| الثقافية
تتواجد الموهبة منذ نشأة البشرية داخل نفس الإنسان، لكنها تنبض بالقوة وتتسلح بالجديد داخل القليل منهم. في القديم - قبل انبثاق عصر العلوم - لم تكن هناك استكشافات أو مقاييس نقيس بها الاجتهاد البشري في العلوم والآداب والفنون.. فالموهبة منحة من الله عز وجل يؤتيها من يشاء من عباده الصالحين.
أطلق العصر الحديث على نقطة )الموهبة( مفهوم الابتكار.
والابتكار يعني الجديد من أيٍّ من مجالات الحياة الاجتماعية بشرط ارتباط هذا الجديد بالعقل المفكر الحساس.. هذا العقل الإنساني الذي وصل الى المستوى الأرفع من النضج والتفكير.. ويأتي المشروع المبشر الذي أطلقه صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز شرارة إبداعية للمواطنين لانتقاء الموهوبين ورعايتهم حتى تُكوّن المملكة علماء المستقبل المشحونين بالذكاء والتفرد والمعرفة العميقة، ولتضعهم جنبا الى جنب مع موهوبي العالم.
ü معنى الابتكار
الابتكار - في العلم أو الأدب أو الفن - ليس عملية سهلة كما قد يظن. إنها تلبس اليوم في العصر الحديث رداء التقدم ولباس التطور الجامح الذي يختصر مسافات الزمان وقرون الماضي الساكن الهادئ.
وهي ترتكز الى عالم التطورات العلمية والصناعية والفكرية التي تسيطر على أيامنا هذه. وهي تطورات مليئة بالخواطر والأفكار والتجارب العلمية والعملية تبدو بعيدة أو مجهولة في عالم المبتكر نفسه. وهي عملية أكاد أجزم أنها مليئة بالأسرار والغموض، لذلك فهي - والحالة هذه - مجهولة النتائج في بعض الأحوال حتى تبرز الى حيز النور وعلى صفحات الحياة، وحتى تُحقق آمالها بين الجماهير. كما أنها عملية غير ثابتة أو مستقرة، بمعنى أنها دائمة التغير والتبدل والتجدد، لذلك فإن نهاياتها عادة ما تختلف عن بداياتها. إنها فتح على الجديد غير التقليدي وغير المألوف في عوالمنا، وهي جوهر الحياة في الاستمتاع بمضامين وقيم جديدة تحرك المجتمعات من نقطة الى نقطة وتدفعها نحو، طرق جديدة لم يسبق لها ارتيادها. فصلٌ وتفريق علمي بين المألوف واللامألوف، حتى يتقبل الناس - بالعقل الواعي - تباشير الجديد الغريب أحيانا في البداية، لكنها تباشير تهل على البشر بالأمل وتخلف ارتياحات للنفس البشرية، لأنها تنقل الحياة الجديدة، وتعبر عنها تعبيرا ساميا خلاقا.
المألوف هو ما اعتدنا عليه.. نتقبله في عفوية وبرود، لا يمس الوجدان كثيرا. لكن غير المألوف هو ما يجدد خلايا الإنسان علما وأدبا وفنا تجاه المدنية الحديثة. وهو ما يدفع بثورة علمية وتقنية تقلب الحياة رأسا على عقب، لنرى الطبيعة والحياة كلها من زاوية نظر جديدة غير معروفة أو مألوفة من قبل، بُعدٌ وابتعاد عن التقليدية والروتينية الى عالم مبتكر يخلقه الموهوبون بأنفسهم وجدهم. إن لهذا التغيير أو الانتقال من مرحلة قديمة الى مرحلة جديدة أخرى شروطا علمية لا مناص منها. وأهم هذه الشروط هو التسلح بالاطلاع، والاغراق في الثقافة، واكتساب خبرة واسعة عريضة تضع بين أيدينا - وبالوضوح كل الوضوح - فروق الروتينية والابتكار.
ü طبيعة الابتكار
أيا كان مجال الابتكار، فإن الموهوب النشط يحاول ضمن ما يحاول اكتشاف جديد في مجاله. جديد بمعنى لم يسبقه أحد. جديد أصيل في النوع، وصالح لبني وطنه وللبشرية عامة، جديد متميز في نهاية الأمر، يفرض نفسه بحق وقوة، جديد جاء يشتمل على عناصر العصرية والحداثة، ويرتكز على مبادئ العلوم ونظرياتها في العلوم، وعلى التاريخ والتراث في الآداب، وعلى تاريخ الفن في الفنون.
تتركز مهمة الباحث المطور في إعادة صياغة القديم، ومده بعناصر الابتكار، وإعادة الصياغة المناسبة للعصر الحديث، حتى ليبدو الابتكار جديدا - وهو جديد بالفعل - بحكم ألمعية المبتكر، وحصوله على صور وأشكال مغايرة للقديم المعروف.
ü ثوابت الابتكار
لما كانت العملية الابتكارية الناضجة تتصل اتصالا وثيق بالمنهج العلمي )الميثورولوجيا( فإن لها - تبعا لذلك - ثوابت أساسية لا يمكن تجاهلها للوصول أخيرا الى الهدف الأسمى.
أولا: التصميم Design من أهم صفات الابتكار. والاعتماد الكلي على التلقائية في التصميم لا يقدم ابتكارا في النهاية. لقد آثر الإنسان طوال جزء كبير من تاريخه ألا يواجه الواقع مباشرة وأن يستعيض عنه بالخيال أو الصورة الذاتية. والتصميم كخطوة أولى فيه مشقة وصعوبات تحتاج الى جهد كبير وغير عادي من المبتكر، بعيدا عن إبراز ميوله وذاته، لقبول الظواهر على ما هي عليه، ثم ليستخلص قانونا يكمن وراء هذه الظواهر، وهو أمر يقتضي مستوى عاليا من التجريد، وقدرا كبيرا من التضحية. هكذا يبدو الاختيار للابتكار عملية شاقة ومضنية.. فالمبتكر يبذل جهدا خارقا للسيطرة على عقله، ومن ثم يسيطر على العالم.
ثانيا: الاتجاه نحو التطور والتقدم.
من أهم ثوابت الابتكار توجهه نحو التطور والتقدم..أي أن فكرات جديدة ولامعة تظهر على السطح عند الموهوب، تشكل حالة أرقى من الحالة التي يعيش عليها الإنسان. وما كل وسائل وأدوات الاختراعات الحديثة - علمية وصناعية وتطبيقية - إلا مبتكرات لفائدة الإنسان ولخدمته )بسترة اللبن Pasteurization لتعقيمه( بفضل ابتكار مدام باستير(. ولكثرة المبتكرات التي تؤدي وظائفها وأهدافها على الوجه الأكمل، وبمجهودات أقل من السابق، تغيرت حياة البشر الى الأفضل والأسهل.
ثالثا: صلة الابتكار بالطبيعة والواقع.
حتى تنجح فكرة الابتكار وتتسع لتعم الجماهير، فإن المبتكر منوط به ألا ينفصل عن الطبيعة، وأن يكون واقعيا في عبقريته. لماذا؟
لأن لكل عصر ظروفه ومستوياته العلمية والصناعية والاجتماعية والثقافية والحياتية. ومن المحتم على الابتكار أن يكون صالحا للعصر بكل زواياه النوعية لتتم الفائدة من الابتكار. والإنسان منذ فجر الطبيعة يترجمها ترجمات مختلفة تتفق وتتوافق مع نظرته وفلسفته ورؤياه، ونظرة عصره بالضرورة. والطبيعة وسيلة وليست غاية، وسيلة تساعد في الكشف عن العملية الابتكارية. وتبقى الطبيعة في الآداب والفنون هي الكتاب الأكبر والقاموس الضخم الذي نعود إليه للتعرف على أشكال وأنماط قديمة، لكنها تتحول على يد المبتكر الى صور جديدة مبتكرة تمثل نقاط تحول كبرى في تاريخ العلوم، كما تثبت وتبارك محاولات العقل البشري لفهم نفسه، وفهم العالم المحيط به. إن التعبير عن الطبيعة والالتصاق بالواقع يتطلبان من المبدع أحاسيس وعواطف وعقلا محايدا، خاصة وكلاهما متجدد وليس ثابتا.
رابعا: التميز أو الفرادة:
وهي خاصية من الثوابت الأساسية في عملية الابتكار، فالعمل الابداعي يستند على صفات متفردة ليس لها من صفات القديم ملامح جديدة، كلما كانت فريدة في النوع، والنتيجة، والصفات، كانت ابتكارا أصيلا. وأشير بأهمية الى الخلط في تقدير الابتكار بين أنصاف المثقفين، الذين يعتبرون الشذوذ أو الغرابة نوعا من الابتكار. وشتان بين الاثنين، فالفرق كبير وواسع بين التفرد والشذوذ، لعل هذه الإشارة العاجلة تدحض المثال الشعبي الشائع )خالف تعرف(.
الفرادة والأصالة منافية للتقليد والنقل، في العلم والأدب والفن والسياسة والاجتماع.
خامسا: الانتشار العالمي.
المقصود به هوخروج نتائج العملية الابتكارية من المحلية الى طور العالمية ووفق منهج علمي.. أي طريق محدد يعتمد على خطة واعية. إن المنهجية صفة أساسية في العلم، وعلى ذلك فالعلم في صميمه معرفة منهجية تماما. والمنهج هوعنصر ثابت في كل معرفة علمية لكن مضامين هذه المعارف ونتائجها تبقى في التغير المستمر. فالمنهج يظل ثابتا مهما تغيرت النتائج بسبب الظروف والعصور.
وعلى ما تقدم، فإن الانتقال من المحلية الى العالمية ينشر الابتكار، ويفتح المجال واسعا للاستفادة منه، وتسجيله، والفخر به دعاية وإعلانا، بما يعود على المبتكر ووطنه بالفخار والشهرة.
ü مراحل العملية الابتكارية.
لا يمكن القفز على الابتكار. وجّه العلماء الى عدة مراحل تمر بها العملية الابتكارية من البداية الى النهاية التي تمثل وصول الابتكار وهذه المراحل كالتالي:
1- بداية تكون أفكار المبتكر ضبابية غير واضحة، مثلها مثل السراب.
المعالم الجديدة غير محددة. لكنها - وبالجهد الخلاق والمتواصل - تتغير شيئا فشيئا. ويعتبر هذا التغير أمرا طبيعيا نتيجة انشغال العقل بالتفكير والتمحيص والتدقيق، فهو يكشف ساعتها عن جديد في العلاقات والنتاج الفكري، ماراً بعدة مجالات من التفكير والتأمل والانفعال. لكن الإلمام الــذي لازمن لوصوله هو المحرك لكل المجالات للانطلاق في هذه المرحلة.
2- مرحلة الإعداد والتحضير.
وهي مرحلة القراءات وإعداد الدراسات والاستطلاعات والملاحظات والمقارنات للدراسات السابقة المشابهة للمشكلة العلمية. إنها مرحلة اتساع أفقي. وليست هناك قاعدة ثابتة لهذه المرحلة، فهي أشبه بحضانة الفكرة، حتى تختمر وتنصهر القراءات السابقة والقديمة، متبلورة جميعها نحو الجديد المبتكر. وليس هناك زمن محدد لهذه المرحلة، فقد تستغرق وقتا طويلا، وقد تستغرق وقتا قصيرا.
لكن خطوة تالية تسمى )الشرارة( Spark أو الومضة تتألق في طريق الابتكار. تأتي الخطوة بلا سابق إنذار لتكون إلهاما أصيلا مدعما بالعلم والمهارة والصدق والعمل الدؤوب. إنها لحظات ربانية ليس لها تفسير أو تعليل منطقي. ولعلها أغرب لحظات عملية الابتكار.
3- مرحلة ما قبل النهاية.
أو لنطلق عليها مرحلة مراجعة الفكر الابتكاري. ليست للمرحلة قاعدة زمنية. إنها تُعنى بالتدقيق وتهذيب الأفكار وصقلها، وهي مســـأله نسبية على أي حال.
هكذا نرى فكرة الابتكار.. فكرة تحتاج الى التربية والحضانة، والأمل الآن في إنقاذ الموهوبين واكتشاف الماس الكامن والدفين في نفوس أبنائنا.
والله الموفق.
|
|
|
|
|