| مقـالات
الانفتاح سمة النجاح وعنوان الثقة وشرط التأثير، ولو راجعنا بشيء من التروي أطوار البلدان والدول والشعوب والأمم والحضارات لوجدنا أن نهضتها وعزها وقوتها بدأت بانفتاح قيادتها الفكرية والعلمية والاجتماعية والسياسية، ولوجدنا أن تراجعها واضمحلالها بدأ بانغلاقها على نفسها، خشيت قيادتها من الجديد فسدت منافذ المعرفة فيها، وهيمنت أجنحة «التمحور على الذات»، على مراكز التوجيه.
الانفتاح يفتق العبقريات ويهيئ المناخ الثقافي والاجتماعي والسياسي للتفاعل والعطاء ويزرع في نفوس القادرين على التغيير والتجديد الثقة، ويدفع أصحاب الملكات إلى المشاركة في صنع المستقبل بفاعلية وحماسة.
أما الانغلاق فهو بالعكس تماماً، يحجب الابداع ويقتل الطموح، ويحرم المجتمعات من المشاركة في صناعة مستقبل أجيالها ويهيئ المناخ المناسب لتفشي الجهل والخمول والتقليد والخرافة، كما أنه يوطن الناس على استمراء الحياة الاستهلاكية الرتيبة التي تعيش حياة ملؤها الاستياء من الحاضر واليأس من المستقبل.
الانغلاق سمة الترهل وعنوان الضعف ومظهر التقهقر، وطريق الاضمحلال، إنه المرض الذي يقضي على الدول والمجتمعات والحضارات.. ولو كانت تملك الأموال والرجال والمزارع والآليات، فالأمم التي نهضت كان خلف نهضتها فكر وثقافة وعلوم وفنون وهذه المصادر الثرة للنهضة لا تنمو إلا في أجواء مفتوحة عن طريق عقول متحفزة تحملها نفوس طامحة مستعدة لتحمل مسؤولياتها بعزيمة وإصرار.
شهد تاريخ البشرية تحولات تاريخية كونت الإرث الإنساني عبر القرون المتتابعة وكانت تلك التحولات «ثقافية»، في الأساس قل أن تكون سياسية وعسكرية، والتحولات الثقافية تقوم على «الانفتاح»، والاستعداد للتجديد والتغيير، الأمر الذي يخشاه بل يعاديه «المنغلقون»، من الناس مهما بلغت مراتبهم العلمية، والمجتمعات المنغلقة على نفسها دئماً تكون عرضة ما يسمى بالغزو الثقافي..حيث انها عاجزة عن «إنتاج» ما تحتاجه هي.. فضلاً عن إنتاج ما تؤثربه على المجتمعات الأخرى.
لقد سادت الديانة البراهانية في الهند وظل الهنود معتقدين في الإله البراهما عقوداً طويلة وكانت العبادة تقوم على مبدأ قتل الفرد لفكره وإرادته في التأمل والزهد وعليه أن يتخلى عن الذات والنفس والجسد حتى تتحد ذاته بالذات الالهية. ولدت الحركة البوذية التي تعني «التنوير»، على يد مؤسسها بوذا الذي ولد عام 560 قبل الميلاد، فكانت دعوته التنويرية تدعو إلى الانفتاح ولم يسلم بوذا الذي انتشرت تعاليمه فيما بعد بقوة بنظام الطبقات ولا بتناسخ الأرواح ولا بكتاب الفيدا الذي اعتمدت عليه التعاليم البراهانية.
كذلك دعوة المعلم الصيني كنفوشيوس 551 479 قبل الميلاد الذي غير المجتمع الصيني في وقته بأفكاره التنويرية التي قامت على الأخلاق والعلاقات الإنسانية فأصبحت الكنفوشية طريقة للعيش في المجتمع وهي ليست ديانة بالمعنى الاصطلاحي وإنما هي فلسفة آداب اجتماعية ومدنية دعا إليها المعلم الذي درس المجتمع الصيني فأراد بناءه على أسس إنسانية تخرجه من فساده وانحطاطه.
كذلك الحضارة الفرعونية في مصر فلقد أثرت ببحثها عن المعرفة وانفتاحها على الأمم والحضارات بحكم الجغرافيا فكان إسهامها في ميادين الفلسفة والمعرفة والأخلاق والتحولات كبيراً يقول أحد حكماء مصر القديمة: «افتح قلبك للعلم وأحبه كما تحب أمك فلا يعلو على الثقافة شيء».
قامت التحولات عبر القرون على القدرة على التأثير والمنتصر دائما هو العنصر المؤثر ولو كان منهزماً عسكرياً لأن قدرته على تغيير ثقافة الآخرين وأنماط حياتهم صنعت منه بطلاً، وقد حدث ذلك للفكر اليوناني الذي غير الفكر الروماني بالرغم من احتلال الرومان لأثينا «15» قرناً منذ بداية عام «146» قبل الميلاد ولكن أثر الثقافة اليونانية على الحضارة الرومانية كان واضحاً لانفتاح الحضارة الإغريقية ولقوة ثقافتها، لذلك قيل «أن حد الفكر أمضى من حد السيف»، تلك الثقافة كانت ثمرة انفتاح اجتماعي وفكري وسياسي، فلقد ضرب أفلاطون «427 348» قبل الميلاد، في الآفاق من أثينا إلى مصر وإلى صقلية في جنوب إيطاليا. والكلمة المعروفة «أكاديمية» تعود للفيلسوف أفلاطون الذي اختار لنفسه قطعة أرض تقع على نهر كيفيسوس الذي كان يملكها رجل اسمه أكاديموس فبنى عليها مدرسة لتعليم طلابه فيها.. بدلاً من السير معهم في الشوارع كما كان يفعل أستاذه سقراط ومن ذلك العهد عرف اسم اكاديمية نسبة إلى المؤسسات العلمية.
الديانات السماوية أصلحت وأثرت وغيرت وصنعت «تحولات» تاريخية عظيمة وعنصر «الانتفاح»، كان واضحاً فيها. لقد أثرت المسيحية في البداية وكان لها مبادئ تدعو للأخلاق والعدل والمحبة ومحاربة الظلم والقسوة. لذا، كان لها تأثير كبير في الأماكن التي اجتاحتها لكن بقيت تعاليمها في القرون الثلاثة الأولى محدودة نتيجة الاضطهاد السياسي إلى أن جاء عهد الملك قسطنطين الذي حكم من «306م إلى 371»، أعلن الملك المذكور عام 313م مبادئ منفتحة مثل حرية العبادة للجميع وإنهاء محاكمة المسيحيين وإعفاء القساوسة من الضرائب وبناء الكنائس على حساب الدولة وجعل يوم الأحد اجازة رسمية، كما أنه أعلن الدين المسيحي دينا رسميا للدولة لأول مرة في التاريخ، ذلك الملك المنفتح رفع الاضطهاد عن المسيحيين وكان يلقى بهم من أعدائهم طعاماً للوحوش الضارية أمام الناس فانطلقت المسيحية في الآفاق وإن كانت لم تتخلص من الرهبنة والعزلة والأفكار الخاطئة لكنها بالنسبة لغيرها من المعتقدات البشرية كانت جذابة ومؤثرة. المسيحية نفسها كغيرها من الحضارات والأديان والمبادئ شهدت تحولات كثيرة قامت على الانفتاح وحركة مارتن لوثر في أوروبا من أبرز الحركات الإصلاحية التي اجتاحت أوروبا وانتقلت إلى أمريكا الشمالية وكانت ضد فكرة صكوك الغفران التي راجت في القرون الوسطى وتدعو إلى زواج القساوسة وإلى التخفيف من الطقوس التي تفرضها البابوية في روما.
سطعت شمس الإسلام في القرن السادس الميلادي فأحدثت أكبر تحول في تاريخ البشرية. انطلق الإنسان من عقال الجهل والخرافة والقبلية والإقليمية إلى رحاب الله الواسعة التي تمنح الصفاء والنقاء والعزة والقوة والسيادة واستطاع المسلمون أن ينافسوا أفكار الاغريق والرومان والمسيحيين والفرس والمجوس وأن يكسبوا البشر والأرض لأن المبادئ «التنويرية»، التي حملها الإسلام في طياته في السلم والحرب للإنسان والجماعة وللحاكم وللمحكوم للرجل وللمرأة للعربي ولغير العربي شكلت شحناً من الأنوار القوية التي هيأت الإسلام للسيطرة في خلال قرن واحد.
دعا الإسلام إلى الانفتاح الواعي المثمر الذي اخترق حيطان الحضارات فبنى أمة عزيزة منيعة. مر الإسلام ذاته عبر العصور على منعطفات تاريخية مختلفة كان «الانفتاح الثقافي»، يشكل المفتاح للتحول الاجتماعي والسياسي والعسكري، عصر المأمون شهد انفتاحاً ثقافياً غير مجرى التاريخ البشري، ترجمت الكتب وأنشئت المكتبات ودور العلم مثل دار الحكمة مما كان له الأثر البالغ في حياة المسلمين وحضارتهم إلى اليوم.
تواصلت الإنجازات الحضارية تغذيها المؤسسات الفكرية والروحية آنذاك مثل قصور الأمراء وقصور الخلفاء ودكاكين الوراقين والمكتبات العامة والمدارس النظامية وكانت الروح السائدة هي الجد والاجتهاد والتواصل والانفتاح على مصادر المعرفة داخل وخارج المجتمع الإسلامي وكانت الحضارة الإسلامية في الأندلس قمة الانفتاح الذي نقل الغرب من مرحلة إلى مرحلة.
غلبت على المسلمين نزعة «الانغلاق»، فتراجعوا واضمحلوا ثقافياً وعسكرياً وسياسياً، ارتضوا الحفظ وشرح المتون والتعليق في الحواشي وأصبحوا منطوين على أنفسهم يخشون الجديد ويحبون التقليد ويمجدون الماضي ويعرضون عن المستقبل فانكسرت شوكتهم وذابت حضارتهم وأصبحوا عالة على الأمم يقلدونها ويحذون حذوها.. يستجدون من أعدائهم العدل والإنصاف بل ويعتمدون عليهم في تأمين لقم المعايش وأمن الأوطان.
إن الانغلاق مهما بلغت فوائده دليل خوف وضعف كما أنه مؤشر قوي على الانحراف عن الطريق السوي. الذين خدموا البشرية قديما وحديثاً كانوا «منفتحين»، على العلم والعالم، والعصور الإسلامية الزاهية تحققت بسبب الحفاظ على مبادئ الدين الحنيف مع انفتاح على العلم والعالم والحركات الإصلاحية التي صنعت التحولات التاريخية في بغداد ودمشق والقاهرة وصقلية الأندلس والقسطنطينية كانت ذات نزعة اجتهادية انفتاحية تخطت الأفكار السائدة وعالجت المشكلات من منظور تجديدي واضح.
بكل وضوح لا يمكن لدعوة إصلاحية أن تنجح ولم يحدث ذلك تاريخياً دون إعادة النظر في السائد من الأفكار والممارسات والعقائد والعادات .. تلك هي الميدان المستهدف للتغيير في كل زمان ومكان.
ثم إن القرن الماضي شهد تحولات هامة صنعتها قيادات فكرية واجتماعية وسياسية ذات نزعة حضارية تجديدية خالفت السائد من الأفكار والأعراف فاستطاعت أن تحقق الإصلاح المنشود أو بعضه. لنأخذ من العلماء الكواكبي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبدالرحمن بن سعدي وعبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين رحمهم الله كانوا أصحاب نزعة انفتاحية تجديدية.
لقد عاصر المجددين كما هو معروف علماء وقادة كثر ربما يفوقونهم في العلم والحفظ والحظوة عند السلطة، ولكن نسيهم التاريخ، وحق له ذلك، لأنهم كانوا أو بعضهم منغلقين، والحياة لا تعترف بالجمود والانغلاق وإنما تعترف بالحركة والانفتاح.
|
|
|
|
|