أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 12th June,2001 العدد:10484الطبعةالاولـي الثلاثاء 20 ,ربيع الاول 1422

العالم اليوم

محمد غوانمة شاهد على معاناة المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية
خمس سنوات قضاها في العزل وعشر سنوات لم يستطع أحد من أهله زيارته
* رام الله نائل نخلة:
^^^^^^^^^^
في مخيم الجلزون.. الذي يضم في حاراته وزققه الكثير من مشاهد وقصص للعائلات الفلسطينية التي ضحت بالكثير في سبيل هذا الوطن ولم تبخل عليه يوما بالشهداء والجرحى والمعتقلين.
^^^^^^^^^^
زرنا بيت الأسير محمد عبدالفتاح غوانمة )42( عاما الذي افرج عنه مؤخرا بعد اعتقال دام 10 سنوات بتهمة الانتماء للجهاد الإسلامي ومقاومة الاحتلال قضاها متنقلا بين سجون الاحتلال ليكون بذلك قد أمضى 20 عاما في السجن من عام 1977 الى الألفية الجديدة.
مظاهر الفرح والاحتفال فرضت نفسها على المكان والابتسامات ارتسمت جلية على وجوه أفراد هذه العائلة التي حيرت الاحتلال على مدى عقود..
الام )60( عاما والاخوة الاربعة وأبرزهم محمد جميعهم ذات يوم كانوا معتقلين في سجن المسكوبية في القدس يخضعون لتحقيق عنيف ومتواصل بتهمة إيواء مطاردين وتقديم مساعدات لمقاتلين فلسطينيين.
هب شباب مخيم الجلزون كعادتهم محتفلين بخروج أحد اكبر المناضلين في المخيم الذي يحظى باحترام وتقدير الجميع لسجله الطويل في المقارعة والصمود والثبات فبالرغم من ان عدد اعتقالاته واستدعائه للمخابرات قد تجاوز الثلاثين مرة الا انه لم يعترف بكلمة واحدة.. لكن يبدو ان الاحتلال قد شوه امورا كثيرة وخلق حالات تجسدت فيها المعاناة الازلية والتي ستبقى شاهدا على حقد وجرائم الاحتلال ومدى بشاعته ودناءته.
)أهلا وسهلا بالشباب( استقبلتنا أم محمد التي لم تستطع ان تخفي السرور والفرحة وهي تستقبلنا قبل ان ندخل الى غرفة الضيوف بمنزل العائلة الذي يقطنه ابناؤها جميعا مع عائلاتهم واطفالهم بالرغم من الاكتظاظ الشديد وهو حال جميع بيوت مخيم الجلزون.. ولم يتوقف لسانها عن الترحيب بنا والدعاء لشباب فلسطين بالحماية على امل ان تصبرنا قليلا حتى يعود محمد ابنها فلذة كبدها الذي بكت الليالي الطوال قلقا وخوفا عليه من الاحتلال ولكنها قبلت قضاء الله وقدره واسلمت امرها له ليعود ابو العبد من رحلته الى البراري خارج حدود المخيم.
اليوم فقط شعرت أنني كنت اسيرا وهو ينطق بهذه الكلمات مد يده محمد ليسلم علينا والعرق يتصبب من جميع جسمه وقد بدا عليه الارهاق والتعب من هذه الرحلة الى البرية باحثا عن الحرية التي فقدها عشرين عاما يريد ان يحدق بنظره إلى ابعد مدى ليشاهد مباني جامعة بيرزيت التي كان في احد الايام من انشط طلابها والتي شهدت ساحتها اللقاء الاول له مع الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي.. وفي نفس الوقت يتلذذ ببعض من حبات التين التي لم يذق طعمها طوال سجنه.. 27/5/1977م، كان اول اعتقال لي وكنت وقتها استعد لامتحانات التوجيهي ولكن اعتقلت وقضيت أربعة شهور في التحقيق ومعي اربعة شباب من المخيم ولم يتحمل بعضهم التحقيق فاعترفوا علي بقيادة مجموعة اسميناها )فتيان فلسطين( لمقاومة الاحتلال وكتابة الشعارات واغلاق الشوارع والقاء الزجاجات الحارقة ولكني انكرت حينها كل هذه التهم وحكمت علي المحكمة العسكرية في رام الله بالسجن لمدة خمس سنوات امضيتها متنقلا بين السجون ضمن تنظيم حركة فتح هذه بداية القصة مع أبو العبد.
ولأن وجع الوطن متجسد في هذا الرجل لم يستطع أن يقاوم شعوره واندفاعه الجامح نحو العمل الجهادي ومقاومة جنود الاحتلال من اجل فلسطين التي احبها واحبته.
وقد كانت هذه التجربة غنية بالنسبة له وكان دائما يحب القراءة والمطالعة فهو انسان مثقف واسع الاطلاع اضافة الى تجربته الواسعة من التنظيمات وكيفية عملها حيث في تلك الفترة بدأت تشهد السجون الاسرائيلية حركة منظمة من المعتقلين لترتيب امورهم وكيفية تعاملهم مع الادارة كل هذه الاحداث والتي كان ابو العبد مطلعا عليها ساعدته في امتلاك كم كبير من المهارات القيادية والتنظيمية وبعد ان انهى محكوميته خرج من السجن ليواصل دراسته وينجح في التوجيهي ويلتحق في جامعة بيرزيت بكلية الآداب وهناك يلتقي مع الدكتور فتحي الشقاقي الذي كان من ابرز العمل الطلابي الإسلامي في تلك الفترة لتكون بداية التحول الجهاد الإسلامي ويصبح خلال فترة وجيزة من ابرز واكثر الطلاب نشاطات وحيوية ودفاعا عن فكره وما يؤمن به.
ولكن بسبب ظروف قاهرة انتقل الى كلية الدعوة واصول الدين ليدرس الشريعة الاسلامية ولكن اليهود الذين يسعون ويصرون على تجهيل الشعب الفلسطيني وقتل كل بذرة الخير فيه اعتقل محمد عام 1986 بعد ان اعترف عليه أحد شباب مخيم الامعري في رام الله بأنه استلم منه قطعة سلاح ولكن كطبيعة لم يعترف بالرغم من الاساليب الوحشية التي استخدمت ضده في زنازين رام الله الذي كان يعتبر من اصعب مراكز المخابرات الاسرائيلية لقساوة المحققين والزنازين التي كانت تحت الارض بعشرات الامتار حيث لا تصلها الشمس ولا الهواء كأنك في مقبرة جماعية ولكن كل هذه الظروف لم تثن عزم ابو العبد او يلين جانبه لهذه الضغوط فبقي صامدا ولم يتكلم كلمة واحدة طوال فترة التحقيق وحكم عليه لمدة سنتين وبعض هذه الفترة في سجن جنيد بمدينة نابلس لتضيف هذه التجربة الثالثة من الاعتقال خبرات كبيرة ولكن هذه المرة باسم الجهاد الاسلامي التي انطوى تحت لوائها واصبح من اكثر الافراد نشاطا وحيوية وتأثيرا.
ومع بداية الانتفاضة التي سبقها محمد بنضاله وجهاده بعشرات السنوات جاءت انتفاضة الغضب الفلسطيني انتفاضة الحجر والمقلاع والملوتوف متزامنا مع انتفاضة السلاح والنضال والعمل الجهادي المتواصل وتوسع نشاط ابو العبد خارج حدود المخيم ليشمل الضفة الغربية من شمالها الى جنوبها ينظم ويشكل المجموعات العسكرية وغيرها من سواعد الحجارة والأشبال الذين انصب اهتمامه على تربيتهم وعقد الجلسات لهم في المساجد ولا يتوانى في تقديم الخدمة والمشورة للجميع يحافظ على علاقات طيبة مع الجميع بغض النظر عن توجهاتهم وانتمائهم.
ويقول محمد انه لم يفلت من شبح الاداري حيث امضيت سبعة عشر شهرا متواصلات في الاداري بدون محاكمة فقد كانوا يمددون لي فترة الاعتقال كل ستة شهور في اخر يوم من الإفراج في محاولة منهم لتحطيم معنوياتي ولكنني والحمد لله كنت اواجه هذا القرار بمزيد من الصمود ومزيد من النشاط بين اخواني المعتقلين ليكون الرد الامثل والافضل على خطواتهم.
ويخرج محمد من السجن ليكون قد أمضى ما يقارب التسع سنوات في السجن موزعة على ثلاث مراحل اعتقالية.. وهنا يبرز دور والدته واخوانه ولا يهدأ البركان الثائر في اعماق محمد غضبا وثورة على المحتل وتقول والدته لقد كان قلبي يتفطر حزنا على ابني محمد الذي لم يهنأ يوما واحدا في حياته كباقي الشباب فكان يتنقل من سجن الى اخر لم يكن يلتفت الى نفسه او مستقبله لقد كان همه الوحيد هو كيف سيواجه الاحتلال. وبعطف الام وحنانها تلجأ ام محمد الى تزوجيه بإحدى قريباتها لعل وعسى يهدأ ويلتفت الى حياته الجديدة ولكن ما كادت ان تمر اربعة شهور حتى اعتقل.
في هذه الأربعة شهور من زواجه زاد محمد من نشاطه فلم يكن يجلس في البيت الا يعود اليه متخفيا لانه كان يعلم ان رجال المخابرات يراقبونه ويريدون اعتقاله وكانت هناك شكوك حول نشاطه في العمل العسكري وخاصة بعد الاعترافات عليه من شباب اعتقلوا من قبله كانوا من اكثر المقربين اليه.
ويروي احمد الاخ الاصغر لمحمد حادثة الاعتقال الاخير حيث انه يملك كراجا لتصليح السيارات بجانب المنزل ويقول بعد ان انهيت عملي الساعة الرابعة عصرا جلست كعادتي امام باب منزلنا وفي اثناء ذلك وقفت سيارة من نوع فور ترانزيت تحمل لوحة عربية وفي داخلها فتاة والسائق يلبس زي ميكانيكي سيارات فاعتقدت انهم من المنطقة ولم اعرهم اهتماما وخلال ثوان فتحت جميع ابواب السيارة ونزل منها عشرات الجنود الذين يلبسون زي العربي وطوقوا المنزل ليتقدم مني السائق والفتاة لاكتشف انهما ضابطا مخابرات وهما المسؤولان عن المخيم وطلبا مني الجلوس على الارض ليخرج الجنود ومعهم اخي محمد الذي كان وقتها في البيت.
ويقول ابو العبد شعرت في تلك اللحظات بتحركات غريبة فقمت بالتوجه الى الباب الخلفي من المنزل لأهرب ولكن كانت المنطقة جميعها مغلقة ولم استطع الافلات منهم ولتبدأ من هناك رحلة العذاب الاخيرة في هذا السجل الاعتقالي الطويل فقاموا بإدخالي الى احدى غرف البيت وبدءوا يحققون معي عن سلاح وقنابل ومتفجرات ولأكثر من ست ساعات استمر التفتيش في البيت الذي لم يتركوا فيه شيئا سليما بل قاموا بتدمير كامل محتوياته من الاثاث وادوات المطبخ والطحين والزيت والغاز الذين خلطوه مع بعض في هذه الساعات حولوا البيت الى اطلال من الخراب والدمار. لينقل محمد الى مركز تحقيق المسكوبية بالقدس المحتلة ليبدأ فصل جديد من معاناته وألمه في التحقيق الذي تواصل لمدة ستة شهور بدون انقطاع اعترف عليه اكثر من اربعين شخصا سواء من المخيم او خارجه وبعد اشهر لم يستطع الاحتلال اثبات جزء كبير من التهم سوى تهمة واحدة وهي المفوض السياسي العام للجهاد الاسلامي في رام الله وعليه حاكمته اسرائيل بعشر سنوات جديدة من الاعتقال والالم والمعاناة والمرض والعزل.
المأساة التي تفاجأنا بها عند لقاء محمد ابو العبد هي انه وبالرغم من انه كان من ابرز واذكى طلاب مدرسته في المخيم ونجاحه في الجامعة التي كان من اكثر الشباب نشاطا وحيوية وعقلية وعلما وثقافة فيها.. هو اليوم بحاجة الى ان يعرض على طبيب نفسي!! نعم وبكل الم ينطقها اخوانه وبكل مرارة والدموع تقطر من عيونهم فذاكرته ضعيفة وعندما يتحدث تجده يخرج من موضوع ويدخل في آخر وهو كثير الحركة يتحدث بصوت خافت وغير مسموع يعبر عن شدة المعاناة والالم وقساوة ما واجهه في حياته الاعتقالية من ادارة السجون.
حتى انه طلب في اخر ايام اعتقاله من اخوانه في الجهاد الاسلامي يعزل في غرفة انفرادية بعيدا عن الناس لا يريد ان يرى احداً او يتكلم مع احد ليوضع في زنازين العزل في بئر السبع لمدة اربع سنوات وستة عشر شهرا اخر من العزل قضاها في عزل شطة ليخرج من هناك مباشرة الى الحرية التي لم يفهم معناها يقول احمد اخوه الذي ذهب لاستقباله عند حاجز جنين لم يستطع ان يتعرف على أحد في بادئ الامر لقد كان قادما لتوه من زنازين الموت التي رفضت ادارة السجن اخراجه منها بالرغم من المطالبات العديدة من الاهل والمنظمات الحقوقية والدولية انه امر كان فوق طاقته واكبر من ان يستوعبه انها الحرية.. التي وهبت له الحياة مجددا.. ماذا تعتقدون منه ان يكون مسجونا عشرين سنة وعمره 42 عاما ولديه ابن واحد فقط لم يتجاوز عمره عشر سنوات.
الاكثر كارثية من ذلك هو منع المخابرات الاسرائيلية احداً من عائلته.. اخوانه الستة.. اعمامه.. اصحابه.. جيرانه.. اي واحد من هؤلاء ممنوع من زيارة ابو العبد لمدة عشر سنوات متتالية وهي فترة اعتقاله الاخيرة فقط عام 98 زارته اخته لمدة خمسة شهور ومن ثم اعيد المنع عليها مجددا.. اي نازية هذه.. أي احتلال هذا.. اي تدمير للذات والانسان والروح والحياة معا.
محمد جلس صامتا وهو يستمع ويصغي بامعان الى كل ما يقال في هذه الجلسة.. حركاته تزداد شيئا فشيئا عندما سمع عن الزيارة والزنزانة والسجن والحرية.
محمد ما زال متمتعا بطعم حبات التين التي أكلها في جولته الاولى منذ ثلاثة آلاف وستمائة يوم بأكملها لم يستطع ان يتجول بحرية بعيدا عن الكلبشات في المعصم والأرجل.. محمد اليوم يريد الذهاب الى كل الدنيا.. الى رام الله وبيرزيت والمسجد الاقصى ولن ينسى ان يعرج على الممر الامن بين ترقوميا وغزة.. وسيتجول طويلا في أزقة المخيم الذي كرمه خير تكريم واستقبله اكبر استقبال فأقاموا له الاحتفالات والولائم ابتهاجا بعودته الى مخيم اللجوء والمعاناة وهو ابن قرية الدوايمة التي هاجروا منها عام 48.. كان اخر سؤال وجهناه له عن شعوره اليوم الذي بدا عليه التحسن رويدا رويدا عما كان عليه لحظة الإفراج عنه سألته عن الحرية فقال وهو يضحك «أنه شعور بالحياة مجددا»..

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved