| مقـالات
.. كنت قبل أسابيع عدة، في معية مجموعة من الزملاء والأصدقاء، من )عُصبة الأدباء(، ورواد المنتدى الأسبوعي الشهير ب)الإثنينية(، ذلك الذي ينعقد جمعه، في دار الشيخ محمد سعيد طيب في محافظة جدة، وكانت وجهتنا العاصمة المقدسة، مكة المكرمة، أم القرى، وعاصمة المدائن كافة، ومهبط الوحي المبين، ومسقط رأس النبي الأمين، ومبعث الرسالة المحمدية الشريفة. لقد كانت هذه الزيارة حقيقة، من الزيارات النافعة المباركة، وتمت بدعوة كريمة من سعادة الشيخ عبدالرحمن فقيه، العَلم المعروف، والوجيه المكي الشهير.. دعا جمعاً من الأدباء والمثقفين والشعراء والصحافيين وأرباب الكلمة في البلاد، والغاية، اطلاع هؤلاء المفكرين والمؤثرين برأيهم ومشورتهم، على آخر التصاميم الهندسية الفنية لأكبر وأعظم مشروع استثماري في مكة بعد مشروع شركة مكة الأول، وهو بلاشك أعظم مشروع عمراني في البلد الأمين، بعد مشروع خادم الحرمين الشريفين لتوسعة الحرم المكي الشريف.
.. لقد كانت مفاجأة لي، أن أرى في وقت واحد، مشهدين متضادين في آن واحد، لجبل هو من أكبر وأشهر جبال مكة حرسها الله. وهناك مشهد ثالث، سوف يأتي الكلام عليه لاحقاً في هذا السياق.
.. المشهد الأول، هو صورةالجبل في وضعه الحالي من سكن عشوائي، ودور خربة متراصة آيلة للسقوط، وزرائب وحظائر، وطرق جبلية متعرجة يطرقها المارة بصعوبة. لقد بدا لنا كل هذا وغيره كثير، من خلال )فيلم الفيديو( الذي تم عرضه أمامنا، قبل رؤية المشهد المستقبلي لجبل عمر، والذي يجري الترتيب له بدقة بهمة واقتدار، من أجل هذا الجبل المكي التاريخي الشهير. شاهدنا ناساً من كافة الأجناس والقارات والفئات، سكاناً تضيق بهم غرف خشبية وأخرى من الحديد، ورأينا كيف تمتلىء الزوايا والأزقة، بأطفال ونساء وشيوخ وعجائز في حالة لا تصدق. وما يثير أكثر في هذا المشهد الغريب، وجود دكاكين للتبضع وشبه مطاعم، ومفارش تعرض عليها أطعمة مكشوفة، وسط أكوام من الزبائل والقمائم والقاذورات، وأشياء أخرى لم أكن أتوقعها، ولو حدثت بها قبل ذلك، لما صدقت، لأني لم أصعد هذا الجبل في يوم من الأيام، ولم أر ما تمكنت الكاميرا من رؤيته ونقله في هذه اللقطات التي تثير أكثر من سؤال حول الأحياء الشعبية المنسية، سواء في العاصمة المقدسة، أو في غيرها من المدن الأخرى.
.. بعد أن أرانا المضيف الكريم الشيخ عبدالرحمن فقيه، المشهد الحالي لجبل عمر، أخذنا الى مشهد آخر يحمل الفرح والأمل، ويبعث على الغبطة والسرور.. أخذنا الى المقر المخصص لعرض التصاميم الهندسية الفنية المجسمة ل)جبل عمر( في الزمن القادم.. هذا هو المشهد الثاني، مشهد المستقبل، الذي عمل الشيخ عبدالرحمن فقيه وشركة مكة، علي بنائه انطلاقا من تلك الصور المحزنة التي شاهدناها في المشهد الأول، كان الشيخ فقيه، يسير أمامنا في الطريق الى كل مجسم من المجسمات الثلاثة عشر،وهو يتوكأ على عصاه الغليظة، ويشير بها من حين لآخر نحو أدق التفاصيل في الرسوم والجسوم المعروضة أمامنا هنا. كان أمراً مدهشاً أن أرى الشيخ عبدالرحمن فقيه، ملماً بكل صغيرة وكبيرة في مراحل هذا المشروع العملاق، يسير بخطى مثقلة، وهو يحمل بين جوانحه، هذا الحلم المبهج. حلم كبير عظيم، ربما فاق )جبل عمر( نفسه، في عظمته وكبره وكبريائه.. وهذا الرجل الذي يسير ببطء أمامنا، هو المهموم على الدوام بإدارة شركة مكة، وشركات استثمارية أخرى له، تأتي في مقدمتها مزرعته للدواجن.
.. إن عبدالرحمن فقيه هذا، هو العقل المفكر والمخطط لمستقبل جبل عمر، الذي عرف كيف يسخر قدراته لتطوير مكة وإنمائها، مستفيدا من السياسة الطموحة للدولة في هذا الخصوص، ومن التشجيع والدعم، والتسهيلات الكبيرة، التي تمنحها الحكومة لمثله من الجادين والمخلصين والمحبين لبلادهم ولأبناء جلدتهم.
.. إن هذا المشروع الاستثماري الضخم، الذي يقوده الشيخ عبدالرحمن فقيه، وتنفذه شركة مكة للتعمير، سوف يكون علامة مهمة فارقة، ليس في تاريخ تنمية وعمران أم القرى فقط، وإنما على صعيد المشاريع الاستثمارية والعمرانية في المملكة. إنه سوف ينفذ في خمس سنوات، ويتكلف مبلغاً كبيراً يصل الى )ستة آلاف مليون ريال(.وقد شاهدنا في هذا المعرض الهندسي، الذي يعرض مجموعة من الأفكار الهندسية الجميلة، تصاميم فنية مجسمة، منها خمسة من جامعات سعودية، وثمانية من شركات عالمية معروفة، وكانت في مجملها، تسعى جادة وجاهدة، الي تضمين الخصوصية الدينية والتاريخية والجغرافية لأم القرى، وعلى وجه خاص، في الشكل العام الذي سوف تظهر عليه المباني والإنشاءات في جبل عمر.
.. وللتدليل على أهمية هذا المشروع وضخامته، يكفينا أن نعرف بإيجاز، أنه سوف يوفر )3400 غرفة فندقية( و)5390 وحدة سكنية( بديلة للدور العشوائية. ويمر من تحته طريق يصل بين منطقة الحرم والخط الدائري الثالث. وأنه يوفر مواقف للسيارات في دحلة الرشد، تتسع ل )10 آلاف سيارة(، الى جانب نفقين للمشاة من الموقع الى الحرم، ومساحة جبلية تتحول الى مدينة حديثة، وتستوعب )100 ألف ساكن(.
..هذا هو )جبل عمر( في مشهدين يمثلان الحاضر والمستقبل. فما هو ماضي هذا الجبل، أومشهده القديم عبر مئات السنين، وهو الذي ارتبط اسمه باسم سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه..؟ والذي شغل في الأشهر الفارطة، عدداً من الدارسين والمفكرين والكتاب، ومثلهم من المهندسين والمخططين والمستثمرين..؟
.. إن المصادر التاريخية والجغرافية والأدبية التي بين أيدنا، تورد أكثر من اسم واحد لهذا الجبل، فيما يشبه الخلط الذي نشأ ربما وفق أمزجة الناس الذين سكنوا الجبل عبر مئات السنين. فماذا أمامنا منها اليوم..؟
.. يقول الأزرقي في كتابه، )أخبار مكة(، وقد نقل عنه البلادي في كتابه، )معجم معالم الحجاز(، بأن )جبل عمر( هذا، كان يسمى في الجاهلية، )ذا أعاصير(. وسماه مرة أخرى )ذات أعاصير(. وقال بأنها أحداب )جمع حدب(،خلف )جبل أبو دجانة( وهو الجبل الذي خلف المقبرة.
.. والأزرقي أيضاً يقول: جبل عمر الطويل المشرف على ربع عمر. والمشرف على حق آل عمر، وحق آل مطيع ابن الأسود، وآل كثير بن الصلت الكندي. وعمر الذي ينسب إليه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر المرحوم أحمد بن إبراهيم الغزاوي في شذراته في المنهل، تحت الرقم )1619( قال: إنه عثر على اسم )جبل عَمر( بفتح العين. ثم رجح الاسم علي الفتح معللاً ذلك، أنه لم يرد في السيرة المعتبرة، أن لعمر الفاروق رضي الله عنه )جبلاً( ينسب إليه بمكة. ولا أنه كان يسكن بذروته أو سفوحه.
.. وورد اسم آخر هو ) جبل الناقة(..! تكلم عليه الغزاوي أيضا قائلاً: بأنه يطلق عليه اليوم )جبل عمر(.وقال: هو للمواجه الخارج من باب إبراهيم سابقاً. والمقبل من السوق الصغير. وأنه ربما ينسب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. أما الناقة..؟ قال الغزاوي: يوجد في رأسه تشكيل صخري يمثل الجمل أو الناقة )مقاربة(. ثم يقول الشيخ عبدالله بن محمد بن خميس في كتابه )معجم جبال الجزيرة(، بأن الناقة، حصاة هناك تشبه الجمل يصعد إليها أبناء مكة ويلعبون عليها.
..ويبدو )أن جبل عمر( له أكثر من رأس وأكثر من قمة، لذلك، أعطاه الناس،أكثر من اسم تبعاً لجهاته ونواحيه مما يليهم كل في جهته. فقد ذكر ابن خميس قال: )ثبير الزنج(، جبل المسفلة المشرف عليها من الغرب، يسمى اليوم )جبل عمر(، وهوطرفه من جهة ريع الحفائر، غرب الشبيكة، وجبل الناقة يتصل به من الشرق. ومنه جبل الشراشف مما يلي الشبيكة. قالوا: إن نساء ذلك الجبل، كن لا يلبسن على ثيابهن غير الشراشف، فسمي بذلك. ومنه في غربه الجنوبي، )جبل النوبة(، وجبال كثيرة مسماة، وغربه يسمى )جبل الحفائر(،والحفائر سفحه الذي قام عليه حي يسمى باسمه. أما )ثبير( في لغة العرب، فإنها تعني من ضمن ما تعني، الحبس والاحتباس. قال تعالى:«وإني لأظنك يا فرعون مثبورا»، ويقال: ما ثبرك عن حاجتك؟ أي ما حبسك عنها. ومنها الهلاك. قال تعالى:«هنالك ثبوراً» أي ويلاً وهلاكاً. ومن أمثال العرب: )إلى أمه يأوي من ثبر(. أي من هلك. لكن ما يناسب التسمية ل)ثبير( هنا، ويبدو أنه هو الأقرب في ظني، أن )الثبرة( تعني النقرة، تكون في الجبل تمسك الماء فيصفو فيها كالصهريج. إذا دخلها الماء خرج فيها عن غثائه وصفا. قال أبو ذؤيب الهذلي:
فثج بها ثبرات الرصا
ف، حتى تزيل رنق الكدر |
أراد بالثبرات، نقاراً يجتمع فيها الماء من السماء فيصفو بها. وعلى هذا، فإن ثبيراً )الجبل(، ربما كانت به نقرات تحفظ الماء بعد سقوط الأمطار. والله أعلم.
.. وفي كتاب )المنتقى في أخبار أم القرى( ، الذي حققه وعلق وعقب عليه ابن مكة، المرحوم الأستاذ محمد بن عبدالله مليباري، فهو قد نقل عن ياقوت قوله: بأن جبل عمر هو شق من )ثبير الزنج(.. ونستفيد من هذا القول، أن )جبل عمر(، إنما هو جزء من جبل أكبر منه هو )ثبير الزنج(. و)الأثبرة( المعروفة، جبال في مكة سبعة هي: )ثبير الأثبرة في منى، وثبير الأعرج، وثبير الأحدب أو الأحيدب، وثبير الخضراء، وثبير النصع، وثبير غينا، ثم .. ثبير الزنج هذا(، وثبير ثامن في بلاد مزينة، أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم شريس بن ضمرة المزلي رضي الله عنه، وسماه شريحاً. ويأتي ذكر )ثبير( الجبل، في شعر للعرجي فيقول:
وما أنسى م الأشياء لا أنسى موقفاً
لنا ولها بالسفح دون ثبير
ولا قولها وهناً وقد سمحت لنا
سوابق دمع لا تجف غزير
أأنت الذي خبرت إنك باكر
غداة غدٍ أو رائح بهجير |
.. ثم نجد من يقول، بأن )جبل الزنج( هذا، الذي يسمى )جبل عمر(، هو )جبل النوبي(..! عرفه بذلك جمال الدين محمد جابر الله بن ظهير فقال، كما جاء في )المنتقى(: .... وأما )ثبير الزنج( ، فهو )جبل النوبي(، المعروف بأسفل مكة من جهة الشبيكة، الذي تقدم أن به مولد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما قيل. وإنما سمي بذلك الآن أي في عهد ابن ظهيرة الذي توفي سنة 986ه لأن سودان مكة كانوا يلعبون عنده. وهم النوبة. والسودان والزنوج أيضاً. فطابقت التسمية على كلا الوجهين. والشيخ عبدالله بن خميس قال: )النوبة( بدل النوبي. والمعنى على ما يظهر واحد. والله أعلم.
.. فهذا هو إذن )جبل عمر(، الجبل التاريخي العظيم، الذي ينتظره مستقبل باهر، كان في الجاهلية )ذا أعاصير( ، أو )ذات أعاصير( . ثم كان يسمى في القرون الهجرية الأولى، )جبل عمر(، ومن ثم، )ثبير( ثم اكتظ بالسكان من مختلف الأقطار، حتى أطلق عليه كل فريق منهم ما يناسبه أو ما يعجبه فيه. وتشعبت الأسماء بعد ذلك، حتى وجدنا أن كل جهة في هذا الجبل، من مرتفع أو تلة أو حدب، تأخذ اسماً يكاد يكون خاصاً بها، فظهرت أسماء من مثل: )الناقة الشراشف الزنج النوبة الحفائر( وربما غيرها.
.. أما اليوم، فنحن أمام جبل واحد هو )جبل عمر(.. فلا ناقة على رأسه يقصدها صبيان مكة ليركبوها..!، ولا شراشف على نساء فيه لا يلبسن سواها فوق الملابس..!
.. أما المشروع العملاق الذي تجري الاستعدادات اليوم لبدء العمل فيه، فينبغي أن يتكرر في بقية جبال مكة، تلك الجبال التي تكتظ بالسكان القادمين الى جوار البيت العتيق من كل حدب وصوب، والتي تنتشر على سفوحها دور كثيرة متلاصقة ومتراصة، لا تتوفر في الغالب، على أقل القليل من شروط السكنى الصحية.
.. شكراً لدولتنا العظيمة، وحكومتنا الرشيدة، دعمها للأفكار النيرة في كافة المشاريع التنموية والعمرانية. وشكراً للشيخ عبدالرحمن فقيه، قائد هذا المشروع العملاق، هذه الخدمة الجليلة والمشاريع البناءة، التي يقدمها للعاصمة المقدسة، ولزوار بيت الله الحرام.
assahm2001@maktoo b.com
fax:027361552
|
|
|
|
|