| مقـالات
كتب مُراسِل لم يبين اسمه عن أزمة الرقابة في مصر تتلخص في التالي:
1 إدراج كل ما ذكره الكاتب من أعمال أُخضعت للمراقبة في مصر فيما سماه باشتباك قضايا التكفير.
2 التعجب من شمول الرقابة للأكاديميين والسينما والمسرح.
3 عدَّ من تلك الأعمال )أولاد حارتنا( لنجيب محفوظ، والحكم بردَّة «أبو زيد»، وفيلماً للحب، وفيلم )المهاجر( للمخرج يوسف شاهين، و)وليمة لأعشاب البحر( لحيدر حيدر، وكتب صلاح الدين محسن.
4 أن الذين وراء الرقابة والمحاكمة هم المد الأصولي )التيار الإسلامي(.
5 القضاء الذي أدان أُولائك لا يحكم بما يرغب المسؤولون، وضرب المثال بأحكام المحكمة الدستورية العليا المتتالية بإبطال تشكيل البرلمان، وحكمِ محكمة النقض بتزوير الانتخابات البرلمانية.
6 رأت الدولة عقب الحكم على «أبو زيد» ضبطَ حركة قضايا الحسبة التي منها قلم الرقيب، فعدلت قانون حرية أي شخص بإقامة الدَّعْوى حسبةً، وجعلته من حق النيابة، فتوقفت الدعاوى المماثلة لقضية «أبو زيد».
7 أن محكمة الاستِئناف أثارت قضايا رقابية أُخْرى غير مسألة «أبو زيد».
8 التضارب بين موقف وزارة الثقافة وبين الأزهر في رواية وليمة لأعشاب البحر، وأن النيابة أدانت الرواية والمسؤولين عن ترويجها.
9 ذكر مَنْحَ القانونِِ الأزهر حقَّ الاعتراض رقابياً، ثم وصف القانون بغموضٍ لم يبيَّن هويته ولا موضوعه.
10 أن المصريين يتوقعون أزمات رقابية أُخْرى.
11 العجب من خفة الحكم ضد صلاح الدين محسن، لأن المقارنة بينه وبين «أبو زيد» تثير تساؤلاً.
قال أبو عبدالرحمن: الكاتب حشد أعمالاً خضعت للرقابة والحكم، أو أُريد إخضاعها.. وكل واحد منها يحتاج إلى دراسة خاصة، وهو لم يسرد المطاعن في تلك الأعمال باستيعاب وأمانة، ولم يذكر حججاً تفصيلية تجعل تلك الأعمال بَريئة من الكفر أو الفسق، أو تمييع المجتمع بالانحراف، ليخرج من عهدة اتباع الهوى، ورفض أحكام قيم الوجود الثلاث )الحق، والخير، والجمال(.. وذلك مُيسَّر له، لأنه متابع لتلك الأعمال في مادتها نفسها، ومتابع لما سأذكره إن شاء الله آخر هذه المقالة احتاج على مشروعية الرقابة، وليس احتجاجاً على إساءة استعمال هذا الحق المشروع بتعسُّف.. ومثل هذا الكاتب لا يُناقش بدراسة الأعمال المطروحة: هل فيها إساءة للدين أو الأخلاق، أم لا؟.. لأن وجود ذلك وعدمه غير مُؤَثِّر ما دامت الرقابة غير مشروعة، بل نقاشه بما أسلفته من البراهين في إحدى هذه الأسبوعيات على أن الحرية غير مطلقة، وغير قيمة في ذاتها، وأن جمهور الشعب المصري جمهور مسلم، وهو الوجه والطلعة عدداً وكفاءة، وله حرية حفظ كيانه الديني والخلقي، فلا تُهدر حريته بحرية نزوات أفراد.. وهذا من معاني أن الحرية غير مطلقة.
ولقد برهنت كثيراً على أنه لا تلازم بين الكفر والتكفير في الْفَتْوى، لاحتمال عدم الثبوت، ولاحتمال ارتفاع العذر بجهل أو تؤوُّل، وإنما يكون التكفير بالقضاء والإثبات ورفع العذر.. والكاتب لا يريد التكفير بإطلاق ولو كان بقضاءٍ، فهذا جحد إلغائي لمعنى التكفير لغة، وجحد إلغائي لنصوص الشرع بأن من أحكامه التكفير والردة وترتيب آثاره بالقضاء إثباتاً ورفعَ عذر.. إذن ليست المسألة تبرئة «أبو زيد» بحجة، وإنما المسألة إلغاء القضاء والتحاكم في مثل ما يصدر عن «أبو زيد» وغيره.. وأحكام الشرع في الكفر والردة يترتب عليها آثار أكثر وأكبر مما صدر في حق «أبو زيد»، وإنما صدر القضاء بأقصى ما يقدر عليه القضاءُ في ظل قانون يجعل الشريعة من مصادره، ولا يجعلها مصدره.
والأعجبُ تعجُّبُ الكاتب من شمول الرقابة للأكاديميين والسينما والمسرح.. مع أن هذه الحقول هي الموجِّه الفعَّال في توجيه سلوك الأمة في عصرنا الذي نعيشه.
والتيار الإسلامي، والأصولية بمعنى الرجوع إلا أصول ديننا مبعث عز وفخر لأمتنا.. أما الأخطاء الكبيرة والصغيرة الصادرة عن متسم بالإسلام والأصولية فليست حجة على الإسلام والأصول، بل هي مردودة إلى الإسلام وأصوله ليحكم فيها، فميزة الحسبة بحق الرقابة جعلها الكاتب في سياقه مثلباً للتيار الإسلامي.
وأراد الكاتب أن يدين القضاء الذي لا يحكم بما تهواه الدولة دائماً بأنه أسير للتيار الإسلامي، وإذن فلا مجال لنقاش الكاتب في عدالة ذلك القضاء أو جوره وخطئه، بل المسألة مسألة نقاش يسبق النظر في هذا التفصيل، وهو النقاش في صحة الإيمان بالله ودينه ورسله، وعصمة هدايته الشرعية إذا صحت عنه سبحانه ثبوتاً ودلالة.
وأما إلغاء حق الادعاء الفردي حسبةً فبخلاف حكم الشرع، وبخلاف ما يجب للقيم المعيارية من حق وحماية، فليس حصره في النيابة وحدها مفخراً قانونياً يحق للكاتب أن يعتزَّ به على نحو ما فعل.. ومع هذا لم يُرْضه حكم النيابة في مسائل أُخْرى.. وهذا تأكيد آخر دال على أن الكاتب ينحو إلى إسقاط حق الرقابة، لأنها حدٌّ للحرية، فالحرية عنده قيمة في ذاتها.. وبعد هذا لماذا يُلام الأزهر في قيامه بواجب الرقابة إذا كان القانون )الذي يُؤمن الكاتب بسيادته( يمنح الأزهر هذا الحق.. مع أن الشرع المطهَّر يجعل الحسبة لكل فرد بقيودها، ويجعل التعاون على البر والتقوى حقاً مشتركاً.. وإن كان في القانون عيب غموض كما ذكر الكاتب بغمغمته فينبغي إزالته وتوضيحه بمنطق الشرع والقيم المعيارية في بلد هو أكبر دوحة لأمتنا.. وثمة تأكيد ثالث على أن الكاتب من ضحايا السقوط في معنى الحرية التضليلي الذي يجعلها قيمة في ذاتها، وذلك في تخوُّفه من أزمات رقابية أُخْرى.. إن مشروعية الرقابة شيء، وإساءة استخدامها شيء آخر.. إلا أن الكاتب لا يريد البيان البرهاني الفاصل بين هذين الشيئين، لأنه محكوم بمعيارية الحرية في ذاتها، فهو لا يريد الرقابة بإطلاق، لأنها تحد من المجمل غير المشروع معياراً في عموم الحرية.. وإن صح أن ضلال صلاح الدين محسن مثل ضلال «أبو زيد»، وأن عقوبته أقل: فأكبر مسؤول عن هذا التفاوت والتمييع أمثال قلم الكاتب نفسه التي تظاهرت وتضافرت على الدعوة إلى التسيب، وتعيير القضاء والدولة وبعض مؤسساتها في إمضاء حق الحسبة بالرقابة والقضاء، حتى اضطر القضاء والمحتسب إلى التخاذل في ظل ذلك الإرهاب القلمي، وبلبلة أفكار الدهماء بالشُّبه والتهويش.. قال هذا المراسل الذي لم يفصح عن اسمه: «تتعقد وتتشابك خيوط قضايا التكفير في مصر بشدة، فهي لا تقف عند حد الأدباء والكتاب والصحافيين فقط، وإنما تمتد لتشمل الأكاديميين ومخرجي السينما والمسرح.. وفي الوقت نفسه فإن الأطراف الفاعلة والمؤثِّرة فيها تتعدد وتتداخل اختصاصاتها بشدة)1(.. وما زال المصريون يتذكرون الأزمة التي تفجرت إثر نشر رواية الأديب نجيب محفوظ )أولاد حارتنا( للمرة الأُوْلى حينما اعترض الأزهر عليها، ورفض ما فيها من إيحاءات.. غير أن محفوظ سارع، وتجاوز الأزمة طواعية، وأوقف نشر الرواية قبل أن يتفجر الموقف حولها.. لكن الأمر كان مختلفاً في قضية الدكتور نصر «أبو زيد» الذي يعيش حالياً )2( في هولندا بعدما هاجر من مصر إثر صدور حكم قضاءي بتفريقه عن زوجته.. كان أبو زيد وضع أبحاثاً وكتباً أثارت جدلاً في الأوساط الأكاديمية )3( سرعان ما انتقل إلى الأوساط السياسية وسط زخم المد الأصولي، وارتفاع صوت التيار الإسلامي.. ووصل الأمر إلا حد إقامة دعوى حسبة ضد )أبو زيد( باعتباره خرج عن الدين الإسلامي، وكانت المفاجأة أن الحكم صدر بالتفريق على أساس أن أبو زيد ارتد عن الدين الإسلامي.. على الرغم )4( أن التصريحات الرسمية، ،مواقف المسؤوْلين: لم تكن تميل إلى إدانة الكاتب.. وعكس الحكم أن القضاء المصري لا يحكم دائماً بما يرغب المسؤولون في تحقيقه، والدليل على ذلك الأحكام المتتالية الصادرة عن المحكمة الدستورية العليا بإبطال تشكيل البرلمان، وكذلك الأحكام الصادرة عن محكمة النقض بإثبات تزوير الانتخابات البرلمانية لمصلحة مرشحي الحزب الوطني الحاكم.. ويبدو أن الدولة أرادت عقب صدور الحكم ضد أبو زيد ضبط حركة قضايا الحسبة، حيث كان القانون يسمح لأي شخص بإقامة الدعوى مباشرة أمام المحكمة ضد من يعتقد أنه خرج عن الدين.. وغيَّرت الحكومة القانون، وجعلت سلطة إقامة الدعوى من حق النيابة وحدها.. ومن يومها لم يشهد القضاءُ المصري قضية مماثلة لتلك التي عاشها أبو زيد وزوجته.. لكن هناك نوعاً آخر من القضايا يخص الأعمال الفنية يُلقي بظلاله دائماً على أطرافها، فقبل سنوات صدر حكم مفاجِئ ضد المشاركين في إعداد وتنفيذ فيلم للحب قصة أخيرة.. لكن محكمة الاستئناف تكفلت بإغلاق الملف قبل أن ينفجر في وجه أصحابه.. إلا أن حكم محكمة الاستئناف في قضية أُخْرى تتعلق بفيلم المهاجر للمخرج يوسف شاهين لم يكن لمصلحة الفيلم الذي رُفع من الأسواق، وتم حظره داخل البلاد وخارجها بعدما اعتبرت المحكمة أن الفيلم يُسيْء إلى الأديان ويحرِّف في تاريخ الأنبياء.
وعلى رغم )5( أن أزمة رواية أولاد حارتنا عادت وتفجرت مجدداً بعدما حصل محفوظ على جائزة نوبل )حينما بدأت بعض الصحف والمجلات في نشر فصول منها( إلا أنها لم تصل إلى حد تدخل الأزهر أو القضاء على عكس ما حدث بالنسبة إلى رواية وليمة لأعشاب البحر للكاتب السوري حيدر حيدر والتي )6( ترتب على إعادة طبعها وتوزيعها في مصر أزمة طاحنة أدت فيه أطراف مختلفة أدواراً متعددة، فوزارة الثقافة التي طرحت الطبعة المصرية للرواية عبر أحد أجهزتها ظلت تدافع عن الرواية التي هاجمتها صحيفة الشعب لسان حال حزب العمل المعارض، ووصل الأمر إلى حد خروج تظاهرات من جامعة الأزهر ضد المسؤولين عن نشر الرواية.. وحتى )7( المواقف الحكومية من الأزمة بدت متناقضة، إذ حمل بعضها على حزب العمل وصحيفته في حين باشرت النيابة تحقيقات مع المسؤولين عن نشر الرواية، واتهمتهم بترويج مطبوعة تُسيء إلى الدين الإسلامي، وجاء موقف الأزهر صارماً وحاداً ضد الرواية وناشريها، مما وضع وزير الثقافة فاروق حسني في حرج شديد.. وما زال ملف قضية الرواية مفتوحاً، فالتحقيقات لم تُغلق بعد، كما أن مصير حزب العمل وصحيفته ما زال معلقاً.
ويمنح القانون المصري الأزهر حق الاعتراض على الكتب والأعمال الأدبية والسينمائية التي تتعرض للدين.. غير أن النصوص القانونية تحفل بغموض يتسبب عادة في إرباك شديد حول بعض تلك الأعمال، وعلى ذلك فإن المصريين يتوقعون وقوع أزمة جديدة حول كتاب أو رواية أو شريط سينمائي أو مسرحية في المستقبل.. وإذا كان نصر أبو زيد ما زال يكافح من أجل إلغاء الحكم الصادر بتفريقه عن زوجته: فإن كاتباً آخر هو صلاح الدين محسن ظل محتجزاً لأكثر من ستة أشهر رهن الحبس الاحتياطي في انتظار محاكمته على ما جاء في مجموعة من كتبه، وقبل أسابيع صدر الحكم بحبس محسن لمدة ستة أشهر مع وقف التنفيذ.. ولأن الحكم جاء مخففاً فإن المقارنة بينه وبين الحكم في قضية أبو زيد أثارت تساؤلات، ووضعت علامات استفهام، لكن يبقى أن خيوط قضايا التكفير في مصر ستظل معقدة متشابكة» )8(.
قال أبو عبد الرحمن: وبعد هذا كله لا أزال أُؤكِّدُ على أن الفنان القدير ومصر أم القدرات الفنية والثقافية والعلمية في بلادنا العربية قادر على إنجاز مهمته بمستوى أعلى تَطُّلعاً دون أن يُذِلَّ كيانه لغة وديناً ومجتمعاً وسياسة، فالتدني بأخلاق الأمة ولغتها يرفضه المعيار الجمالي الذي هو أساس الأداء الفني، وإهانة دين الأمة وتحطيم ثوابتها الكيانية يرفضه معيارا الدين والخلق، ولا يحقَّق المطلب الثقافي والعلمي.. أما الكتاب الأكاديمي ولا سيما في العلوم فالعالمِ العربي المسلم مُؤتمن في التلقي منه بلغته )أي لغة الكتاب( الأجنبي بوحي من كياناته الدينية واللغوية والقومية والوطنية.. فإن أراد تعريبه فهو قارِئ محاكِم، وليس متلقياً إمَّعة فعليه مسؤولية توصيل العلم للقارىء العربي مع متابعته مداخلة، أو تحشية لما يُسِيْء إلى كيان أمته.. إلاَّ ما كان نقداً ذاتياً يمليه الدين والقيم المعيارية، فلا أقول: لا تثريب عليه في ذلك النقد، بل ذلك واجبه، والله المستعان.
الحواشي:
)1( قال أبو عبدالرحمن: هذا أسلوب أعجمي، لأننا لا ندري مَنِ الأطراف الفاعلة: أهي الأكاديميون والمخرجون، أم القائمون بالحسبة، أم هؤلاء وأُولائك.. ولم يبين الاختصاصات المتداخلة بشدة!.
)2( حالياً أسلوب ترجمةٍ لم يرد في الأسلوب العربي، والأوان الحين.. قال الله تبارك وتعالى: )الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً( [سورة الأنفال/66].
)3( قال أبو عبدالرحمن: كان عليه أن يُبيِّن مواضع الجدل في أبحاثه وكتبه، وحجة كل طرف، ليكون القارِئ على بينة، فلا يمانع في النقد الهامشي الاستفزازي المجمل.
)4( هذا أسلوب أعجمي، لأن التقدير: على كرهِ أن التصريحات.. والأسلوب العربي: على الرغم من التصريحات.. إلخ التي لم تكن.
)5( انظر التعليقة رقم 3.
)6( الواو قبل «الَّتي» عجمة أُخْرى، لأنه لا عطف بين الصفة والموصوف.
)7( وحتى أسلوب صحفي، فتُخرَّج العجمة على أن الواو حرف عطف، وحتى حرف تعليل.. قال شيخ العربية أبو حيان في البحر 1/363: حتى حرف معناه الكثير الغاية، وتكون للتعليل.. وهنا في الأسلوب حتى للتعليل والتعبير السليم: حتى بدت المواقف الحكومية من الأزمة متناقضة.
)8( مجلة الوسط العدد 443 في 24/7/2000ص 11.
|
|
|
|
|