| الثقافية
قرأت بضع صفحات من رواية «العطر القاتل»، ولم يعد بي ذلك الشغف وحب القراءة، قتلتني الأحداث المتتابعة حولي، وسلبت النوم من عيني وأصدقائي الكناسون مازالوا يتندرون بي بسبب تنصل «زرقاء اليمامة»، من وعودها لي، أن تكون إلى جواري كبطلة نص منتظرة، وأتذكر في آخر رؤية لها وكنت في حالة توجس بين الأحلام والواقع أنها قالت لي:
- بيننا تناسخ أرواح!
وضحكت وهي تشير إلى أنها مثلي، تشعر أنها تفقد تدريجيا صوتها، ومبهورة بحسن اختياري أسمها الذي كانت قد باركت لي في تحد سافر له دلالة بهذا الاسم، وعرفت مني أني في بحث بمساعدة كثير من الأصدقاء الكناسين عن مصادر لقراءة سيرة زرقاء اليمامة الأولى، وضحكت وقلت متفائلاً لها:
- علمت أنها أمرأة من بنات لقمان بن عاد، اشتهرت بحدة بصرها وقوة رؤيتها إذ ترى على مسيرة ثلاثة أيام سفر في تلك العصور..
أما وقد سلبت النوم من عيني، وهدني التعب والوسواس والهواجس، وذهبت بي رياح خيالاتي في كل اتجاه، فبات علي أن أروح عن نفسي وشطر روحي الضائعة، وبت مسافراً من بلد إلى بلد مرة بخيالي لحالي الشاردة، حساس من بين كل أصدقائي الذين علموا حالتي وتعاطوا حولها الثرثرة، إذ وصفت حالي بما يشبه الهجرة إلى الداخل، وصديقي الكناس المريض قريب عمتي، حكمت عليه الحياة ليكون سكناه بيننا في البيت، ويجهد نفسه لتخفيف هول غياب بطلة النص المنتظرة، وقد علم من أمرها كثيراً وبين الأمل واليأس حدق في وجهي وقال:
- خاف الله في نفسك، وبدل الكلب مائة كلب!
وفرحت حينما أخرجني من هذا العالم برمته مثل ما توهمت في البداية، مساء جمعة سيظل أهم حدث في حياتي لن ينسى، إذ تبدلت أحوالي تلقائية في تسارع لم يحدث في خيال، إذ في فسحة من الزمان والمكان، حدث شجار بين جدة سبعينيةوأحفادها، دخل محدثي وبنت المرأة السبعينية زوجته لفض الشجار بين الأبناء وجدتهم، ثم جاء إلي مبتسما يروي حكاية ألف ليلة وليلة، وحينما لم يعد بي صبر فقد طلبت زمناً ضائعاً خارج رؤية زرقاء اليمامة، ضحك محدثي قائلاً:
- لا زرقاء يمامتك .. ولا مستشرقي كل القرون يحلون قضية عيالي وجدتهم! وظننته يتحدث عن زرقائي بسخرية لم ترق لي، في سرد سمج للحروب والهجرات في الجزيرة العربية، وسؤال يؤرق امرأة في السبعين وذاكرة نهشها البحث عن الذات، صحت به في دهشة عظيمة:
أنها بطلة النص المنتظرة!
رد ساخرا:
- مَنْ يبحث عن مَنْ الجذور أم الفروع..؟
قلت بتحد واضح :
- اليوم أجمع لها كل الكناسين في البلاد إذا رضيت!
رد في تحد لم أتوقعه:
- لا وتعطيك مصاريف السفر وتجيب لك عن كل أسئلتك التي تحتاجها!
- جميل أنا ابتدئ رحلة البحث عن الجذور من الغد!
في قلبي يقين أني بدأت البحث عن ذاتي باسم أمرأة سبعينية تبحث عن جذورها الضائعة في عصر أحفادها، بدون عيون زرقاء يمامتي، ولم أجد ذاتي وربما فقدت يمامتي إلى الأبد، كما فقدت البطلة المنتظرة أصولها التي فتحت لها الأمل من جديد، ومن أسمها أمل يوسف - من صبيا، ومن منارة المسجد وشيخ القرية، وفي صبيا ليس بمقدوري أن أمضي هكذا في سفري الدائم دون الوقوف إلى رائحة المكان والناس، وأولهم صديقي الروائي الكناس الكبير عبده خال الذي له بعض الفضل في تأسيس بنية هذه الرواية، قلت في نفسي وقد تأملت وجوه الأطفال البريئة، يحملون فوق ظهورهم المستقبل، في ذهابهم في هذا اليوم الأول صدفة إلى مدارسهم، وتساءلت هل بدءوا مثلنا في هذه الحياة رحلة الكنس إلى الوراء أم إلى الأمام- طبعا- لم أكن أعرف شيئا في تلك اللحظة ومازلت، وتذكرت أن لي في مستشفى صبيا العام بعض أصدقائي الكناسين الذين أحبهم، وقد لفحني هواء حار يكوي شوقا، تسللت بين أشجار عالية أتفقد وجوه الناس لعلي أجد وجه كناس أعرفه، كنت في هيئة مستشرق باحث ومستثمر، والناس تتفصد عرقاً في ملابسها وحباً في الدور العارية وكناس يصطادني فجأة «!»:
- أنت الكناس الذي يدور على أصحابه الذين يحبهم!؟
تأملت وجهه الذي وخطه الشيب، ولئلا تذهب بي الظنون سألت:
ü من أنت؟
- ضحك بمكر جميل ومغر وقال: أنا الذي بشر بي شيخ الكناسين الأول..
ونسج ابتسامة منكسرة على وجهه، جاهد كثير ليخفي ألم، تحول إلى لون من العدوانية، بعدما ضحكت، وأضاف:
- أنتم تدورون أجيالكم وليس لكم صاحب، زمانكم زمن نكران كل شيء ضائع بما فيها الذات، وتنسون أننا كنسنا لكم الشوارع من عصور.. أبديت ضعفي وخجلي في وسط حفاوة حارة طاغية، وطرية كطراوة السهل التهامي، ولم أجد من بد في مواجهة حذق اللحظة واللغة والحفاوة، أن أطلب منه أن يدلني على كناسي المبتغى، كان الخلاف بيننا واضحا ولم يفسد كما يقال رحابة وسعة فضاء الحب التهامي، تمايلت الحكايات الولهانة في السهوب إلى بيت صديقي الكناس المبتغى، ولم أعد أذكر تفاصيل الأسطورة للعاشقين الذين سميت صبيا بهما، ولم أعد أذكر شيئا إذ أدخلني الكناس الصبياني الجديد في متاهة الأساطير والحكايات التي نسيتها، وفجأة! كان يقف بي في مواجهة باب بيت صديقي الكناس القديم، الذي لم يكن غير شاعر يتسلى بالغناء في الماء والشجر، وكأنما أذهلته رؤيتي صاح بي على طريقة لهجة أهل صبيا، وشعرت من اللحظة الأولى أني في بيتي.. في هذه اللحظة صرنا أربعة صديقي الذي يريد مني حل قضية عياله، وضياع جدتهم الذي لم يكن غير ضياعي، وصديقي الصبياني الكناس الجديد والآخر القديم، الذي بدأت بينهما من اللحظة الأولى المنافسة على ضيافة المستشرقين، الصفة التي ظل صديقي القديم الذي كسب المنافسة في ضيافتنا، يسخر منا ويداعبنا في ظرف خفي المعنى، بسبب تميز لون بشرتي وصاحبي وملابسنا قلت له وقد صار على مواجهته:
- وهكذا بسبب حدة إحساس وفيض مشاعر، كتب علي أن أشركك في هذا التعب!
وسخر مني كثير حينما صرنا وحيدين في سوق صبيان نبتاع موز السواحل وعنبها وسمكها وخضار أشجارها، ونتلو حكايات العشاق ونمضغ سيرة الراحلين قال:
- يا مجنون لو كل ضائع جاء ذكره في برنامج تلفزيوني ساذج، ويجد مثلك يعني بهم، أنت طائح في و احدة تكح من سوء حظك، أترك الموضوع علي وتذكر أني في بلد الحب والحكايات والصبايا في صبيا..!
وفي مواجهة بيته الذي تركنا فيه نائماً صديقي المستشرق الآخر، ناوني الكناس الساحلي القديم السمك والموز والعنب والشجر ليحضر زوجته وبناته من المدارس، وفي مدخل البيت المزين برسومات وموضح بلون الحب والعشق للناس الذين مروا من هنا، قال لي:
- هذه سبع غرف، لي واحدة وزوجتي ولبناتي الصغار الأخرى، والثالثة لأمي وهي صاحبة البيت الحقيقية، والرابعة لي ولأصحابي نأكل فيها ونغني ونكتب ونقرأ، ونمارس شتى طقوس صبيا التي ستراها الليلة وفيها منام صاحبك المستشرق الآن، والخامسة غرفتي الخاصة جدا أظن أنها تليق الليلة بك، لأن فيها المجانين والضائعين الذين لم أجد حلا لهم، وربما يأتي الفرج على يديك، وهي بالمناسبة كانت غرفة أبي قبل أن يرحل، والسادسة والسابعة جعلتها أمي للإيجار..!
ووددت أن أرد على مازعمت لحظتها أنها سخرية مرة، في حين أن مضيفي كان أنقى من الثلج، وعن والده الذي أعرف أنه رجل سبعيني، ببراءة ولفهة وتلقائية سألت:
- قلت إلى أين رحل الوالد؟
- الوالد مرت به كناسة حبشية شابة وخائفة ونازحة من حروب القرن الأفريقي، فهرب معها بعد أن وقعا صرعى العشق، وحينما علا خوفي عليه واشتد خفت من خيانة الناس، أرسلته إلى جدة بعيداً!
يا له من كناس مجنون ابن مجنون، يصف تفاصيل الأجيال فوق بعضها بمهارة، دون أن يتخلى أحد عن حقه في الحياة، وبدون مزايدة زائفة ساذجة قبلية، من أمه التي تمتلك البيت ذا السبع غرف فلها هواؤها، الذي يميل إليه خفية صديقي الكناس القديم، دون أن ينسى لحظة أنه من ظهر الكناس الكبير المجنون..
- ليست أمل يوسف المرأة الوحيدة الضائعة في أجندتي الآن، كلنا ـ الكناسين ـ ضائعون في الحب يا خبيث!
قلت له بمداعبة، وقد بدأت المضغ الذي وجد المستشرق صاحبي، صعوبة في تقبل الأكل من سمك وخضار وشجر في البداية، وقال بعد ساعات وقد تمدد على صدر قعادة:
- هذا أغرب يوم مر في حياتي!
وفي سيرة الطقس في - صبيا- تمددت نبتة هنا وطالت لها ذات نكهة السهل التهامي، وأعطت روحها قبل نصف قرن من الزمن، في كف جاءت عاشقة للنقاء ومضت، ومضى الأب في رحلة إلى مكة للحج، ومضت الأخت الصغرى في رحلة نهائية في يد أخرى عاشقة إلى ما لانهاية، وجاء الأخ الأصغر للبنتين إلى زوج أمل يوسف ليزرع له بستانه، ولم يكن غير صبي جميل يسرح بماشية القرية في ذلك الزمن، ليجد قوت يومه وقد سرح الزمن بعائلته، ولم يكن في الحسبان أن يموت الزوج والصبي معا غرقاً، لتبقى أمل يوسف الشاهدة الوحيدة تروي تفاصيل هذا الزمن.
وغمز لي صديقي الكناس في منتصف الليل والناس هنا، ليليون، وقد امتلأت الغرفة الخامسة الخاصة بالمجانين والضائعين الذين لم يجد لهم حلاً، واحد يتسلى يعزف لحن يمني ويغني، رسولي قوم بلغ لي سلامي، وآخر يتسلى بالمضغ وكتابة قصائد، يغرس جذورها في الماء، قال صاحبي ومضيفي مداعباً ساخراً في آن بحب:
- بطلة ضعيفة ذاكرة ومنتهية، إنما لا تخاف أجيب لك سيرتها..!
قلت له بثقة:
- الآن غرست هنا - شجرة هي أمل بنت يوسف!
وأشرت لصاحبي المستشرق الذي أبحر في طقس صبيا- بأن نذهب قبل طلوع الفجر، وأبى رجل كثيف اللحية حسبته شيخ القرية وداعنا خارج الطقس، وفي أفواهنا والذاكرة مئات الحكايات التي لم تنته في ضحى يوم مر..
وفي منافسات بعيدة وجارحة أغني لمحدثي، صاحبي الذي صار في الطقس الساحلي التهامي الرطب مستشرقاً، وشاهد في تفاصيل لم تكتب ومغنياً له في طرب:
- ومضى كل إلى غايته.. لا تقل شئنا، فإن الحظ «الله» شاء...
وفي الظلام كنت أدخل إلى بيتي.
|
|
|
|
|