قال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها طاهر بن الحسين العلوي:
1 أعيدو صباحي فهو عند الكواعب
وردّوا رقادي فهو لحظ الحبائب
2 فإن نهاري ليلة مُدلهمّة
على مقلة من فقدكم في غياهب
يقول العكبري في شرح البيت الأول: الكواعب: جمع كاعب، وهي الجارية التي قد علا نهدها. والحبائب: جمع حبيبة. والمعنى : قال ابن جني: ردوا الحبائب والكواعب ليرجع صباحي، وأبصر أمري، ويرجع نومي إذا نظرت إليهن. وقال ابن فورجة: دهري: ليلي كله، ولا صباح لي إلا وجوههن، وليلي سهر كله، ولا رقاد لي حتى أراهن.
ويقول العكبري عن البيت الثاني: المدلهم: الشديد الظلمة. والغياهب: جمع غيهب، وهي الظلمة الشديدة: وفرس أدهم غيهب: إذا اشتد سواده. والغهب )بالتحريك(: الغفلة. والمعنى: يريد أنه لايهتدي إلى شيء من مصالحه ، فلهذا جعل نهاره ليلاً وقد عمي لحيرته.
وقال المتنبي في قصيدة قالها وقد أراد الانصراف من عند سيف الدولة:
3 يقاتلني عليك الليل جداً
ومنصرفي له أمضى السلاح
4 لأني كلما فارقت طرَفي
بعيد بين جفني والصباح
يقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يريد أنه يتنازع هو والليل، فالليل يأمره بالانصراف، وهو لا يطيعه ، فيقول: إذا انصرفت فقد مكنت الليل من مناقشته عليك إياي، فالليل يمنعني من لزوم مجلسك، لافتقاري إلى النوم، ويخفيني عنك، فإذا انصرفت عنك، فقد أعطيت الليل ما أراد، فكأني قد أعطيته أقوى سلاح له يقاتلني به.
ويقول العكبري عن البيت الرابع: المعنى: يريد: أني إذا فارقتك ولم أرك طال ليلي عليّ، فبعد ما بين جفوني والصباح. وقال الواحدي: ولو قال بين عيني والصباح لكان أظهر، لأن الصباح إنما يرى بالعين لا بالجفن. وتلخيص المعنى: إني أحبك، فلا أقدر أن أفارقك، وإذا فارقتك طال ليلي، وسهرت إلى الصباح شوقاً إلى لقائك.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها محمد بن عبيد الله العلوي:
5 بئس الليالي سهرتُ من طربي
شوقا إلى من يبيت يرقدها
يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد ذم الليالي التي سهر فيها ولم ينم، لما أخذه من القلق وخفة الشوق إلى من يحب، وهو كان يرقد الليالي، لأنه كان خالياً من الشوق، لايجد من أسباب امتناع الرقاد مايجده العاشق، وأين الخليّ من الشجيّ.
وقال أبو الطيب في قصيدة قالها في صباه:
6 بعودة الدولة الغراء ثانية
سلوتُ عنك ونام الليل ساهره
7 من بعد ما كان ليلي لا صباح له
كأن أول يوم الحشر آخره
يقول العكبري عن البيت السادس: المعنى: يقول: لما عادت دولة هذا الممدوح وذلك أنه كان عُزل عن عمل، ثم عاد إلى عمله سلوت حبك )حب محبوبته( ونمت الليل بعد ما كنت أسهره، وهذا نقص، لأن المحب الصادق لاينفك عن المحبوب ولا يسلوه، أحسن إليه أم أساء. ويقول العكبري عن البيت السابع: المعنى: يقول: من بعد ما كنت أقاسي من الهم والحزن مايسهرني، فيطول عليّ الليل، حتى كأن ليلي متصل بيوم الحشر. وهذا من أحسن الكلام.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها أبا العشائر:
8 قصّرتْ مدة الليالي المواخي
فأطالت بها الليالي البواقي
يقول العكبري في شرح هذا البيت: المواضي: جمع ماضية والبواقي: جمع باقية. والمعنى: يقول: قصرت الليالي الماضية بالوصل، وأطالتها بالهجر، وأيام الوصال أبداً توصف بالقصر، وأيام الهجر بالطول،وإنما طالت عنده لأجل تذكره وتحسره على ليالي الوصال.
لقد أشار أبو الطيب في بيتيه الأول والثاني من أبياته الثمانية السابقة إلى الصباح وإلى الليل وإلى النهار، وهذه فترات زمنية معروفة ومحسوبة، ولكنها طالت وتمددت بالنسبة له، ولم يعد يميز بينها في الطول والامتداد لأن فكره كان مشغولاً وكان في حالة من الترقب والانتظار لعل وعسى أن يأتي صباحه ويرى حبائبه. وهنا فقد خلط ومزج الشاعر بين طول الزمن وامتداده والحالة النفسية، فحالة الشاعر النفسية جعلت صباحه بعيدا، ونهاره ليلة مدلهمة طويلة. ولقد أورد الأيوبي )1401ه 1980م( قولا للكاتبة الأمريكية فيرجينا وولف التي تقول فيه: يعمل عقل الإنسان بغرابة في جسد الزمن، فالساعة متى أقامت في عنصر الروح البشرية العجيب يمكن مطها إلى خمسين أو مائة مرة من طولها الدقائقي «أليس شاعرنا لا صباح له» ، ومن ناحية أخرى، يمكن التمثيل على الساعة بدقة بواسطة مؤقتة العقل في ثانية واحدة. وبين الشاعر المتنبي في بيتيه الثالث والرابع علاقة الزمن بالراحة النفسية، فوجود أبو الطيب بجانب صديقه سيف الدولة أعطاه فرصة بالحديث المسلي معه، فمر الزمن بسهوله ويسر، ولو كان وحده لانصبت عليه الأفكار من كل صوب فطال ليله. ووضح الشاعر في بيته الخامس العلاقة الوثيقة بين الزمان وحالة الإنسان النفسية، فشاعرنا كان ساهراً قلقاً مهموماً من أجل فراقه لمحبوبه وابتعاده عنه ولهذا فليله طويل، بعكس محبوبه الذي يبدو من قوله أن قلبه كان خاويا من الحب وصروفه، فلم يفكر، ولم يهتم فقصر ليله بنومه ورقاده. وأشار الشاعر في بيتيه السادس والسابع إلى حالتين متناقضتين بالنسبة لعلاقة الزمن بالحالة النفسية، ففي بيته السادس بين أنه لما عادت دولة ممدوحه، سلا عن محبوبه ونام ليله، أما في بيته السابع فقد بين أنه لما كان مهموماً ومنتظراً ومترقباً صار ليله سرمديا لا صباح له، كان هذا الليل متصلا بيوم الحشر، وهو يوم لا نهاية له في الطول، وهنا فقد أشار الشاعر بصورة مباشرة إلى الامتداد اللامحدود بالنسبة للزمن عندما تكون حالة الإنسان النفسية مهيأة لذلك. ووضح أبو الطيب في بيته الثامن أن ليالي الفرح والسرور والسعادة تمر بسرعة لأن الإنسان خلالها يكون فكره منصباً على سروره وفرحه وسعادته، فلما فقدها صارت لياليه طويلة، وأصبح فكره منشداً إلى زمن السرور واللهو. وهنا فقد جمع لنا الشاعر حالتين من حالات الزمن، الزمان الماضي، والزمن الحاضر، وكيف أن عقل الإنسان يسترجع ويعيد ما مضى من زمانه.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها علي بن ابراهيم التنوحي:
1 أحاد أم سداس في أُحاد
لييْلتنا المنوطة بالتناد
2 كأن بنات نعش في دُجاها
خرائد سافرات في حداد
3 أفكر في معاقرة المنايا
وقوْد الخيل مشرفة الهوادي
يقول العكبري في شرح البيت الأول: المنوطة: المتعلقة. والتناد : يوم القيامة، لأن النداء يكثر فيه . والمعنى: قال الواحدي في كتابه: قد أكثروا في معنى هذا البيت، ولم يأتوا ببيان مفيد، ولو حكيت ماقالوا فيه لطال الكلام، ولكن أذكر ما وافق اللفظ من المعنى، وهو أنه أراد: واحدة أم ست في واحدة، وست في واحدة: إذا جعلتها فيها كالشيء في الظرف، ولم يرد الضرب الحسابي، وخص هذا العدد، لأنه أراد ليالي الأسبوع، وجعلها اسماً لليالي الدهر كلها، لأن كل أسبوع بعده أسبوع آخر إلى الدهر، فكأنه يقول: هذه الليلة واحدة ، أم ليالي الدهر كلها جمعت في هذه الليلة الواحدة، حتى طالت فامتدت إلى يوم القيامة. وقوله «لييلتنا» بالتحقير، فهو تحقير تعظيم وتكبير. ويقول العكبري عن البيت الثاني: بنات نعش: سبع كواكب معروفة. والخرائد: جمع خريدة، وهي الجارية الحيية. وقوله «سافرات» هن اللاتي كشفن عن وجوههن، ومنه إسفار الصبح، وهو أن ينكشف عن الظلمة، والحداد: ثياب سود تلبس عند الحزن. والمعنى: أنه شبه الجواري الكاشفات عن وجوههن بهذه الكواكب في ظلمة الليل، وهذا من بديع التشبيه. ويقول العكبري عن البيت الثالث: أصل المعاقرة: الملازمة، أي تكون في عُقر دارها وتريد المعترك. ومشرفة الهوادي: طوال الأعناق. والمعنى: يقول: طالت عليّ هذه الليلة التي ذكرها في أول القصيدة، مما أفكر في ملازمة المنايا، وقود الخيل إلى الأعداء.
لقد أشار أبو الطيب في بيته الأول إلى الليالي، والليالي ما هي إلا تكرار لظواهر فلكية، فالليالي وهي جزء من اليوم تعطينا الأسبوع، والأسابيع تعطينا الشهور، والشهور تعطينا السنوات، والسنوات تعطينا القرون... وهكذا دواليك فيما يخص الزمن. ونحن نعرف أن أوقات الليل والنهار، والأسبوع والشهر والسنة محددة من الناحية العددية الطبيعية اعتماداً على ما صنعه الإنسان بحسابه للزمان باعتماده على الظواهر الفلكية الكونية المتكررة، ولكن الإحساس الشعوري النفسي للإنسان بالنسبة للزمن حتى ولو كان من الناحية الحسابية قصيراً يمكن أن يجعل الزمن يمتد إلى ما لا نهاية. ويقول الشاعر في بيته الثاني: أن بنات نعش في ظلام تلك الليلة كأنها جوار كاشفات عن وجوههن.. والمعروف لنا أن النجوم تضيء وتسير في مسيرها في عرض السماء والذي قدره الله لها. ويمكن أن نقول في هذا الصدد اعتماداً على ما قاله الشاعر بأن ليلته كانت طويلة لا نهاية لها، وهذا يعنى أن بنات نعش قد توقفت عن الحركة لأن الزمان كله توقف، وسبب امتداد ليلة شاعرنا، لأنه وكما يقول في بيته الثالث كان يفكر بركوب جواده وخوض المعارك للفتك بأعدائه لتحقيق مآربه وطموحاته..
وقال المتنبي في قصيدة قالها وقد خرج أبو شجاع يتصيد:
1 ما أجدر الأيام والليالي
بأن تقول ما له ومالي؟
يقول العكبري في شرح هذا البيت: تقول: فلان جدير بكذا، أي خليق. وأنت جدير بكذا. والجمع: جدراء وجديرون. وقوله «ومالي»، وقد ذكر جمعين الأيام والليالي، وكان حقه أن يقول: ومالنا، إلا أنه ذهب بالجمعين إلى الدهر، فكأنه قال: ما أجدر الدهر. والمعنى: يريد: أن الدهر خليق بأن يقول: ما للمتنبي ومالي، يتظلم الدهر مني ولا أتظلم منه، لأني أكلف الليالي والأيام ماليس في وُسعهما. والناس يتظلمون من الدهر، وهو يقول: الدهر حقيق بأن يتظلم مني، لأني أظلمه، أكلفه ما ليس في وسعه.
وقال المتنبي في قصيدة قالها لما أوقع سيف الدولة ببني عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب حين عاثوا في عمله:
2 إذا صرف النهار الضوء عنهم
دجا ليلان: ليل والغبار
3 وإن جُنْحُ الظلام انجاب عنهم
أضاء المشرفيّة والنهار
يقول العكبري عن البيتين الثاني والثالث: المعنى: قوله «المشرفية والنهار» يرية: نهارين: ضوء السيوف والنهار، أي إذا أظلم الليل دخلوا في سواده وسواد الغبار، كأن هناك ليلين، فإذا انجاب الظلام صار نهارين.
يقول أبو الطيب في بيته الأول من أبياته الثلاثة السباقة: الدهر أيام وليال، وهي ظواهر كونية متكررة متعاقبة، فالنهار والليل تتعاقب وتتوالى في حركة مستمرة أزلية، وهي الدهر بعينه. وقد يلوم الإنسان الدهر ويسبه بسبب مايحدث له من مصائب ونكبات ومحن، وهذا ما فعله الشاعر بالنسبة للدهر، ولكن الدهر يقول له وللناس: أنا لم أفعل شيئاً بكم، وأن مايحدث لكم من مصائب فهو منكم وإليكم. وهنا وضح الشاعر أن الدهر أو الزمان هو تكرار للأيام والليالي، وأن مايحدث فيه خارج عن تصرفاته. وقد ربط شاعرنا المتنبي في بيتيه الثاني والثالث بين ظلام الليل لغياب ضوء الشمس، وازدياد هذا الظلام نتيجة لغبار المعركة المرتفع في عنان السماء لحجبه ما يمكن أن يصل إلى الأرض من ضوء وكواكب أخرى غير الشمس، وربط أيضاً بين شدة ضوء النهار بسبب لمعان وبريق السيوف. فضوء شمس النهار عندما يضرب على السطوح الناعمة ينعكس منها أشد بياضاً واجهاراً للعيون، وهذا ما حدث أثناء المعركة في وضح النهار. ومن هذين البيتين نتبين قوة وعظمة ملاحظة شاعرنا المتنبي بما يحدث أمامه من ظواهر، فهو هنا استخدام ظواهر زمنية معينة وهي الليل والنهار وربط بينها وبين ظواهر مفتعلة ، فالليل ازداد سواده بسبب ما ارتفع من الغبار بفعل الإنسان وحوافر خيله، والنهار ازداد بريق ضوئه بسبب استخدام الإنسان للسيوف الصقيلة البراقة..
وقال الشاعر في قصيدة يرثي بها أخت سيف الدولة:
1 فلا تنلْك الليالي إنّ أيديها
إذا ضربن كسرن النبع بالغرَب
2 ولا يعنَّ عدوا أنت قاهره
فإنهن يصدن الصقر بالخرَب
3 وإن سررن بمحبوب فجعن به
وقد أتينك في الحالين بالعجب
4 وربما احتسب الإنسان غايتها
وفاجأته بأمر غير محتسب
يقول العكبري في شرح البيت الأول: النبع: شجر صلب ينبت في رؤوس الجبال، تتخذ منه القسي. والشوحط ينبت في أسفل الجبال. والغرب: نبت ضعيف ينبت على الأنهار. والمعنى: يريد: أنتم )عائلة سيف الدولة( بين الملوك كالقنا )الرماح( على سائر القصب، ففضلكم عليهم كفضل القنا على القصب. ثم دعا له ألاّ تناله الليالي، فإنها إذا ضربت كسرت القوي بالضعيف. وهذا مثل حسن. ويقول العكبري عن البيت الثاني: الخرب: هو ذكر الحُبارى. والمعنى: يدعو له ألاّ تعين الليالي من عاداه، فإنهن يصدن القوي بالضعيف. وهذا مثل حسن مثل البيت الأول. ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يقول: إن سرتك الأيام بمحبوب فجعتك بفقده إذا استردته. وقد أرينك العجب حيث سررنك ثم فجعنك، فهي سبب للسرور والفجيعة. وهذا عجب أن يكون شيء واحد سبباً للسرور والفجيعة. ويقول العكبري عن البيت الرابع: المعنى: يريد أنه لا يأمن فجعات الدهر، يحسب الإنسان أن المحن قد تناهت فيأتيه شيء لم يكن في حسابه.
نسب أبو الطيب في بيته الأول من أبياته الأربعة السابقة الحوادث التي تصيب الإنسان في حياته إلى الزمن الليالي ولذلك دعا لسيف الدولة بطول البقاء، وألاّ تصل إليه الليالي بأيديها، لأنها تصيد القوي بالضعيف. ولكن وكما هو معروف بالنسبة للإنسان أن ما يحدث له في حياته من قوة وضعف، وفقر وغنى وصحة ومرض وحياة وموت ما هي إلا أمور عادية قدرية لاحيلة له ولا للزمن في حدوثها. وبين شاعرنا المتنبي في بيته الثاني أن ما يحدث للإنسان في حياته بعكس ما كان يتوقعه أو يعمل له، فقد يصير القوي ضعيفا والضعيف قويا.. وهكذا دواليك.. والإنسان وكما يقول الشاعر في بيته الثالث قد تمر عليه في حياته أوقات سعيدة وأوقات حزينة... وقد يحدث للإنسان عكس ما يريده في حياته وهذا ما أشار إليه أبو الطيب في بيته الرابع. مما سبق نتبين أن شاعرنا قد ربط بين حياة الإنسان وهي زمن والحوادث والأمور التي تمر عليه في حياته، وقد ينسبها الناس إلى الزمن ولكن الزمن ما هو إلا تتابع لظواهر فلكية محددة...