| الثقافية
انفجرت في طريقي إلى بيت صديق كنّاس قديم، ولئلا يضطرني من لا يعجبه حال الكناسين وأخبارهم أقول له أن يتنحى، فبصحبتي كناس آخر قديم وحميم يعاني جلطة في القلب، وفي رحلة دائرية إلى بيت صديقنا المشترك، الذي يعاني من شلل جزئي نتيجة جلطة أصابته في الدماغ، والذي معي يقول لي مازحاً:
معك لحسة في عقلك!
وغنيت غصباً عني بعد صمت طويل، مضت أيام وجاءت أخرى، وبطلة النص المنتظرة صارت حلما غير منتظر!، لماذا؟ ببساطة شديدة لأنها دخلت في النص دفعة واحدة ومباشرة، إذ قلت لها آخر مرة حرفياً بالنص:
إن ما بيننا يشبه تناسخ الأرواح!
ووافقتني .. أعرف الآن إلى أي فضاء تهرب؟، على كل حال الأيام في لسان يزلزلني الأحياء بأسئلة، مرة ناعمة وأخرى معرفية ومثلها اجتماعية ومالية وعرقية، صراحة صاحبي الكناس أكبر مني ولكونه محترما وملتزما، انفجرت به فجأة صرخا:
الحب له أمر نافذ
على سلاطين وشيوخ
وفي السعادة تلذذ
في قصر ولا في كوخ |
وصفقت بيدي في الهواء ضاحكاً: «تسلم .. تسلم»، ومشيرا له وقد بدأ يشاركني الصوت والحنين إلى الماضي البعيد، إذ حكى لي حكاية خيالية، بعد ما أطلق ضحكة خجولة كلحيته الطويلة، إذ كان يتيما في طفولته، وبرع في دق طبول الفرح، التفت إلي وقال بحسرة غامضة:
أبوك أخرجني بإذني!
فهمت المعنى، إذ تتأول البراعة إلى معنى آخر، وربما طفولة وضيعة وضائعة في العرق والنسب، وليس هذا بتاتاً بسبب حقيقي، قلت بجد:
أخرجني!
فكرت، لو أعرف لها عنوانا في هذا الزمان، الذي صار كله مفاتيح لقطعت أذني كما فعل فان جوخ وبعث بها إلى حبيبته، حبيبتي زرقاء اليمامة المعاصرة بطلة نصي المنتظرة، أقفلت في وجهي كل مفاتيح الفضاء، والأذن تعشق قبل العين احياناً.
السر الحقيقي في هذا الغياب المتعمد جفاء، لم أرها ولم أخف غير ما ذكر، آخر مرة قلت لها متسائلاً:
أنت مثلي زرقاء اليمامة تحبين اسمك!
وبسرعة شديدة ردت:
أنت تنطقه بشكل حلو وجميل!
ليس لدي وسيلة اتصال ولا ميقات زمن لتحديد مجيئها، وشكوت أمري إلى شاعري الذي أبدع في تشخيص حالة النص، وأمر البطلة المنتظرة التي لم يعد في ذهني مقبولا القول بأن حجة الغائب معه، وداعبني شاعري بالأبيات الشعرية ليطفئ أوجعي، وألقى في مسمعي ما يلي:
مسكني من معشر الدود كرام في الخليقة قلت يا شم العرانين ويا بيض الوجوه لي أمان أن توضأت وصليت الفريضة..
أن أراكم خلف ظهري مانحي ما يذر الطير على ريد مخصر؟
سألته فوراً عن المعنى المقصود ب «الريد المخصر»؟ ورد عليّ بسؤال ذي مغزى بالنص قائلاً:
أنت وضعت في المكتوب أن على الطير الحر أن يعيش في المكان العالي..؟!
واحدة من أهم أسباب دواعي بقاء تمسكي بأمل وصال بطلة النص المعاصرة، زرقاء اليمامةالمنتظرة إلى هذا اليوم، بعد ما بدا منها من جفاء غامض قاس هو هذا الدفق الرباني، السماء تهطل مطراً مدراراً من مساء أمس، هذا الفضاء جعلني أبحث عن صديقي الكناس، وطقس مغر لم يجعل شاعري الذي بحث عني طويلاً، ينجح في إغوائي..
أضمرت في نفسي في نهاية المساء قبل أن يدخل ليلي الطويل، أن أبصم بتلويحة وداع لبطلة النص المنتظرة زرقاء اليمامة، وقنعت بأني بالغت في إعطائها فضائي مجانا، عاثت فيه بإرادتي أحيانا منتهزة اندفاعا غير موقوت وحبا من طرف واحد كما يصف حالتي صديقي الكناس مريض القلب، الفنان الذي انتزع أبي في طفولته منه، براعته وموهبته في النقر على طبل الفرح، وانتزع المرض في رجولته فحولته وبدلها بتلك الحساسية المفرطة في الكلام، حينما قال لي فاحصا بتعبيراته التغيرات الطارئة في وجهي:
- يا أخي ما يجوز الحب من طرف واحد!
- قلت بعجلة وحرارة:
- كيف ..!؟
لم يجبني في الحال بل ضحك وأسبل تلكما العينين اللتين تشبهان عيني عمتي، وفي طول رحلتنا الدائرية لم ينطق بكلمة واحدة، ظل يبتسم لشغفي المتواصل وغنائي الشفيف، وفي بيت صديقنا الآخر الكناس المصاب بجلطة في الدماغ، ظللت المتحدث الوحيد لأن الآخر يعاني من شلل نصفي، يعجز أن ينطق قول حرف واحد، عيناه وحدهما اللتان تتحدثان، وفي هذه اللحظة من العجز قال له صديقه الذي جاء معي:
- طهور إذا أراد الله..
والتفت لي وقال بحدة لم أدركها بعد:
- المال قذر!؟
وفكرت في صديقيّ الكناسين هذا اليوم، الأول المريض بجلطة في الدماغ، والآخر المريض بجلطة في القلب، فأنا أصغرهما وأفقرهما وأقلهما تعبدا وتنسكا، ولم أجد غير مخرج واحد: )أن بطلة النص المنتظرة الثالثة التي وسمت ب زرقاء اليمامة - ارتدت إلى فضاء آخر، وتركت لي كل هذا الغبار الذي جعلني أكح كل هذا المرض الذي ظننته الحب والسعادة، وما عليّ غير العودة إلى فضائي من جديد في انتظار بطلة جديدة، وأنا بين اليأس والرجاء فهذه البطلة بالذات استنزفت مني الكثير، ولم تكن أكثر من باحثة مثلي عن شيء(!.
وشعرت بأني لست أقل من صديقيّ الكناسين مواتا، فقدت شيئا عزيزا على ذاتي ومن روحي، وفي الصباح صحوت بدون أحلام، بعد ليلة هواجس وغناء وصخب وكلام وضحك وبكاء وحنين، تعني كلها شيئا واحدا هو أن الموت في طرفي..
استدركت في عمق انصهار ذاتي أن الله مع الجماعة، والموت مع الجماعة رحمة، أخذت بجناحي معرفة صاحبنا الكناس المغترب «هلال»، المسألة أعمق من سطحية الذين لا يعجبهم فضاء الكناسين، ومنهم صديقي الذي صار يسكن معي في البيت، فعمتي خالته وأبي بالتالي خاله، وهذه أيضا مسألة تحتاج لتفاصيل كثيرة لست معنيا بها هنا، الرجل بدد سكنه معي في البيت تفاصيل اضافية أهمها صباح اليوم الجمعة، حينما خرج من حمام عمتي الأثير، وقد نظفت حمامها من أصباغها الجديدة، وهو في طريقه للصلاة مبكراً حينما فاجأني قائلا ببسمة رقيقة:
- أنا ضيف .. لقد ودعت هذه الدنيا الفانية من أربع سنوات!
الرجل الكناس صديقي وقريب عمتي خالته، ومريض لا بد من مداراته يظل بالساعات وحده.
|
|
|
|
|