| مقـالات
من أصول التربية الإسلامية تكافؤ الفرص في التعليم بين جميع أفراد الأمة، وتهيئة الفرص في التعليم تشمل جميع الأفراد، إذ إن حق التعليم والتبصير وتزكية النفوس بالعلوم والمعارف لا يخص فرداً دون آخر ما دام هذا الفرد لديه القابلية للتعليم والاستعداد له وعنده العزم والتصميم والإرادة الجازمة. وفي قصة الصحابي الجليل عبدالله ابن أم مكتوم ما يوثق ويدعم ويؤصل هذا الاتجاه لدى المسلمين. وهذه القصة التي ينفرد الأسلوب القرآني في عرضها وبيانها في لمحات حيّة قوية ومؤثرة ينبغي لكل تربوي أن يفهمها جيداً ليدرك معناها ومغزاها ومرماها، كما أن الذين يعملون في مثل هذه الأيام في أماكن تسجيل الطلاب في مدارسهم أو في مراكز التسجيل والقبول في الجامعات المختلفة للبنين والبنات أقول مثل هؤلاء في هذه الأيام في ديار الإسلام وهم يبحثون عن الحقيقة وينشدون الحق والصدق يجمل بهم أن يدركوا هذه الحقيقة بل الوثيقة التربوية الهامة في سورة عبس ولهم في رسول الله أسوة وقدوة ولقد جاء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في تعليمه وتقويمه جاء إليه وهو مشغول بأمر سادة قريش عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي جهل وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة ومعهم العباس بن عبدالمطلب والرسول يدعوهم إلى الإسلام ويرجو بإسلامهم خير الإسلام وعزته ومنعته لا يريد شيئا لنفسه وهؤلاء واقفون في طريق الدعوة بقوتهم المختلفة والرسول مشغول بأمر الدعوة وقوتها وقبولها لا لنفسه ولا لأهله ولا لشيء آخر سوى الدعوة للإسلام فلو أسلم هؤلاء لتغيَّرت الحال في هذا الظرف بالذات يجيء هذا الرجل قائلاً للمعلم الأول علِّمني مما علَّمك الله وأعطني الفرصة كي أتعلم ويكرر هذا وهو يعلم انشغال الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو فيه ورغبته في قوة الإسلام وانتشاره وإخلاصه لأمر دعوته ولكننا نخلص من هذه القصة بفوائد عظيمة من أهمها ما يتعلق بموضوعنا الذي نحن بصدده وهو أن الناس في هذه الدنيا يتعاملون بقيم عديدة فيها المال الكثير والجاه العريض وفيها القوة والمنعة وهي قيم ثقيلة في موازين الأرض وعنيفة أيضاً لكن القرآن يقول «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» ويقول واصفاً حال هذا الأعمى الفقير هو وغيره ممن يريد العلم «وما يدريك لعله يزكي أو يذَّكر فتنفعه الذكرى» ونحن هنا في هذه المناسبة مناسبة تسجيل الطلاب وإرشادهم حسب ميولهم ومواهبهم وتوجههم نحو الدراسات التي تؤهلهم لها تلك الميول والاتجاهات والقابليات وتكون النظرة إليهم نظرة عطف وحنان واستحقاق بصرف النظر عن أي اعتبار آخر« وما يدريك لعله يزكى» وقد أحسنت صنعا بعض الجامعات في الاهتمام بما يسمى الإرشاد الأكاديمي لكن يا ترى هل أدى واجبه وما طلب منه؟ الجواب لدى أصحاب الشأن. وكم في الدنيا من مثل ذلك الأعمى الذي أعطاه الرسول الفرصة بعد ذلك حيث كان يهش له ويرعاه ويقول كلما لقيه أهلاً بمن عاتبني فيه ربي وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة فهل يا ترى ونحن في مواقعنا نستقبل الطلبة والطالبات هل نهش ونبش في وجوههم ونعطيهم الفرصة في التسجيل وفي الأماكن التي يرغبونها وينقادون لها مهما كان هذا الطالب أو الطالبة مقررين القاعدة القرآنية «وما يدريك لعله يزكى» مستشعرين التوجيه القرآني الكريم الذي رسم لنا الطريق السليم في التعامل الكريم وتيسير سبل الالتحاق بدور العلم وتوجيه الشباب والشابات إلى ما يصلحهم لنجني الثمرة الموعودة في القرآن الكريم «وما يدريك لعله يزكى» بصرف النظر عن موازين الأرض واعتباراتها الأخرى إن فكرة توجيه الطلاب الى أنواع الدراسات التي تلائم ميولهم واستعداداتهم فكرة إسلامية أصيلة غير مكتسبة من هنا أو هناك كما يدعي البعض، بل إن العرب أنفسهم عرفوا ذلك ووعوه يقول ابن سينا ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية ولكن ما شاكل طبعه وناسبه، كما بيَّن ابن الجوزي رحمه الله ذلك عندما قال إن الرياضة لا تصلح إلا في نجيب والسبع وان ربي صغيرا لا يترك الافتراس، كما يرى علماء المسلمين أن اختيار العلم تبعا للموهبة والقابلية لا يقوم به الطالب وحده ولا المعلم وحده، بل كلاهما ويشترك معهما والد الطالب أيضاً ويقول الزرنوجي« لا يختار الطالب نوع العلم بنفسه بل يفوِّض أمره إلى أستاذه فإنه قد حصل له من التجارب في ذلك فهو أعرف بما ينبغي لكل أحد وما يليق بطبيعته، أما الأصفهاني في محاضرات الأدباء فيقول على المدرس أن يتصفح طلابه كما يتصفح خطاب حرمه وألا يدعو إلى حلقته إلا من كان قادراً على استيعاب ما يجري فيها فليست كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية لكن ما شاكل طبعه وناسبه، هذا ولقد خطوا في ذلك خطوة أخرى جيدة فرأوا إعادة توجيه الطالب إذا تبين خطأ توجيهه في البداية. قال ابن جماعة وإذا علم أن تلميذاً لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه روي أن يونس بن حبيب كان يختلف الى الخليل بن أحمد يتعلم منه العروض فصعب عليه تعلمه فقال له الخليل يوماً من أي بحر قول الشاعر:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع |
ففطن لما عناه الخليل فترك العروض وأخذ يتعلم النحو وقواعد اللغة حتى أصبح في ذلك إماماً وعالماً شهيراً. قال الزرنوجي بدأ محمد بن إسماعيل البخاري يتعلم الفقه على محمد بن الحسن فقال له اذهب فتعلم علم الحديث لما رأى ذلك العلم أليق بطبعه فطلب علم الحديث فصار فيه إماماً غير منازع فيه.
هذا ولقد أفصح الغزالي تفاوت الطلاب في القدرة والتحصيل وكان يطب ألا يشترك الذكي مع الغبي في التلقي فهو تقصير في الذكى وإرهاق للغبي، أما الأصولي المتمرس الإمام الشاطبي رحمه الله فقد اهتم بذلك كثيراً وبيَّن أسس التوجيه هذه لطالب العلم وبيَّن أن من الواجب أن نقوي لدى كل إنسان ما جبل عليه بالفطرة وأن نوجهه على ما فطر عليه في أوليته.. إلخ وله رحمه الله في هذا كلام جيد وشيق فليرجع إليه من أراد الاستزادة وذلك في كتابه المميز الموافقات، ومما سبق ندرك بجلاء أن رجل التربية والتعليم ناصح ومرشد ينصح للمتعلم متى سنحت الفرصة للنصيحة ويرشده عند الحاجة إلى إرشاده وإسناده ويساعده عند الحاجة إلى المساعدة وخاصة ما يتصل بتسجيله وتوجيهه إلى نوع الدراسة التي تلائمه مع الشفقة والرحمة وأن يجريهم مجرى بنيه« إن ما أنا لكم مثل الوالد لولده» ينظر الى هؤلاء الطلبة الذين «هم مثل الحيارى أحياناً عند التسجيل» نظرته إلى ابنائه يفكر فيهم وفي مستقبلهم بتذمم ورحمة وشفقة وعاطفة لا بصلف ولا جلف ولا سوء خلق يعمل المسلم على إفادة أبناء المسلمين والنهوض بهم ويعاملهم معاملة كلها عطف لطف ورأفة، يحبهم محبته لأبنائه يفكر في مصيرهم يخلي ذهنه ووقته من الشواغل الا بهم وإن أولى الناس بالعطف والرحمة أولئك الطلبة والطالبات يأتون الى مكاتب التسجيل ودرجاتهم ليست كبيرة وملا بسهم رثة وقلوبهم واجفة لا يشعرون أحياناً بحب أحد لهم وكم طالب صعد في سلم المجد بكلمة حانية ومودة صادقة من تربوي مخلص وتوجيه سليم وكم طالب ضاع مستقبله وترك دراسته بتعامل جافٍ صلفٍ أو كلمة نابية لأن مثل هذا التعامل غير التربوي خاصة عند أول ملاقاة أو محادثة يدهش عقله ويحير ذهنه ويجعل رأيه فاترا إن الأعمى لا يصلح أن يقود العميان.
تربية عمرية:
دخل على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد ولاته فسأله عمر كيف أنت مع أهلك قال إذا دخلت سكت الناطق قال له عمر اعتزل عملنا فإنك لا ترفق بأهلك وولدك فكيف ترفق بأمة محمد صلى الله عليه وسلم إنها تربية مثالية في حسن التعامل مع الأهل والولد والمراجعين من المسلمين وإدخال السرور عليهم وقضاء حوائجهم وليتربى الصغار والكبار تربية إسلامية بعيدة عن الخوف والجبن والقهر والعسر المؤدية إلى الذل والخداع وسوء الطباع إن عمر رضي الله عنه لم يفصل هذا العامل له إلا لجفائه وشدته وقسوته وغلظته إنه درس تربوي رائع من خليفة راشد، فهل يا ترى يعي الخلف مآثر السلف نرجو ذلك والله المعين.
|
|
|
|
|