا يلتقم المارِّين، والشموع لن تطير كالغبار، والبدر واحد لا ثاني له...،
فعسجد الطريق برَّاقٌ كما ضوء وجهكِ الجميل، نقيٌ كما جوف قلبكِ النَّقي،
يتمادى بمثل ما تتمادين في ألق البهاء...، وفاره الصفاء...
ألا... فهبِّي إلينا بفوحِكِ الشعري... كي تئنَّ القوافلُ على رسيس النداء.
ألاّ فكوني نوارَّة القدوم...
كي أرى ثغرات المحطات...
فأتقي براءة العبور...
|
|
|
|
|