| مقـالات
يقول أنصار مدرسة التشاؤم: إن الطباع جبلِّية فكما يخلق الشجاع والجبان، والكريم والبخيل، يخلق - كذلك- الصالح والطالح، ولا فائدة من موعظة واعظ، أو كلمة مصلح، فالطباع جامدة لا تتغير، ويردد الكثير منهم قول أبي العلاء المعري:
وما قبلت نفسي من الخير لفظة
وإن طال مافاهت به الخطباء |
ويقول الفيلسوف الألماني شوبنهور: يولد الناس أشراراً أو أخياراً، كما يولد الحمل وديعاً والنمر مفترساً، وليس لعلم الأخلاق إلا أن يصف سيرة الناس وعوائدهم وبعض فلاسفة التشاؤم يرجع جمود الطبع إلى الطبيعة ذاتها، فيقول اسنبنيوزا: إن أفعال الناس كغيرها من سائر الظواهر الطبيعية تحدث ويمكن استنتاجها بالضرورة المنطقية الهندسية، كما يستنتج من طبيعة المثلث أن زواياه تساوي قائمتين.
والنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، وما خلده التاريخ وسير أعلامه، كل ذلك يدل على أن هذه النظرة التشاؤمية خاطئة، فالتجارب الكثيرة وشواهد واقع الحال تدل على أن تعويد النفس على فعل الشيء من خير أو شر يجعل هذا الشيء جبلة وعادة.
والطريق إلى تربية الخلق الحسن هو التخلق، أي حمل الناس على الأعمال التي يقتضيها الخلق الحسن، فمن أراد مثلاً أن يتصف بخلق الجود، فعليه أن يجتهد ويجاهد نفسه في فعل الجود وهو بذل المال، حتى يصير هذا الفعل طبعاً له، فالمران والمجاهدة هما الطريق للتخلق بالخلق الحسن، ولكن من المهم أن يقال: إن ذلك لا يتم إلا بأذن تسمع، تستطيع أن توصل رسالتها إلى قلب يفقه.
ولأن الإسلام دين كامل المنهج ذو رسالة إنسانية شاملة، فقد أكدت النصوص الشرعية الكثيرة من الكتاب والسنة المطهرة على أن الإنسان كائن حي يتأثر بالخير، ويتأثر بالشر، بحسب العوامل المحيطة به، وبحسب الاستعدادات الكامنة فيه، وأن الموعظة ذات تأثير قوي في إثارة تلك الاستعدادات الكامنة، من منطلق أن كل مولود يولد على الفطرة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح.
ومن هنا اهتم الإسلام بسلامة المنهج عند رسم ملامح العلاقات بين الناس في المجتمع المسلم، بأن رغب في عدد من الأدوات القادرة على حفظه ورعايته.
ومن أهم الأدوات التي جادت بها تلك النصوص لتأكيد سلامة ذلك المنهج: أهمية تربية النفس ومجاهدتها على فعل الخير والمعروف، ومجاهدتها على ترك الشر والمنكر، يدلك إلى هذه الأداة ذلك الحديث العظيم المتفق عليه واللفظ لمسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.
فقوله صلى الله عليه وسلم : «وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق»، وقوله: «وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب»، ثم بعد ذلك استعمال صيغة المبالغة «صديقاً، كذاباً»، دليل على تأكيد المجاهدة وتكلف هذا الفعل.
ومن الأدوات التي جاءت بها النصوص لتأصيل سلامة منهج العلاقات بين الناس: الحث على التواصي بينهم بفعل الخير والمعروف وترك الشر والمنكر، انظر إلى قول الله تعالي: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب»، سورة المائدة آية «2» فالآية الكريمة أكدت على أداة التواصي بفعل البر والتقوى، والنهي عن الإثم والعدوان، والأمر بالتقوى مرة أخرى، والتأكيد على شدة عقاب الله، وفي الآية الآخرى مدح لمن تخلق بهذه الأداة في قول المولى عز وجل «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً»، سورة فصلت آية «33».
ومن الأدوات التي جاءت بها النصوص لتأكيد الحرص على سلامة منهج العلاقات بين الناس: تلك البشارات الطيبة، والوعد الكريم لمن استفاد من الموعظة وسلك درب الهداية، يقول الله سبحانه وتعالى: «ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً وإذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً ولهديناهم صراطاً مستقيماً»، النساء «66- 68».
ومن الأدوات الحارسة لسلامة منهج العلاقات بين الناس: التخويف من شدة العقاب للناكلين عن سلوك دروب الهداية والرشاد، يقول المولى سبحانه وتعالى: «سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانو يصدفون» سورة الأنعام آية «157»، ويقول عز وجل: «ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى»، سورة طه آية «124».
ويلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى هدد المعرضين بإيقاع نوعين من العقاب، دنيوي عاجل تمثل في ضيق العيش والنفس، ومؤخر تمثل في سوء العذاب والمآل، لأن ذلك أبلغ في التخويف، فإن معظم النفوس تتعلق بحب العاجل بحكم ما جبلت عليه وتحرص على أن لا تحرم منه، في حين يدرك العقلاء أن سوء المآل خطر عظيم.
بل جاء النص في القرآن الكريم في أكثر من موضع على أن عدم الاستجابة للخير والهدى هو من ظلم النفس، لأن الإنسان يعرف عمله وما قدمته يداه ويدرك بعقله أنه سوف يجازى عليه، فإذا تجاهل هذا الإدراك كان ظالما لنفسه بتعريضها للعقوبة. وهذا معنى بديع يحرك مشاعر الوجدان والعواطف، قال تعالى: « ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه»، سورة الكهف آية «57».
ومن الأدوات التي جاءت بها النصوص المتعلقة بمنهج العلاقات بين الناس: التأكيد على طبيعة النفس البشرية وضعفها وتعرضها لتسويلات شياطين الجن والإنس، والحث على التغلب على هذا العائق ببيان فضل التذكر والاهتداء، قال الله سبحانه وتعالى: «إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانههم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون»، سورة الأعراف آية «201 - 202»، ويقول تعالى: «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين»، سورة يونس آية «57»، وتأمل ابتداء الآية بالناس وختمها بالمؤمنين لتدرك دقة المنهج وشموله.
وقد دلت النصوص الكثيرة على أنه لكي تثمر هذه الأدوات ثمارها فإن هناك قرائن وعلامات وتهيئة لابد منها، تبرز في ظلها الاستعدادات الكامنة، منها خشية الله تعالى، والخوف من العقاب، فقال الله عز وجل: «سيذكر من يخشى»، سورة الأعلى آية «10»، وقوله سبحانه وتعالى: «فذكر بالقرآن من يخاف وعيد»، سورة ق آية «45».
وعلى العكس من ذلك فإن هناك قلوباً مغلقة ليس لديها الاستعداد الكامن للانتفاع من تلك الأدوات، قال الله تعالى: «إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم»، سورة البقرة آية «7-8».
وروى الإمام مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا- أي أسو دمخلوطاً بياض- كالكوز مُجَخَّيا- أي منكوساً- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه».
وفي ضوء هذه الأدوات يتضح أن دعوى جمود الطبع الإنساني، والقول بأن الإنسان يلازمه ما جبل عليه، هو قول لا يسنده الدليل ، بل إن الأدلة الصحيحة، وتجارب العقلاء، ومشاهدات الواقع تهدي إلى ضد هذه الدعوى، حيث تؤكد أن الطبع الإنساني قابل للتربية والتعديل إذا بذلت لأجلها جهود مخلصة.
فمن الأدلة الواضحة على أن طباع الناس تتغير بالوعظ والتربية، وأنهم ينتفعون بها بتوفيق الله: قول الله سبحانه وتعالى: «والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعمياناً»، سورة الفرقان آية «73».
ومن الأدلة ما رواه الإمام الترمذي رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم جعل يمر بالنبي والنبيين ومعهم القوم، والنبي والنبيين ومعهم الرهط، والنبي والنبيين وليس معهم أحد، حتى مر بسواد عظيم فقلت: من هذا؟ قيل: موسى وقومه ولكن ارفع رأسك فانظر، قال: فإذا سواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل: هؤلاء أمتك وسوى هؤلاء من أمتك سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب»، فالذين مع الرسل هم المنتفعون بالوعظ.
ومشاهدات الواقع والحوادث التي نعيشها في حياتنا اليومية تؤكد أن طباع الناس تتغير وأنها ليست جامدة، فالإنسان يشاهد في تعامله مع الناس تحولات جذرية في طباعهم إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد نقل الإمام الحسن البصري رحمه الله صورة من الواقع، تؤكد تغير طباع الإنسان، وتنفي جمودها، فقد روي الإمام أحمد رحمه الله عن الحسن رحمه الله عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: صحبنا النبي صلى الله عليه وسلم وسمعناه يقول: «إن بين يدي الساعة فتنا فكأنها قطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمناً ثم يمسي كافراً ويمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً يبيع أقوام خلاقهم بعرض من الدنيا يسير»، قال الحسن رحمه الله: والله لقد رأيناهم صوراً ولا عقول أجساماً، ولا أحلام فَراشَ نارٍ وذبَّان طمعٍ يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين يبيع أحدهم دينه بثمن العنز»، وحوادث التاريخ تحمل في طياتها شواهد سواطع على أن طباع الناس تتغير إلى الضد تماماً، وفي قصص إسلام كثير من الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما قصة إسلام الفاروق عمر بن الخطاب، وقصة إسلام أسد الله حمزة بن عبدالمطلب، وقصة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنهم جميعاً أكبر الأدلة على صحة هذه الحقيقة، ويؤكد مصداق ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك».
إن النصوص الواردة في هذا الموضوع كثيرة جداً في القرآن الكريم والسنة المطهرة وأحداث التاريخ مما لا يمكن حصره أو تبويبه، ناهيك عن مراجعة أقوال المفسرين لتلك النصوص برغم أهميتها، وأهمية ما انتهت إليه من استنتاجات واستجلاء فوائد.
هذا وبالله التوفيق،،،،
alsmariibrahim@hotmail.com
|
|
|
|
|