لاشك ان لكل انسان وخاصة المهتمين بالشعر في المقام الاول والادب ككل توجها وانتماء لشكل ادبي معين او لعصر من العصور الادبية او لمرحلة من مراحل ذلك العصر واقصد بذلك الحدود الزمانية والمكانية فالبعض منا يفضل العصر الجاهلي لما فيه من عبق تراثي جميل والبعض الآخر يرى ان شعر صدر الاسلام هو الانقى بعد تهذيب الاسلام له وآخرون يرون ان الشعر العباسي هو الأفضل لما احتوى من عدد ليس بيسير من عمالقة الشعر العربي عامة وآخرون ينتمون الى الشعر الاندلسي لما فيه من اشكال ادبية جديدة كفن الموشحات، وآخرون يعشقون الأدب العربي الحديث لما فيه من حداثة في شكله ومضمونه.
ولكن - وبالنظرة الشخصية - أرى ان الادب الجاهلي هو لبنة الأساس التي على أساسها اتضحت ملامح الشعر وكيفيته فهو أدب له مذاق خاص وله نكهة مختلفة تميزه عن غيره حيث اننا نتصفح ونقلب ذكريات ذلك العصر الذي يعتبر وعلى رأي أغلب الادباء والنقاد انه العصر الاول الذي بدأت فيه الكتابة في الشعر بالشكل الحقيقي بالاضافة الى انه كان يحمل في طياته الأساليب الحياتية متمثلة في القيم والعادات والتقاليد التي كانت سائدة في ذلك العصر الذي سبق الاسلام بفترة ليست بالكثيرة بالاضافة الى اشتياق القارىء الى معرفة المستوى العقلي والفكري واللغوي الذي جعلهم يكتبون بهذه القوة التي أوصلت اشعارهم مرورا بالعصور الأدبية الى عصرنا هذا وان كان في العصر الجاهلي وحشية وغرابة في بعض كلماته وألفاظه ولا نغفل نقطة مهمة وهي ان الاسلام أقر بعضا من العلاقات الاجتماعية والانسانية التي كانت سائدة في ذلك المجتمع وتلك الحقبة ومن الأمثلة : الاشادة بالشخص الذي يقدم المساعدة ويبسط الخير ويعلن التسامح بين الناس ويوجه الناس الى احتذاء حذوه ومن الأمثلة الشاهدة على هذا ما ذكره زهير بن ابي سلمى عن «هرم بن سنان المري والحارث بن عوف» واللذين أصلحا ما دمرتاه القبيلتان بسبب «داحس والغبراء فمدحهما زهير وأثنى عليهما حيث قال:
سعى ساعيا غيض بن مرة بعدما
تبزل ما بين العشيرة بالدم
يمينا لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
ومن تلك الاغراض التي أقرها الاسلام أيضا شعر الحكم والأخلاق نجد ان هنالك قصائد قد اكتنزت بين أبياتها حكما والتي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف «وان من الشعر لحكمة وان من البيان لسحرا».
يقول زهير بن أبي سلمى - ذلك الشاعر الحكيم في معلقته:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن لا يزل يترحل الناس نفسه
ولا يعفها يوما من الذم يندم
ومن يغترب يحسب عدوا صديقه
ومن لا يكرم نفسه لا يكرم
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
وهنالك شاعر آخر من أصحاب المعلقات وهو طرفة بن العبد، الذي كانت قصائده لافتة للانتباه لما فيها من رؤية ثاقبة للحياة يقول طرفة بن العبد:
ستبدي لك الايام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويقول حاتم الطائي مناشدا بذلك الصفح عن الأقربين والمحافظة على مودتهم والدعوة الى اكرام النفس والمحافظة على الكرامة:
تحلم عن الادنين واسبق ودهم
ولن تستطيع الحلم حتى تحلما
ونفسك أكرمها فانك ان تهن
عليك فلن تلق لها الدهر مكرما
ومن الأغراض التي كانت في العصر الجاهلي وأقرها الاسلام شعر الحماسة والفخر، وهو الذي كان يلقيه شعراء المسلمين قبيل المعركة ليبثوا في قلوب المسلمين روح الحماسة والاقدام وينزعوا من قلوبهم رهبة المشركين يقول الحصين بن الحمام المري:
تأخرت أسبق الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل ان أتقدما
يرى الشاعر ان الحياة الحقيقية في الاقدام.
ويقول عنترة بن شداد في معلقته الشهيرة التي يذكر فيها صفات الشجاعة والاقدام:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
ان كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة انني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولو أمعنا النظر في اغلب تلك القصائد لوجدنا ان هناك نبرة حزينة تنبثق من حنجرة الشاعر مباشرة دون قصد ولوجدنا أنات حارقة نلمسها في معظم القصائد الجاهلية والتي كان معظمها يتمثل في مفارقة المعشوق والوقوف على الاطلال والدمن وذكر منازل الحبيب واطلاق البصر في البحث عن الظعائن كل هذه الامور كانت السبب المباشر في حزن الشعراء الجاهليين وهذا ما نجده عند اغلب شعراء الأدب الحديث، حيث نجد ان معظم الشعراء في عصرنا هذا قد تأثروا ببعض تلك الأغراض التي كان الشعراء الجاهليون يكتبون فيها ان لم يكن اغلبها يقول امرؤ القيس في معلقته التي بدأها بالوقوف على الديار وبكاء الاطلال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ويقول عنترة أيضا في معلقته التي يذكر فيها الديار:
هل غادر الشعراء من متردم
ام هل عرفت الدار بعد توهم
ويقول طرفة بن العبد في معلقته التي بدأها بمقدمة طللية يذكر فيها منازل خولة:
لخولة أطلال ببرقة تهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
بذلك وبعدما استعرضنا بعضا من أشهر الأبيات التي احتوتها معلقاتهم نجد ان أغلب هذه القصائد تلتقي التقاء كبيرا مع تلك الأغراض التي أقرها الاسلام بعد مجيئه وحثنا عليها ديننا الاسلامي الحنيف.
وبذلك نكون قد توصلنا الى ان الادب الجاهلي هو الأساس الذي بنت عليه العصور الأدبية الاخرى لبنتها متشربة معانيه وألفاظه وأغراضه من بعد ذلك العصر حتى عصرنا هذا.