| مقـالات
فذلكات حول ريادته الأدبية:
في مجلة الدرعية التي أرأس تحريرها رفض الإخوة أن أكتب بحوثي بطريقتي في الرسم، بل بالرسم المعتاد، فقلت: سمعاً وطاعة!!.
وفي مؤسستي )دار ابن حزم( لا أنشر لأحد كتاباً إلا بالرسم المعتاد، أما منهجي فأخص به تأليفاتي.
وإذا طلبت مني الجزيرة، أو المجلة العربية الكتابة بالرسم المعتاد: فلا يسعني إلا الإجابة، أو اعتزال الصحافة.. والأمر الأخير غير ممكن، فلا بد من «سمعاً وطاعة» «1».. ولكن دعوتي إلى منهجي لن تنقطع ألبتة تأصيلاً وتطبيقاً، لأنه الحق السهل، وبرهاني موجز في العناصر التالية:
1 أن الخط العربي استقر بإجماع لاخلاف فيه ألبتة على صور حروف وصلاً وفصلاً مثل الباء فصلاً هكذا ))ب((، ووصلاً هكذا ))ب (( كما في بي و))ب(( وعكسها في مثل ))نبي(( «2».
2 صاحب هذا الإجماعَ الإجماعُ على أمور تكميلية هي الإهمال، والنقط عدداً وموضعاً، والشكل لما أشكل، والتنوين.. إلخ.
3 صاحب هذين الإجماعين الإجماعُ على أن الخط رمز لما ينطق به.
4 هذا الخط )بالعناصر السابقة( أول ما يتعلمه الأمي والصغير كتابة ونطقاً، ولا يرقى إلى تحصيل المعارف بغير ذلك.. إلا ما يحصله سماع الأمي من معرفة معرضة للضياع أو التغيير إذا لم تدون.
5 أن المعاصرين منذ النهضة العربية مجمعون على صعوبة الرسم الإملائي المعتاد، لكثرة قواعده، وتشعب صوره.
6 أن هذا الرسم الإملائي المعتاد ليس محل إجماع من القدماء.
7 أن هذا الرسم الإملائي لصعوبته أصبح مادةً مستقلة تدرس بعد دراسة الخط والهجاء.
8 أن الناشئ لو ترك وما تعلمه من رسم الحروف فصلاً ووصلاً واعجاماً وإهمالاً وتشكيلاً لما احتاج إلى مادة عويصة اسمها ))الرسم الإملائي((.
9 أن هذا الرسم شوش على الناشئ بتغيير صور الحروف التي تعلمها في الصغر، والعلم في الصغر كالنقش في الحجر، فليس فيما أجمع عليه الخطاطون رسم الألف المهموزة هكذا ))ء(( بل أجمع عليه الخطاطون رسم ألف مهموزة هكذا ))أو(( كما في )أولئك( بل تعلم الألف المهموزة المضمومة هكذا )أُ( والواو المستقلة في السطر وصلاً، أو فصلاً إذا لم تقبل الحركات الأربع فهي علامة مد إذا كان ما قبلها مضموماً.. وليس فيما أجمع عليه الخطاطون رسم الألف المهموزة المضمومة هكذا ))ؤ(( كما في هؤلاء.. إلخ.. إلخ.
10 جاء هذا التشويش والاعتداء على صور حروف التهجي من التلفيق بين الخط بعد نضجه وفنين آخرين.. الفن الأول اصطلاح نحوي يكتب المنطوق بالألف مثل سعى وفتى على الياء غير المنقوطة، ليميز بين ما أصله واوي ويائي.. والناشئ لا يعرف في الحروف ياء غير منقوطة فيضطر إلا قراءتها بالياء.. ألا ترى أن الشاعر الفحل، واللغوي المتمكن حسين سرحان رحمه الله قرأ الشنفرى الشاعر هكذا ))الشنفري(( بالياء المنقوطة بالتلفاز، فذلك جناية الرسم الإملائي المعتاد.. وهذا الاصطلاح النحوي الخاص لا يجوز أن يحكم رسماً للنحوي وغيره، وهو يعطل الكاتب من أجل مراجعة نحوية ولغوية، ليعرف الواوي واليائي قياساً وسماعاً.. وتعريف النحوي بالواوي واليائي يغني عن اصطلاح خاص يشوش على فن عام.
والفن الثاني الرسم العثماني للمصحف الإمام، فقد أخذ منه مثلاًِِ كتابة الهمزة العلامة على واو أو نبرة بدلاً من الألف، وإسقاط حرف المد في مثل السماوات وإسحاق.. إلى آخر أمثال ذلك.. الرسم للمصحف الإمام كان وقت التنزيل والخط بدائي لم ينضج بالشكل والإعجام.. كما أن هذا الرسم البدائي كمال في حق القرآن الكريم برسوم تقتضيها قراءات أخرى، إذ من شرط صحة القراءة موافقتها للرسم العثماني، ولأن ذلك الرسم البدائي هو الموجود وقت التنزيل.. والرسم الإملائي البدائي كما هو كمال في حق المصحف فهو نقص في الأمة كالأمية فهي كمال في حقه صلى الله عليه وسلم، ونقص في حق الأمة بعد أن نقلهم الشرع إلى العلم والكتابة.
11 خالف الرسم المعتاد إجماع أهل الخط على صور الحروف، وخالف الرسم الإجماع على أن الخط حسب النطق.. خالفوا ذلك بدعوى التيسير في الاختصار عند أمن اللبس، فحذفوا مده مثل ))هذا((، اختصاراً بمسوغ أمن اللبس!!.
قال أبو عبدالرحمن: ليس كل رسمهم اختصاراً، بل منه إضافة مثل واو أولئك، ومنه تغيير لا يتصف بنقص أو زيادة.. وأمن اللبس لا يسوغ الاختصار المخل، وهدم كيان الحروف العربية، بل العبرة بمراعاة اللبس الحاصل.. لا بأمن اللبس الحاصل، لأن للبس إذا أُمن الآن يحتمل غداً، لتجدد الأسماء الارتجالية والأوصاف والأسماء المنقولة عن لغة أخرى.
12 السلف بعد نضج الخط يرفعون اللبس بالشكل لما أشكل )وهذا هو الضبط القلمي(، وبالضبط النصي كقولهم، أبو الحوراء بإهمال الحاء والراء.. لتأكيد منع الاشتباه بأبي الجوزاء المعجمة، ولرفع احتمال أن الناسخ سها، فأهمل معجماً.. ومثل ذلك قولهم: بالتاء المثناة الفوقية.. وقولهم: )) المستغفل(( بصيغة اسم المفعول.
واستجدت علامات الترقيم كأقواس التنصيص، فارتفع بكل ذلك اللبس إذا أعطي الخط حقه تشكيلاً وضبطاً لما أشكل، وأُعجم المعجم، وأهمل المهمل، ووضعت علامات الترقيم.
وقبل مناقشة ماأورده الأستاذ الفاضل عبدالفتاح أبو مدين حول منهجي في الرسم الإملائي المنشور بجريدة الجزيرة العدد 10486 في 4/2/1422ه ص38 تفصيلياً: أبدي تحرجي الشديد لو كان في أمور الفكر والعلم مجاملة من معارضة أمثال عبدالفتاح، لشيء وحيد هو ريادته المتميزة في النادي الأدبي بجدة، مع ماضيه الأدبي والعلمي في الوقت الذي كنت ألعب فيه بالكعاب وأمسح أنفي بطرف كمي!!.. ريادته فيما يطرحه النادي بنشاطه المنبري، وفي دورياته وكتبه )وإن كنت محروماً من هذا العطاء إلا في بعض المرات، أو ما يزودني به بعض الأحباب جمع حِبّ بكسر الحاء ، أو ما أصوّره من بعض المكتبات كمركز الملك فيصل الخيري(.. كان طرح النادي يأخذ من التراث الذي أتخمنا بتكراره بطرف، ويعطي بكل الأطراف من الحداثة فكراً وأدباً.. بل له قصب الريادة في إصدار دورية للترجمة.. وإن كان لي من ملاحظة فهي المحاكمة والتوصيل.. أما المحاكمة فإن أمتنا العربية ناصعة الفكر بالفطرة، وليس ذلك عن تأثير البيئة الصحراوية كما كرر ذلك ابن خلدون في مقدمته، بل لفضل ذاتي عرقي إضافة إلا البيئة.. وبعد الانتقال من البداوة والأمية القلمية والثقافية والعلمية أصبح العقل العربي محاكِماً، لأن تكوّن العروبة من عشائرية إلى أمة كان بفضل الإسلام وتربيته، فاجتمع للعربي الذكاء والزكاء ما شاء الله من الزمن حتى تقاسم الأعاجم تركته من الرقعة، وأعادوه إلا البدواة والصحراء في الجملة، وإن بقيت عناصر عربية كثيرة انغمست في ترف الحضارة، ونشطت قلة قليلة من تلك العناصر للثقافة والعلوم النظرية والعلمية.. ومن القلة قِلّة قليلة أيضاً تفرغت لجوانب من العلوم البحتة انطلاقاً من الفلسفة.. ومعنى المحاكمة الذي أريده: أن فطرة العقل العربي: الأخذ بالميزة وطرح المجمل، وتيسير العلم الإنساني ونقده كما نرى في ريادة فلاسفتنا الأوائل منذ الكندي والفارابي.. إلى ابن رشد وابن باجَّة.. إلى علم الكلام المعارض الذي تبلور عند أبي حامد الغزالي، والفخر الرازي، وشيخ الإسلام ابن تيمية.. وحاجتنا إلى المحاكمة اليوم أمسُّ، لأن أمتنا لا تشتكي الغبن إلا في ثلاثٍ هن سر التفوق الدنيوي:
الأولى: الكشف الكوني في اليابسة والبحار والسماء، لمعرفة مزيد من قوانين الكون المعينة بإذن الله على التعامل مع الطبيعة، وعلى الاختراع.. ونحن في هذه مفلسون إلا من اجترار تراثي في بعض هذا المجال، ومحرومون من امتلاك وصنع أحدث الأدوات التي تزيدنا خبرة بالكون وهي مهما عظمت ظاهر من الحياة الدنيا كالمراكب الفضائية، والأقمار الصناعية.
والثانية: الاختراع والصنع، فقد نصنع الحذاء والمغزل والمخيط، والمسحاة.. ثم لا نحقق الاكتفاء الذاتي.. أما الصاروخ والذرة فدونه خرط القتاد.. حتى محاولة بعض بلادنا الإسلامية صنع الطائرة إنما هو صنع هياكل، أما الروح والأجهزة الدقيقة فلا سبيل إليها إلا بالاستيراد.
والثالثة: المعارف النظرية الثرية في تراثنا فقهاً ولغةًً وتاريخاً وآداباً ونظاماً وهي موضوع المحاكمة فإنما ينقصنا منها ما كان زيادة علم وقف عندها عطاء العقل العربي الذي لم يكن نهائياً، فحاجتنا إلا الاسترفاد من العطاء الإنساني مشروطة بجبلَّة العقل العربي في المحاكمة في أُطر ثلاث دوائر هي: الحق، والخير، والجمال، فنرفض العطاء الإنساني الجديد الذي يرفضه الحق والخير والجمال بعد استيعابنا لفلسفته المغلطائية.. ثم ننفُذ من أغوارها بنقدٍ مشرق حاسم، وذلك هو المحاكمة، فبوجود وسائل الاتصال السريعة الهائلة، ويسر التجوال على المعمورة: نصحح رحلة أمثال ابن بطوطة، وبعلم الأحياء )وثماره وقائع حسية مشهودة(: نصحح أدبيات الجاحظ في كتابه الحيوان، وبالعلم الدقيق عن نشأة اللغة لدى الطفل: نصصح كثيراً من ميتافزيقيات اللغة مع احتفاظها بالحقيقة الشرعية في أن نشأة اللغة ابتداءً تعليم من الله.. أي توقيفية، ثم اتسعت أوجه تبلبل الألسن، وأوجه النمو لكل لسان.. وفي أدب الحداثة قيم جمالية فكرية ليست في تراثنا )إما بإطلاق، وإما بذلك الكمال المستجد( كاتساع دائرة الموسيقى الخارجية التي هي أرحب من هياكل البحور الخليلية التي حصرت موسيقى عربيةً تاريخية ولا تمنع من تجددٍ موسيقي لم تعرفه الألحان العربية المأثورة، لأن موسيقى الوجود أرحب.. وكتفجير الدلالة البلاغية التركيبية من إشارات المسمى إذا قصرت أو سئمنا «3» دلالة الاسم.. ثم نَحذَر ريادة الطائفي والشعوبي والملّيّ في تلقٍّ حداثي مطلق يمزجنا بالريح، ويهدم الكيان المعتبر ديناً وتاريخاً ورقعة وأمة ولغة.. ونحن لا نساوم على ما كان قطعي الدلالة والثبوت في ديننا من عقوبة المجرم بعقوبة محددة، وما كان قطعي الدلالة والثبوت من طرق الإثبات التي هي البينة التي يقابلها يمين من أنكر، وما هو مطلوب يقيناًً بضرورة الدين من تربية وقائية.. فإذا استجد في العلم الحديث وسائل من التخدير «4» تريح قتل مجرمٍ تحقق قتله: فإننا نرفض ذلك، ولانقبل إلا ما شرعه الله من القتل حداً أو قصاصاً، لأننا لسنا أرحم ولا أحكم من ربنا في التيسير.. وإذا استجد في العلم الحديث طرق إثبات يقينية أو رجحانية ولا يترتب على استعمالها محذور شرعي أخذنا بها، وأضفناها إلا مأثورنا في طرق الإثبات الشرعي إذا كان الاعتراف يقتضي تعزيراً كالقتل.. أما ما كان مبنياً على الستر كالزنا الذي حكمه الرجم فلا نطلب أي طريق إثبات ولو كان قطعياً إلا ما شرعه الله من طرق الإثبات، بل نأخذ بطرق الإثبات الحديثة )إذا كانت يقينية( في تبرئة المتهم.. وسقوط عقوبة الرجم لا يعني سقوط عقوبة تعزيرية إذا قويت التهمة.. وإذا وجدنا في علم النفس الحديث وأكثره قائم على كيد صهيوني منذ فرويد معيناً على التربية والوقاية من الجريمة أخذنا به إذا تخلف من مانع شرعي. وهكذا أدبياتنا نصححها بالعلم الحسي كما نصحح أدبيات القوم بعلمنا الشرعي اليقيني ومحاكمتنا العقلية، فكل معتقد لنا في الأفلاك أو الأحياء،، إلخ مبني على إرث متوارث، أو نص شرعي محتمل الدلالة: نتنازل عنه إذا أصبح المعارض العلمي يقينياً، ونعلم أن فهمنا للنص محتمل الدلالة فهم مرجوح، لأن دلائل الحس من المرجحات دلالةً.. وميتافيزيقاهم عن بداية الإنسان بهمجي يعيش كالحيوانات، وأن التاريخ في صعودٍ دائم لا تأرجح، وأن هناك متحجرات من الأحياء يقدر عمرها بملايين السنين: نرفضها بالظني المتخيل عندهم، وبما أثبته العلم من تزويرٍ في المتحجر عن الإنسان القرد، وبما أثبته العلم من قصور وسائل تقدير الأعمار عما فوق ثلاثة آلاف سنة، ودعك من الملايين والبلايين، وبالرجحاني من ديننا عن عمر الكون ولله سبحانه أكوان قبل أن يخلق السموات والأرض والبشر ، وباليقيني من ديننا عن أول بشر علمه الله وأوحى إليه )وهو آدم عليه السلام(، وباليقين التاريخي عن حضارات مادية سادت ثم بادت، وعن أمم همجية في بعض العصور والأمصار، وعن عصور ذهبيةٍ عُمرت بالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبالمصلحين من ورثتهم رضوان الله عليهم، إذن التاريخ تأرجحٌ لاصعود، وستكون نهايته هبوطاً ألبتة، لأن الساعة لن تقوم إلا بعد فساد كل البشر وهبوط التاريخ إلا الدرك.. حتى الكشف الكوني الذي هو محاولات بشرية تريد الوصول إلى العلم: فهو محكوم بثوابت الشرع القطعية، لأن خبر خالق الحقيقة أصدق من خبر من يحاول اكتشافها بالتحريات.. ومن الثوابت أن السموات محكمة البناء والأبواب لا تُدخَل إلا بإذن من الله لملائكته الكرام، وبهذا نعلم أن بلايين البلايين من النجوم والمجرات والشهب )مما عرف العلم الحديث شيئاً عنه، وما يحتمل أنه أعظم من ذلك مما لم يعرف عنه شيء(: إنما هو من الأفلاك المكشوفة كالأرض، وكلها دون السماء الدنيا.
وحياتنا العلمية استجد فيها وقائع كثيرة تحتاج إلى أحكام شرعية، ونحن نعلم بيقين أن أحكام الله الشرعية ثابتة منطبقة على ما جد وما سيستجد، وأن أحكام الشريعة محصورة بالنسبة للوقائع اللامتناهية، لأن أكثر أحكام الشريعة منصوص عليها بالمعنى والصفة لا بالاسم الذاتي، فما وجد فيه ذلك المعنى الشرعي من الوقائع المستجدة )النوازل( أجري فيه حكم ذلك المعنى إذا تخلف المعارض.. وليس كل حكم في النوازل يكون اجتهادياً، بل يكون نصياً، وإنما الاجتهاد في الواقعة من جهة تحقيق انطباق الحكم الذي هو المقتضي مع العلم بتخلف المانع.. وما لم يوجد فيه معنى الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهية أو الفساد أو الصحة: يستصحب فيه معهود البراءة الأصلية التي هي عفوٌ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح.. والعفو لا يقتضي الإباحة، بل يقتضي التحري بالعقل النظري.. وما لم يحدِّد لنا الشرع تنظيمه كبعض مسائل الحكم، أو لم يحدِّد لنا فيه تنظيماً ألبتة، لأنه وقائع مستجدة: فإننا نسن نظامه، ونستفيد من تنظيم الآخرين، لأن ذلك موكول إلى اجتهادنا كأنظمة الإدارة والتوظيف والجوازات.. ولكن ذلك مشروط بخلو النظام من محظور شرعي، وبتحقيقه للمقاصد الإسلامية، فإن في الوجود كليات كحفظ النفس، والشرع يحرص على حمايتها، فالتنظيم للمرور مثلاً ضروري من أجل هذه الكلية.. ونحن نؤمن بأن فقه القانون الوضعي لامعٌ عقلياً في تحقيق مصالح دنيوية، ونؤمن ثانية بأنه قائم على إلغاء شرع الله في خلق الله، لأن أساسه ما سمي ظلماً وعدواناً بالحق القانوني تبعاً لما سمي حقاً طبيعياً.. وهو حق يحجّم الطبيعة، فيدلل الغرائز وهي طبيعية، ويلغي العقل المرجح بين الغرائز وهو طبيعي «5».. بل فيه إفساد للمجتمعات بإسقاط العقوبات الرادعة كالقتل والقطع، وإتاحة التدليس بأنظمة المحاماة غير المنضبطة بقوانين شرعية وعقلية.. ولكن القانون المدني مثلاً في البيوع والعقود إذا طابقت مادته حكماً شرعياً، فإن الفقيه المسلم يفيد من دلالات فقه القانون ولاسيما في الوقائع المستجدة كالعقود المتعلقة بحقوق التأليف.. أو في وقائع لم يقتلها فقهاؤنا بحثاً كنزع الملكيات.. وما أيد المسلمَ في بناء الحكم الشرعي الاجتهادي من برهان يقيني أو رجحاني: فهو أولى باحتوائه من كل مخالف له في النحلة أو الملة، لأن الحق ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.. وكل كشف كوني، وكل سعي لطلب المزيد منه مطلوب شرعاً، لأن الله استحث عقولنا وحواسنا على التدبر والتأمل والفحص.. وكل اختراع صناعي، إما أن يحقق للأمة قوة كصنع الصاروخ، وإما أن يحقق لها ضرورات وكماليات كصنع العقاقير للعلاج المجرب، وكصنع سماعة الطبيب ومعمله.. وإما أن يحقق لها متعة، فما حقق قوة أو ضرورات وكماليات فالشرع يطلب تحقيقه بمهارة المسلم أو تملكه، ولكنه يتدخل في وظيفته، فلا يوظف إلا في حق وخير وجمال.. وما كان متعة فالشرع يبيحه إذا خلا من المحرم والمكروه.. وما لم تكن له وظيفة إلا المحرم فالشرع يحرم صنعه وتملكه، لحرمة وظيفته الواحدة.
وأمة الإسلام التي جعلها الله وسطاً وقعت جماهير منها في الخرافة والبدعة والإباحية والإلحاد، ولكن من رحمة الله بها وكونها وسطاً، ولضمانة طائفة منها تكون على الحق لا يضرها من خذلها إلى يوم القيامة: لم يجعل الله الفساد في الأرض على يدها: من علنية الإلحاد، والإباحية، ومنهكات الروح والجسد، والحيف على الفطرة، والظلم عسكرياً واقتصادياً وثقافياً وتضليلاً فكرياً حتى عم العفن وجه المعمورة، وإنما كان ذلك على يد أهل الكتاب بجهلٍ من طائفة وتضليل من أخرى.. وهو تضليل اليهود الذين يكيدون شعوب الأرض حتى أفرزوا الصهيونية العالمية التي ترعى العمل في الظلام من مجمعات ماسونية تُفرغ العقول من أديانها وقيمها، وتشحنها بكل عداء للنفس وللبشر.. ومن مجمعات ووسائل تتقن التصفيات الجسدية والمعنوية وشراء الضمير بالمال والجنس والتلميع.
ولو قام العلم المادي الحديث في بلاد المسلمين: لكان الإسلام حليفاً للعلم كشفاً واختراعاً، ولكان موظفاً له في الحق والخير والجمال، ولكان حامياً للمجتمعات من هذا الانغماس والكفر والإباحية.. ولا يعني هذا أنه لن يوجد في علماءالمسلمين وأنصاف العلماء من يحرّم بعض ما جهله، لفهم من الشرع خاطئٍ عنده، فإن هذا حصل ويحصل كثيراً، لكن الإجماع الجزئي لعلماء المسلمين سوف يفحص الواقعة، ويتصورها كمال التصور، تم يفتي بما يدفع العلم ولا يحظره، وتستقر الأمور بقرار ولاة الأمر المبني على الاجتهاد الجزئي، ويبقي المعارض في جهله، أو يذعن لما صححه الإجماع الجزئي.
قال أبو عبدالرحمن: هذه فذلكات طالت عما أريده من الريادة المتميزة للنادي الذي يديره والدنا الكريم الأستاذ أبو مدين لا أريد بها تمعلماً ولا تفيهقاً، وإنما أريد مناخ الحق والخير والجمال للعقل العربي المحاكِم.. والنادي مشكور فيما يطرحه من حداثة فكرية وأدبية.. ولاسيما علم الإشارة والبنيوية والانزياح والتفكيك، فليست هذه العلوم النظرية من إفلاسنا فنتتلمذ عليها باستسلام حتى تحصل لنا ملكة العلم بها كالاختراعات الكبيرة.. وإنما هي علوم وإن استجد كل حقل منها بإطلاق، أو استجد بتجميع عناصره من التراث وخارجه نظرية ملتحمة بمعارفنا في اللغة والبلاغة والآداب والجماليات.. نشرف عليها )بعد كمال تصوّرها( بإطلالة العقل المحاكِم لا المتلقي المنقاد بذلّة، فطموحي أن أجد ريادة النادي المتميزة في مثل هذا حافلة بالمحاكمة أضعاف احتفائها بالتلقي، لأن ذلك يتعلق بأمور كيانية ليست كاجتهادي الميسر في رسمٍ إملائي ليس كيانياً، وليس خالياً من العيوب، وليس محققاً للنطق بلا تأصيل فوق الحاجة، وإحداث وهم وخطأ، وصعوبة على غير المتخصص.. والرسم الإملائي ينبغي أن يكون شعبياً لا متخصصاً، لأنه مفتاح كل قراءة وتوصيل للمراد.
وأضرب مثالاً لتناول هذه المعارف الحداثية للكياني: بأن أي قراءة معاصرة لنص قديم قد تحدث مدلولا جديداً ويكون ذلك طرفة أدبية ولكنه ليس دالاً على مراد صاحب النص، لأن صاحب النص يرمز بلغته إلى دلالة تاريخية متعارفٍ عليها بين المرسل والمتلقي، فلا يكون مراده مفهوماً إلا بهذه العلاقة اللغوية التاريخية بين المرسل والمتلقي، ومدلول القراءة المعاصرة بغير تلك العلاقة افتراء عليه، فما بالك إذا كان النص من عند الله؟!.. إن ذلك هو الافتراء على الدين، وتبديل الشريعة، وتحويل دلالة النص التاريخية إلى الأهواء، والتحلل من دين الله كما في محاولات محمد أركون وجماعة التثقيف الفرنسي من أهل الجنوب.. جنوب البحر الأبيض المتوسط من أهل مغربنا العربي.. ومن تضليلهم: أن الدين للبشرية جمعاء، فنفهم مراده بكل ما استجد من مواضعة!!.. والحق في ذلك أن دين الإسلام للبشرية جمعاء )أمة الإجابة، وأمة الدعوة(، لأنه دين ناسخ للأديان، عام المكان والزمان منذ نزوله.. وهو دين كل البشرية بمدلوله الذي يفهمه العربي، ويترجم لغير العربي.. ولكنه ليس دين البشرية جمعاء بطريق دلالته، بل هو بلسان عربي مبين فحسب لايصح مدلوله بغير دلالة اللغة العربية وقت التنزيل، ولهذا لا يفسر كلام الله بالاصطلاح الحادث بعد التنزيل وإن كان ذلك الاصطلاح توليداً عربياً.. إن المحاكمة بفعل العقل العربي تكاد تكون نزراً بجانب التلقي المستسلم لحداثة البنيوية والتفكيك والانزياح وعلم الإشارة.. وتكون المحاكمة بالتخلص من عقدة الانبهار، وبالتأقيت التاريخي لطريق الدلالة المستحدثة، فلا تكون معول هدم للكياني التاريخي بتغييب العقل المفرِّق بين الدلالة التاريخية والمواضعة المستحدثة، بناءعلى ضرورة وحدة العلاقة المتعارف عليها في لغة الخطاب بين المرسل والمتلقي.. والتخلص من عقدة الانبهار يعني استسماج تحصيل الحاصل من هذر البنيويين من دلالات مباشرة دون مستوى الإيحاء البلاغي، وبإعطاء الجديد حجمه الطبيعي ابتكاراً وتوظيفاً بعد استيعاب العطاء العربي والإنساني على مدى التاريخ طولاً )أي الامتداد الزمني الماضي لا الامتداد المكاني في التاريخ الحديث(، فتجد لدى اللغوي، والبلاغي، والأصولي، والمنطقي أوجه الخطاب الكثيرة بنص الخطاب ولحنه، ودلالة التداعيات التي هي عند المنطقي انطواء، وعند الأصولي تضمن ولزوم «6»، وتجد أنواع البيانات من الرمز باللغة والخط إلا دلالة الحال من غير نطق ورمز.. ولا يأبى علم الإشارة أن يكون لون الحمرة دلالة على شيء تعم بكونها عرفاً عاماً، وتخص بكونها مواضعة طبقة خاصة، ولا تأبى اللغة أن تمتص هذه الإشارة فتحولها إلى دلالة لغوية، وأن تكون النصوص الحادثة قابلة للتفسير بالمواضعة الجديدة، ولا يسري ذلك على نصوص ما قبل المواضعة الجديدة.
وأما التوصيل فأذكر نموذجاً من عدد خاص بعلم الإشارة وبنصوص مترجمة في منشورة أخرى، فلا تجد الأسلوب جذاباً من الناحية الفنية، ولافصيحاً من الناحية اللغوية، ولا مفهوماً من ناحية الجمل المركبة.. ولا تجد تحشيات ثرية: تشرح كلمة، وتؤرخ لمصطلح، وتعرّف بعلمٍ، وتصحح أو تمرّض حكماً، وتخرج نصاً، وتعرف بمصدر أجنبي، وتعرض الأثر المترجم للمداخلة: موضوعاً، وفائدة، وحكماً، وحكمة.. إلخ.. ولا تجد مراجعة أستاذ معتبر، فلا تثق بأن الدارس والمترجم فاهمٌ لموضوعه، مُستَوْلٍ على مادته، بل لعله يترجم ترجمة حرفية غير مترابطة، فالمسألة ليست تتلمذاً جباناً، بل تخلف في الفهم، وتمعلم في الترجمة والدراسة.. وأما ما يخص علم الإشارة فلولا قراءات لي سابقاً لكانت مادة العدد عُجْمة مستحكمة، ولكن بفضل الله ثم قراءاتي السابقة أصبح قليل من المادة قابلاً للفهم، وإلى لقاء إن شاء الله عن موضوعنا الأصلي حول الرسم الإملائي.
الحواشي:
«1» اتصل بي دبلوماسي الصحافة الكبير الأستاذ خالد المالك، وأبلغني تحرجه من التزام الجريدة منهجي في الرسم، وأن ذلك أحرجه أمام اتصالات هاتفية هائلة من الجامعات يرون في منهجي اعتداءً على تخصصهم!!.. قال أبو عبدالرحمن فوعدت أبا بشار بالعودة إلى الرسم المعتاد القديم بعد أربع مقالات غير الثلاثة التي عندهم، لأنني طبعتها على منهجي الجديد، ثم يعين الله مصححهم في العودة إلى الرسم المعتاد.. ولكم وددت لو أن أبا بشار تحدى جهل الجاهلين بالتزام هذا المنهج ولو في مقالاتي الخاصة، لأنه تحرير لعلم الخط العربي الأصيل الناضج من رسم إملائي دخيل معقد وليس هو كياني.. وياليت شعري أي تخصص لهم في الرسم الإملائي الذي يمارسه عامة الكتاب وفيهم أبو عبدالرحمن وقد سلخ الكهولة وبدأ في الشيخوخة؟.. وأي غناء لهم في التخصص في حقل فضولي معقد على أن جريدة الجزيرة وهي جريدتي الخاصة، وقد حضرت أول اجتماع لتأسيسها : قد التزمت ترقيماً للصفحات غير الرقم العربي الصحيح باتفاق ذوي التحقيق، وقد صدرت فتوى شرعية من الجهة المسؤولة في المملكة تمنع من استعمال غير حرف العربي بل تحرّمه.. ولعلمي بأن الكلمة المحققة المخلصة لا تضيع، وأنه ستتبناها أجيال وأجيال وأجيال: أديت واجب الأمانة في الدعوة إلى حماية الخط العربي وتخليصه من الأوشاب، والتيسير على المسلمين في قراءة العلم دون أي تفريط.. وهذا ما سأستمر عليه إن شاء الله فيما أملكه من مؤلفاتي تأصيلاً وتطبيقاً.
«2» أما رسمها هكذا في مثل كلمة ))بخت(( فلا أسيغه، بل الأجمل ))بخت(( حسب صورة الحرف
«3» قال أبو عبدالرحمن: هاهنا بقيت على الرسم المعتاد، لدليل تصحيح، ودليلي ترجيح.. أما التصحيح فهو كسر الألف المهموزة، وأما الترجيح فهو كراهة توالي ألفين، وجمال اتصال حروف الكلمة.. أما دليل ترجيح واحد فلا يسوغ تغيير صورة الحرف ما دام المرجوح غير شنيع، والمرجح أشنع، وأما دليل التصحيح فشرط لابد منه.
«4» مشيت مع الرسم المعتاد، فلم أكتبها ))اتّخدير((، لأن الألف مسهلة، والتاء مشددة، فعُلِم أن اللام الشمسية غير منطوق بها، فجمعتُ بين حسنتي الرسم )لأمن اللبس(، وحسنة الجمع بين علمي الرسم والنحو.
«5» أرجو مراجعة كتابي ))الحق الطبيعي، وقوانينه».
«6» أُلّف في الدلالة وطرقها قديماً وحديثاً كتب كثيرة.. إلا أنها في القديم كانت جزءاً من علم أصول الفقه، ولكن مادتها علم اللغة من ناحية أوجه دلالة المفردة والصيغة والرابطة، وعلم النحو من جهة أوجه دلالة تركيب الكلام نحوياً، وعلم البلاغة من جهة أوجه دلالة تركيب الكلام الجمالية المألوفة وقت التنزيل، وهي الإيحاء والتحلية التي يتصرف بها العقل العربي في التحدث بلغته، وعلم المنطق، لأن الفكر مصاحب للأداء اللغوي والنحوي والبلاغي عند تعدد الاحتمال، مرجح بالسياق والقرائن والمعهود.
|
|
|
|
|