| مقـالات
إن اختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار يدل على سرعة انقضاء هذه الدنيا وزوالها، وكل ما في الدنيا يدل على صنعة الخالق عز وجل، ويدل على صفاته العليا.
فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم الخالق سبحانه وفضله وإحسانه، وما في الدنيا من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وانتقامه عزّ وجلّ.
إن موسم الصيف مليء بالدروس والعظات والفوائد الأدبية والاجتماعية والانسانية.
الوقفة الأولى: اللغة والصيف:
جاء في مختار الصحاح للرازي رحمه الله : صيف: الصيف أحد فصول السنة، وهو بعد الربيع الأول وقبل القيظ. ويمتد من أواخر يونيو الى أواخر سبتمبر كما في المعجم الوجيز.
يقال: صيف صائف. توكيداً، كما يقال: ليل لائل وشيء صيفي، ويوم صائف: حار، وليلة صائفة.
وعامله مصايفة: أي أيام الصيف، مثل المعلومة والمشاهدة والمياومة.
وصاف بالمكان أقام به الصيف، كذا اصطاف وتصّيف. والموضع: المصيف والمصطاف.
وتصيف من الصيف، كما نقول: تشتّى من الشتاء والصائفة: الغزوة في الصيف. وبها سميت غزوة الروم، لأنهم كانوا يغزون صيفاً، اتقاءً للبرد والثلج.
جمع صيف )أصياف ،وصيوف( كما أن جمع الصائفة )صوائف(
وصاف اليوم ونحوه صيفا: اشتد حرّه.
اذن:
الصيف واحد فصول السنة الأربعة.
الوقفة الثانية: القرآن والصيف:
جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: )لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف( قريش 12.
قال المفسرون: كانت لقريش رحلتان: رحلة بالشتاءالى اليمن، لأن اليمن أدفأ لأنها بلاد حامية، ورحلة بالصيف الى الشام لانها بلاد باردة..
قال مالك رحمه الله : الشتاء نصف السنة، والصيف نصفها. وقال آخرون. الزمان أربعة أقسام: شتاء، وربيع، وصيف، وخريف.
إن عملية تحديد الوقت في فصول السنة من الأمور الادارية التي ذكرها الله تعالى في سورة قريش.
فظروف الطقس لجغرافية جزيرة العرب تؤكد معاني هذه السورة.
فالطقس في الشتاء في شمال الجزيرة العربية والشام شديد البرودة، بالاضافة للأمطار أو الثلوج.
لهذا، فإن سير قوافل التجارة في ذلك الفصل الى الشمال، من الصعب، لأن الابل والجمال تتحمل الحرارة.
أما البرودة فيصعب عليها.
أما فيما يختص برحلة الشتاء الى الجنوب في اليمن فقد كان الطقس معتدلا ممطراً خفيفاً.
لهذا كانت رحلة الشتاء الى الجنوب.
اضافة الى ان الدورة الزمنية لقوافل قريش كانت تستغرق في رحلتها ذهاباً وإياباً من شهرين الى ثلاثة أشهر مما يؤكد أن زمن سير القافلة كان يتفق مع الطبيعة الجغرافية للجزيرة العربية وظروف الطقس بها.
الوقفة الثالثة الحديث والصيف:
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اشتكت النار الى ربها، فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين، نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فاشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم.
كما وردت أحاديث عديدة تخص الصيف، كما في قوله عليه الصلاة والسلام لأحد صحابته )ألا تكفيك آية الصيف(، وقوله عليه الصلاة والسلام «شدة حرّ الصيف من فيح جهنم». وقد ورد «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف»، وكان قدر صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام الظهر في الصيف.
الوقفة الرابعة: العرب والصيف:
ورد عن العرب قولهم في أمثالهم )سحابة صيف عن قليل تنقشع( فقد شبه العرب الامر الذي يرجى له الزوال السريع، أو الذي لا يلبث حتى يزول بسحابة الصيف لا تظهر في السماء حتى تنقشع وتتفرق.. لأن سحاب الشتاء بطيء السير، لأنه ثقيل مملوء بالمطر، أما سحاب الصيف فخفيف سريع التفرق والزوال.
كما ورد عن العرب قولهم: )في الصيف ضيعّتِ اللبن(. يقال ذلك لمن ضيّع ما في يده، ثم طلبه بعد فواته، حيث يروى ان امرأة من العرب تزوجت رجلا ذا مال، لكنه كان شيخاً تقدمت به السن، فاختلفا فطلقها، وكان ذلك وقت الشتاء الذي يكثر فيه المرعى ويدر اللبن.
وتزوجت المرأة بعد طلاقها شاباً جميلاً، لكنه غير ثري فلما جاء الصيف احتاجت الى اللبن، ولم يكن للبن وجود في ذلك الوقت إلا عند زوجها الأول، فبعثت إليه ترجوه بعضاً منه، فأبى وصاح قائلاً: )في الصيف ضيعّت اللبن(.
لذلك، فلو أن أمة نزل بها وباء فنهضت له وأسرعت في القضاء عليه، أو داهمها عدو فهبّت له وتمكنت من رده، أو كان يرجى النصر بعد الهزيمة أو الغنى بعد الفقر، أو الصحة بعد المرض، أو المودة بعد الخصام، فحينذاك يقال: سحابة صيف عن قليل تقشع(.
ولو أسرف رجل في ماله ثم بحث عنه وقت العجز فلم يجده، أو اسرف في صحته ثم جاء يطلبها وقت الشيخوخة او لم يسمع النصح في وقته ثم راح ينشده بعد فوات الوقت قيل له ولأمثاله )في الصيف ضيعت اللبن(.
لذا ينبغي لمن عانى أو يعاني من حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة ويزاد في حرها.
وينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يجتنب به من الاعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار، فإنه لا قوة لأحد عليها ولا صبر.
قال أحدهم:
نسيت لظى عند ارتكانك للهوى
وأنت توقى حر شمس الهواجر
كأنك لم تدفن حميما ولم تكن
له في سياق الموت يوما بحاضر |
خرج ابن عمر رضي الله عنهما في سفر معه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمرّ بهم راعٍ فدعوه الى أن يأكل معهم. قال إني صائم فقال ابن عمر في مثل هذا اليوم الشديد حرّه، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم فقال: أبادر أيامي هذه الخالية.
فعجب منه ابن عمر. فقال له: هل لك ان تبيعنا شاة من غنمك ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها.
قال: إنها ليست لي. انها لمولاي. قال فما عسيت أن يقول لك مولاك ان قلت أكلها الذئب فمضى الراعي وهو رافع أصبعه الى السماء وهو يقول فأين الله؟ فلم يزل ابن عمر يردد كلمة الراعي. فلما قدم المدينة بعث الى سيّد الراعي فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهب له الغنم.
نكتفي بهذا القدر من وقفات مع الصيف في موسم الصيف وأيام الصيف وليالي الصيف والمصائف العامرة وزمان الاصطياف.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
|
|