أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 26th June,2001 العدد:10498الطبعةالاولـي الثلاثاء 5 ,ربيع الثاني 1422

مقـالات

مؤسسة الفكر العربي: الطموح والممكن..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل
والحضارة الإسلامية قادرة على تجاوز المآزق التي نصبها الأعداء والأبناء على حد سواء، لأنها من عند الله، ولو كانت مرجعيتها من عند غير الله لوجد الكل فيها اختلافاً كثيراً، وهي حضارة مضمونة القيام والبقاء، لوعد الله وبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمة المنصورة، ومن ثم تبادرنا المشاهد بين الحين والآخر بمشروعات بلسمية، تعيد الثقة والاطمئنان الى النفوس الواجفة، والمؤسف ان يكون هناك مشاريع حضارية، تتوخى مقاصد الإسلام وغاياته ثم يتحفظ عليها الغيورون الوجلون باسم الدين ولصالحه بحجج ليست من الدين في شيء، ومثل هذا التسرع انعكس اثره على المرحلة، بحيث عمق الخلاف، وأطال أمد التنازع، وأتاح الفرصة للأعداء لكشف الخطأ في الفهم والضعف في التصور، ويقيني أن هذه الهنات لايمكن ان تفت في عضد المتفقهين في الدين، الذين يتعاملون مع الأحداث والنوازل على بصيرة، والناصح لمن طلب النصح له لايتعمد وضع العصي في عجلات القافلة، وحين يتساءل المهتم بأمر الأمة، ويلح في التساؤل عن مقاصد البوادر المصيرية، فإن من حقه ان يتلقى صوتاً هاتفاً، يجيب على تساؤلاته، ويعيد الثقة والاطمئان الى نفسه، فالعصر يفيض بالمشاريع والمؤسسات والأفراد الذين يتفلتون ممن يأخذ بحجزهم عن النار، وحين ندعو الى أسلمة المؤسسات فلسنا نريدها مؤسسات وعظية، ولانتهم البعض من ذويها بغياب هذا الهم، ومع أننا نميل الى حسن الظن، ونغلبه على التشاؤم، إلا أن الواقع المؤلم، كاد ينتزع منا بوارق الأمل، ومن تمكنه ظروفه من التنقل عبر مواقع «الانترنت»، يصاب بالذهول والإحباط، وهذا النزف المتفحش من القول غيض من فيض، تمتلئ منه النفوس، ولا أشك أنه في النهاية يشكل وعيا مدمرا لناشئة الأمة.
وتسرع البعض في تعميم الأحكام وفورية المواجهة، ثم التراجع عنها بعد التروي أو الإكراه، يفقد الثقة، ويعمق الشك، والأمة تحت وابل الفرديات بحاجة الى التحول المؤسساتي لإسكات الرعاع وإنضاج الآراء.
وتبني الثقات لمشروع فكري مؤسساتي على المستوى العربي في ظل التعددية الفكرية واستفحال الوضعية والعقلانية المتفلتة على النص القطعي الدلالة والثبوت، سيتمخض عن إشكاليات ارجو الا تكون عصية الحل، وكل الذي يؤمله الخيرون من هذه المؤسسة ان تصلح بين طوائف الفكر المتناحرة، وإن وجدت بغياً من إحداهما على الاخرى مارست ما لابد منه، وتبنى سمو الأمير خالد لما هو خارج الإقليم لن يكون كتبنيه لمشروع محلي، تتجانس مشارب أهله ومقاصدهم، ومع ما أتوقعه من المتاعب التي سيواجهها فريق العمل الذي يتصدره سموه، إلا انني أبارك هذه المبادرة، وأعدها من المبادرات الخيرة التي جاء متأخرة، وحين نحذر من المتاعب والاختراقات، فإننا نثق بقوة الأمير وأمانته ورحابة صدره وقدرته على الحوار دون تسلط أو عنت، ونقول مثل قولنا فيه عن الذين التفوا من حوله، ولربما تكون تجارب بعضهم حافزاً على تدبر الأمر، وأخذ الحذر، وسرعة الاستجابة لما يحيي، نحسبهم جميعا كذلك، ولانزكي على الله احدا.
ومشاريع التقارب وحوار الأديان مارسها العلماء والمفكرون على المستوى الديني والطائفي والمذهبي والرسمي، وأدى ذلك الى نتائج طبية، وكشف عن محاذير، وهناك دراسات عقدية وفكرية حفزت اليها تلك الممارسات المتعثرة، ولعل المؤسسة تضع يدها على تركة تلك المشاريع التي مورست من قبل وعلى الدراسات التي أثارتها، ومهما كانت التطمينات، ومهما كان حجم التفاؤل، يظل خوفنا قائما، ليس من المشروع ولا من ذويه، ولكنه من الواقع الذي سينزل عليه المشروع، فهو واقع تقتسمه ايديولوجيات، وتحتنكه قيم ومبادئ، ويصطفق فيه جهلة ومتسرعون ومأجورون، هم أقرب الى الدهماء والغوغائيين منهم الى العلماء المؤصلين، وليس من الحصافة ان ندع لهؤلاء سبيلاً الى المؤسسة، ولا أن ننثر الورد على ارض مسبعة مليئة بالألغام، لابد ان نقول للرواد: انظروا مواطئ اقداكم، وأعدوا للفعل الاستثنائي عدته، «ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز».
والمؤسسات المتعملقة كهذا المشروع حين ترمي بثقلها في المشهد الفكري لابد انها ستلتهم المشاريع الهشة والضعيفة، وستقضي على نتوءات كثيرة، وهذه المؤسسة المشتركة لن تكون جواداًِ بلا فارس: حقيقي او اعتباري، فمن الذي يحكمها: المؤسسات السياسية، أم المؤسسات الدينية، أم الجغرافيا الفكرية أم الأفراد الممولون؟ المؤكد انها لن تكون حرة طليقة، كما المهرة في مضمار اللزز، تقطعه جيئة وذهابا، دون فارس يمسك بالعنان، وحين نفترض الفارس تتراءى لنا سلطات متعددة. هل نتصورها فرساناً مترادفين، يجمعون ايديهم في طرف العنان فيرخي احدهم ويشد آخر، وساعتها يتوقف الجواد، وتمضي قوافل الآخرين؟ ام سيكون الفارس واحداً شخصية أو إيديولوجية، ذات قوة مادية او ذات قوة فكرية؟. وحين لايكون بد من تعدد الفرسان، فمن يتنازل عن رؤيته للآخر؟ ومن يلتف في عباءة من؟ وحين نستبعد التنازلات. هل تكون مصالحة وتعاذر؟ وعلى حساب من تكون المصالحة ويكون التعاذر؟ وحين لايكون تنازل ولا تصالح ولا تعاذر. فهل ترضى المؤسسة بالتعددية الفكرية؟ وحين يكون التعدد الفكري، فما هو المرجع الذي يفض التنازع، ويرضى الجميع بحكمه؟، قد ترد دعوى حرية الرأي، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وتلك نغمات تقال في وجه كل متحفظ او متسائل، ومع مشروعية كل ذلك وأهمية كل ذلك، لابد للحرية من ضابط، ولابد للضابط من نص، ولا بد للنص من نظرية في التلقي، وهنا يكون المأزق الذي أرجو أن يكون قد حسبت له كل الحسابات. الحرية حق مكفول إسلاميا، ولكن مفهومها المعاصر افقدها الضابط والشرط والانتماء. الشيء الذي لا مراء فيه ان المفكرين المؤثرين ينتمون الى ايديولوجيات، يؤمنون بها، ويدعون اليها، ويؤسسون مشاريعهم على مقتضياتها، وليس لدى احدهم استعداد للمساومة على فكره، وهنا كيف يكون حوار المؤسسة داخل منظومتها الفكرية، حين تمتاز كل مجموعة بفكرها، ويذهب كل مفكر بما آمن؟ وكيف يكون حوارها مع الافراد والجماعات التي لم تذعن لرؤيتها؟ وكيف يتم اقتسام المشهد؟ والأهم من كل هذا، ما الدور الذي ستلعبه وسط صراع الإيديولوجيات وتناحر المشاريع الفردية؟.
إن هناك ايديولوجيات مادية وضعية، وأخرى خليط من عمل صالح وآخر سيىء، وهناك أفكار متوازنة تعي متطلبات العصر، وتؤمن بالتعددية على اعتبار ان النص حمّال اوجه، والمتوقع من تلك المؤسسة ان تطرح فكراً متوازناً في مواجهة الأفكار الغربية، وحين تظل في تنازع داخلي، وهو ما لا نرجوه، وما لا نستبعده، هل ستستثمر هذا التنازع للكسب المادي وحسب؟ أو أنها ستلعب دور الإصلاح بين الفرقاء ثم الانتصار في النهاية للحق؟ أم أنها ستكون كما دار النشر تجسر الفجوات بين الايديولوجيات غير عابئة بالانتماء؟ أم أنها ستتخطف المفكرين الواحد تلو الآخر لتذيبهم في ايديولوجية واحدة؟ سيل من التساؤلات المشروعة. والمؤسسة الناجحة هي التي تحتوي النخب، وفق رؤيتها مهيئة لها مناخات معرفية ومناهج علمية وآليات دقيقة، وليست التي تلعب دور الوسيط الحيادي في اجواء من التناقض والتناحر والتسطح والاجترار والتكرار، وعلى ضوء تلك التطلعات، كيف يتم احتواؤها للمفكرين والمتعلمنين والمتعولين والمتحدثين؟ سيقول المعذرون: انني محبط، وإنني مخذل، ولكنني سأقول ما أرى، وليقرؤني من شاء كيف يشاء، فالمشهد بكل ماهو عليه يحمل على المساءلة الملحة والتحفظ الصريح، ويحن اكون غريقا فما خوفي من البلل، والايام حبلى، وقريباً ستلد.. ومعايشة المشهد من خلال رموزه ومشاريعه من النهضوية الى الثورية ومن الردة الى الارتداد تفرض الشك والارتياب، والذين لم يكتووا بمياسم الفكر المادي الوضعي الفوضوي لايساورهم شك، ولايجتاحهم ارتياب، وخطاب الامير المح الى اكثر من هذا، وهو متخوف ولكنه يرفض ان يكون التخوف حائلا دون التجريب، والشتات العربي شتات مضاعف ومتعدد المواقع، والذين استقروا على رأي لن يتحولوا عنه، والذين اتخذوا مسجداً ضراراً لن يهدموه، ولن نصلي فيه ابدا، والمؤسسة لا احسبها تقبل التناقض، وقبول التعددية لايكون بالضرورة تناقضا، فنحن لانمنع التعددية، ولانطمح الى توحد الفكر، بل لانود ذلك، فالنص هو النص، وواحدية النص تعني واحدية الحق، وتعدد الآراء والتصورات ناشئة من نظريات المعرفة والتلقي والتأويل، ونحن لن نكره الآخرين على واحدية الخطاب، ولكننا نريد ان يكونوا في اطار الاختلاف المعتبر، اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد. والمشاهد العربية مليئة بالمدارس والمشاريع والتيارات المتناقضة، وهو القدر الاصعب لهذا المولود الجديد، والذي يسمع حسيس الفتن وما واجهته المؤسسات الثقافية في مصر وما احدثه «أبو زيد» و«السعداوي» و«ابراهيم» و«الروايات الثلاث» و«وليمة لاعشاب البحر» و«الاسلام والجنوسة» لايمكن ان يتصور مرور هذا المشروع بسلام ولايمكن ان يحكم عليه سلفاً، ولهذا قلنا ماقلنا، وأثرنا ما أثرنا من باب الدعوة لأخذ الحذر، ومعاذ الله ان نخذل او نتهم.
ولأن تلك المؤسسة عربية الهم والأداء فان المفكرين الذين اوغلوا في الحداثة الفكرية او اشتطوا في العلمانية الشاملة او اتخذوا الوضعية المادية ركيزة فكرهم ومرجع تنازعهم، والذين استفزوا الرأي العام بتبعياتهم غير الواعية، او بتجاوزاتهم الاخلاقية والفكرية ممن دنسوا المقدس وانسنوا الإله، وأوغلوا في الاعتراف، ممن اثاروا المشاهد وربكوا الحالة الفكرية، او الدينية او السياسية، وارتكبت بسبب فعلهم الحالة الامنية في بلادهم، وطوردوا من قبل السلطة في محاولة لتهدئة الحالة الأمنية، ثم كان لأولئك حضور فكري لايستهان به، او كنت لهم مشاريع فكرية لايرقى الشك الى مكانتها المعرفية، ولايستغني مفكر عما تناولوه من سائر المعارف والقضايا، كيف يتم التعامل مع هؤلاء؟ اذا كانت الجغرافيا الفكرية للاعضاء المؤسسين والمؤثرين متباينة، فما يمكن قبوله في جغرافيا دولة علمانية ينتمي اليها عضو مؤثر ذو نزعة علمانية وضعية لايمكن قبوله في جغرافيا دولة غير علمانية، ينتمي اليها عضو مؤثر ذو نزعة اسلامية، وإذا وفرت )بيروت( للمؤسسة بوصفها المقر الرئيسي اجواء ارحب للتحرك الذاتي، فإنها لن توفر وجوداً مؤثراً في بقية العواصم العربية، مالم يكن هناك ضوابط وحين تكون الضوابط، تتقاطر التساؤلات من ذوي الانتماءات المغايرة، والمؤسسة الحضارية لايمكن ان تباشر عملها الا من خلال عقد اجتماعي، يرضاه الجميع ويحتكمون اليه عند التنازع، وهو ما لم نره، وما لم نسمع به، فما النظام الذي سيكون، ومن خلاله يكون ضبط الإيقاع، والمشاكل سوف تتنامى عند مباشرة الفعل، وأملي كبير وثقتي أكبر في كل الذين يحملون المحفة، ويستبطنون الهم. ان املنا الا يكون مصير هذا المشروع العملاق كمصير المشاريع السابقة التي حُفَّت بشهوات النفع، ولم يحتمل ذووها مكاره الاصلاح، املي كبير، وثقتي اكبر، وتخوفي مع كل هذا يجتاحني بعنف، ولعل من الافضل ان يمكن المستفيدون من هذا المشروع من اقتراح نظام يضبط اشكال التعامل والتفاعل مع المؤسسة، وان تكون للجميع ومن الجميع، والا يأخذها التعالي وفرض الذات وفق رؤية احادية متعالية، لقد تحطمت على صخرة الواقع مثاليات كثيرة، ومن اراد النجاح فليعرف مع من يتعامل.
إن الاختلاف حول الظواهر او المشاريع والتخوف والتساؤل حق لذوي الاختصاص، لقد عايشت الفكر المعاصر، وعرفت مصادر ذويه ومواردهم، وعرفت أكثرهم من لحن القول، وغاب عني ما تخفي صدورهم، وهو اكبر، وعايشت السياسة، وعرفت التخوف حتى من الظل، وعايشت الرأي العام وعرفت فوضوية ايقاعه، ولهذا اشفقت على المتطوعين والناذرين انفسهم واموالهم لخدمة امتهم، والتساؤل التحذيري ينطوي على تحرير للمفاهيم وتكريس لوجودها، والعامة تقول في امثالها: «دق الحساب تطول العشرة» والمعارضة ليست توهيناً للمشروع اي مشروع بقدر ماهي تساؤلات لمن أباح أجواءه، وفتح نوافذه، وأنفق ماله، واستقبل الخطابات المتعددة مما لايتفق مع اكثرها، وحين نتساءل او حين نتحفظ او حين نرفض فإن في المشهد بقاياً، يطمئن لها القلب، ويسكن لها الفؤاد، لما يكن حولها تساؤل ولا تحفظ ولا رفض، وكم نود من كل مفكر أو أديب أن يكون من الثقة في النفس والاعتراف بحق الآخرين والشفافية وتوقع الفشل واحتمال الصدام في مستوى لايمنع من استيعاب الطرح وفحصه والاستفادة منه.
الشيء الذي نوده هنا، وعند كل مبادرة يبذل من اجلها المال والوقت والجهد إشاعة حسن النوايا وتنمية التفاؤل قدر المستطاع، واستبعاد شبح الفشل الذي اجتاح مشاريع الأمة العربية، وفي المقابل توقع كل شيء، والاستعداد لكل المفاجآت فمن خرج من بيته مجاهداً فليتوقع الشهادة او ما دونها من المصاعب.
والمؤكد ان الناس قد ملوا من الاختلاف، وملوا من التجريب الفج والمبادرات المرتجلة، وملوا من الإحباطات، ولديهم الاستعداد لقبول انصاف الحلول، والرضى ببعض النجاحات، ومع كل ما انا عليه من توتر وتساؤل، فإنني لا اشك في حسن النوايا، ولا في سلامة المقاصد، ولا أشك في أهلية المشروع وأحقيته بالمباركة والدعم، وكيف لايدعم ومن ورائه رجل وهب نفسه للآخرين، ولما لم يكن هو الربان وحده، ولما لم تكن امواج البحر هادئة فإنني لا استطيع ان أكتم خوفي ولا أن أجهض تساؤلاتي، وأملي أن يحقق المشروع تطلعات الأوفياء لأمتهم ولعقيدتهم، وهو حين يتحقق متلافياً التجاوزات المخلة والعقبات المضرة، يكون مشهداً فكرياً أحوج ماتكون الأمة العربية الى مثله، ومن أوجب الواجبات أن يشد عضده الأدباء والعلماء والمفكرون والمقتدرون من رجال الأعمال والوجهاء، فالمقتدر وجاهة لايقل عن المقتدر مالاً، والمقتدر قولاً لايقل عن المقتدر مادة أو وجاهة، وخالد الفيصل بن عبدالعزيز صاحب مبادرات إيجابية، وهو كما ذي الرئاستين: أديب ومبدع ووجيه ومقتدر، ونهوض مثله مكسب لايرقى اليه الشك، ولكنه بكل مقومات النجاح لايكون فوق النقد ولا فوق المساءلة، ولا فوق المراجعة، ومن تزلف اليه بالملائكية فقد قتله، ولايمكن ان يعشينا رضاؤنا وتفاؤلنا عن الخوف، ولايمكن ان تمنعنا الهيبة من التفكير عنده بصوت مرتفع، وقد قيل «صديقك من تفكر عنده بصوت مرتفع» ومع مغالبتنا للاطمئنان فان الواقع المليء بالاحتمالات لايبعث على الاطمئنان، وفي الوقت نفسه لايمنع ابتهاجنا ومباركتنا لمثل هذه المبادرات الحضارية، والواقع الفكري بكل ماهو عليه من غزارة في الانتاج وتعدد في الاصوات ونكوص وانتكاس يحتاج الى حكماء يضبطون ايقاع الصدور والورود، ويمطرون على المتصوح من فجاج الفكر ومسارح العقول، ويصلحون الارض المعشوشبة، وطموحنا أكبر من أن يرضى المؤسسون بالتجانس والتكرار، والمشهد الفكري العربي مليء بالمؤسسات الثقافية التي تطبع الكتب، وتصدر الدوريات، وتنشئ الجوائز، وتقيم المهرجانات، وتبني المكتبات، وتحقق المخطوطات، وتقدم الخدمات، وهنا سيكون الامتحان لهذه المؤسسة عصيباً، والخيار صعباً، فما هو خيارها إزاء التعدد الإنتاجي، وما هو سبيلها إزاء هذا التناقض الفكري؟
وماينقص المشهد الفكري ليس مقتصراً على طباعة الكتب ابتداءً، أو إعادة طباعتها، ولا على إقامة الندوات واللقاءات و المهرجانات والمؤتمرات، ولا على اصدار الدوريات، ولا على استرضاء المفكرين والإعلاميين بطبع كتبهم والانفاق على تنقلاتهم، وتذليل المنابر لخطاباتهم، إن ذلك جزء من العملية تزاحمت حوله المؤسسات القائمة لأنه الأسهل والأقرب الى دوائر الضوء والكسب الإعلامي. المشهد الفكري يفتقر الى اشياء كثيرة وحساسة:
هناك فوضوية المصطلح فكل جامعة لها مصطلحها، وكل مترجم له مصطلحه، وكل مشهد يتداول مصطلحات ليست شائعة، وسوف ...أعالج هذه الإشكالية على حدة.
وهناك ضعف في الترجمة، وخلل بين في الكم والكيف، في المادة المترجمة وفي الممارس لها، فليس هناك مؤسسات قوية في الاختيار، ولا في التمويل ولا في المتابعة، جهود فردية ضعيفة في الامكانيات المادية والعلمية واللغوية تنظر الى الكسب السهل والسريع وهناك عشرات الكتب التي ترجمت عشرات المرات، وسوف اكتب عن تلك الاشكالية.
وهناك العبث في التراث باسم التحقيق وقيام اكثر من محقق بتحقيق مخطوطة واحدة وظهورها في اماكن متعددة.
وهناك عجز اصحاب المشاريع الفكرية عن انجازها، او عن طباعتها.
وهناك انعدام مراكز المعلومات، وتعطل قنوات الاتصال مع المؤسسات والمراكز العالمية، وما هو قائم من المراكز لايملك الموضوعية ولا الحيادية.
وهناك الخلط عند الاكثرين ممن نفخهم الاعلام لاهداف مشبوهة بين المبادرة والتأصيل والتأسيس المعرفي من جهة، والتبعية المهنية من جهة اخرى.
وهناك التوتر والانفعال والرؤية الضيقة التي تؤسس لواحدية القول وواحدية المذهب والآلية، وتمعن في تصنيم الاشخاص وإقصاء القضايا.
وهناك الخلط العجيب بين المذاهب الفكرية والعلوم التجريبية ونهوض كل من استطاع ان ينشي بتبني اعقد المشروعات واخطر القضايا.
هناك الفوضى المستحكمة في الفتيا والحكم والاجتهاد، والحرية، والطائفية، والفكرية، والسياسية.
وهناك القطيعة بين مفكري العرب، وشح التواصل، وتغني كل اقليم بليلاه، ومن ثم تتكرر المشاريع وتتشابه الاهتمامات وكل هذه المقترفات منتج فكري ستهبط المؤسسة على ارضه، فهل ستباشر المؤسسة عملية الإخلاء او الدمج، او انها ستعتزل الجميع وما يعملون، وتنشئ لها كياناً وآلية، وتصطفي رجالا، وتنتقي افكاراً؟ تساؤلات في الصميم، وليست من الاحلام في شيء.
وما اوده في مستهل العمل ان تتجنب المؤسسة الاحتفاليات والاستهلاك الاعلامي واسترضاء الوصوليين والمرتزقة، والدخول في نفق السياسة، فالتسييس للفكر يجره الى التجزيئية والتلون كما الحرباء، ليكون بلون المسرح السياسي، ولأن السياسة العربية تعيش حالة من التوتر والارتباك وتعارض المصالح والمجاملات فإنها حين تدس أنفها في الفعل الثقافي، تحوله الى شيء آخر، فيه كل شيء إلا الفكر والأدب والثقافة، وأملي ان تعتمد المؤسسة تنفيذ بعض المشاريع الهامة ومنها:
وضع الفكر الإسلامي واللغة العربية في قمة اهتمامها.
العمل على توحيد المصطلحات، وذلك بوضع مركز للترجمة، واصدار معجم دوري كل سنتين على شاكلة «المورد» وتوزيعه بسعر التكلفة على مؤسسات الترجمة والتعليم والمشاهد الثقافية، والسعي لاعتماده كمرجع معجمي مصطلحي لكل المشاهد والمؤسسات والافراد، على ان يشكل له فريق عمل من جميع المؤسسات العربية ذات الشأن كالمجامع والجامعات.
اعتماد الترجمة كمشروع رئيس ووضع مراكز لذلك، وهيئة استشارية تقترح الكتاب وفريق الترجمة.
تبني مشاريع علمية وفكرية يفرغ لها اساطين العلم والفكر، والانفاق عليهم، وتمويل مشاريعهم، وتفريغ الباحثين معهم.
إصدار معاجم وموسوعات فكرية، وفلسفية، وادبية، وعلمية، وترجمة الموسوعات والمعاجم العالمية على شاكلة موسوعة صاحب السمو الملكي الامير سلطان بن عبدالعزيز.
إنشاء مراكز معلومات وشبة اتصالات تغني عن المراكز والشبكات غير الحيادية.
واحذر المؤسسة من:
واحدية الخطاب واحتوائه ضمن جغرافيا فكرية.
علمنة الخطاب واستفزاز الرأي العام.
التحفظ على كل مفكر لايحترم وحدة المرجعية الربانية.
الحيلولة دون الشللية وتقديم الحوار على النفي وعدم الدخول في عباءات المهرجين والإعلامين ممن اضروا بكثير من المؤسسات حين اصبحوا بطانة غير صالحة لها.
تحامي التدخل في الخصوصيات الفكرية لأي دولة رضي العامة بمشروعها، وحين لايمكن تصفيتها من الشوائب لا تصفيتها من الوجود، فلا أقل من التحرر من هيمنتها.
والله المسؤول ان يستعملنا في خدمة دينه و إعلاء كلمته، وعمارة كونه، وهداية خلقه، فما الحياة الدنيا بدون ذلك إلا لعب ولهو.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved