| الثقافية
افترسني القلق، حاولت أن أغني فخانتني حنجرتي، رحت أتفرس في الأشياء التي حولي محاولا تبديد الخوف الذي بداخلي.
الطاولة التي انتصبت امامي صنعت من شجر الزان الفاخر مطلية باللون الاحمر، سطحها، استقر عليه لوح من الزجاج الشفاف المشطوف بعناية من الاطراف، وعلى الطاولة استقر مصباح قراءة عُمل من المعدن الأسود وكُسي بالكروم اللامع.
الكرسي الذي خلف الطاولة صُنع من الخشب له مسندان خشبيان مقوسان متجهان ناحية الاسفل وظهره كُسي بالجلد الفاخر الأسود وظهره انغرست به ازارير مستديرة الشكل، من نفس نوع الجلد كل اربعة ازرة تشكل مربعا مع بعضها البعض.
في الركن الشمالي الشرقي من الغرفة انتصب بحياد عامود من الرخام الابيض استقرت عليه آنية ورد صنعت من النحاس المحروق فتحول لونها الى البني الداكن، غرست بداخله وردتان بساقين طويلتين الاولى حمراء مازال لونها ظاهرا رغم الشحوب منتصبة تغالب الموت.. الأخرى عجزت عن معرفة لونها.. ساقها انكسر تحت التاج قليلا وانكفأت أوراقها الى الاسفل كانت قد ماتت تماما، النوافذ توارت خلف ستائر سميكة حمراء قانية، الجدران مطلية باللون الابيض الكريمي الذي يشعرك بالبرد كلما اوغلت النظر فيه.
سمعت صوت الباب يغلق، انتصبت واقفا.
تقدم باتجاه الكرسي الذي خلف الطاولة دفع الكرسي وجلس، غاص بداخله، كان قصيرا بشكل ملفت لم اعد ارى منه سوى وجهه وكتفيه، يلبس بدلة انيقة وحول عنقه شارات حمراء وقطع من النحاس، وجهه جامد كأنه قدّ من ثلج.
ناولني الاوراق ثم شبك يديه على سطح الطاولة وقال بلغة آمرة: اقرأ.
«كانت بغداد أسلمت عينها للسهاد، انحدرت بمحاذاة دجلة، استبد بي الحزن، فأسملت فمي للانين، الضجر اخذ يختال في الزوايا، منذ ان ماتت امي تجتاحني رغبة في البكاء، التفت الى دجلة كانت تنتحب.
امي قبل موتها كانت تمارس العويل كلما ضاع ابي في دروب المدينة، وكانت تجزم بانه لن يعود».
رفعت بصري بسرعة استطلع ملامحه كان وجهه متعطنا وقد غرس خده الايمن على يده اليمنى فظهرت تجاعيد وجهه بوضوح كان يحدق في النسخة التي امامه.
رحت اقرأ بسرعة وادغم بعض الحروف «أمي تعجن الدقيق بالوجع في تنورنا القديم كانت النار تلفح وجهها الوديع فتتقيها بطرف كمها المهترئ..»
قاطعني قال اعد واقرأ بصوت واضح.
بدأ جسدي ينز عرقا وصوتي بلله الخوف.
امي تعجن الدقيق بالوجع في تنورنا القديم كانت النار تلفح وجهها الوديع فتتقيها بطرف كمها المهترئ، ابي أصاب قدميه الصدأ وهو مصلوب على قارعة الطريق»..
عدلت من وضع جلستي ووضعت يدي على فمي إحم إحم إححححححم.
ناولني كوب ماء دون ان يتكلم اخذته صار يرتعش في يدي كرعت الماء دفعة واحدة ومازلت اشعر بالظمأ.
صمت برهة احاول ان استجمع قواي.
قال: «تذكرت ان جيكور..» اكمل القراءة..
نقلت بصري على الصفحة بحثا عن بداية المقطع، قرأت ورحت أحز على نهاية الكلمات بأسناني.
«تذكرت ان جيكور تدثرت بالضجر، لملمت جدائلها وجلست على ضفة النهر، مدت قدميها الداميتين الى حضن الشاعر الذي راح ينسل الشوك من قدميها بتؤدة».
قال بهدوء مخيف من جيكور؟
مدينة اقصد قر قرية سيدي.
اكمل واشار بيده.
«حاصره الوجع وراح يرقص على قدم واحدة»
قف قف قالها بصرامة وتابع لماذا تركت بعض السطور؟ اعد.. اعد..
«أخذ يضرب جذع النخلة التي امامه وعبأ فمه بالنشيد.
مطر..مطر ..مطر
وكل عام حين يعشب الثرى نجوع
مامر عام والعراق ليس فيه جوع
حين فرغ من النشيد حاصره الوجع فراح يرقص على قدم واحدة حتى اوجعه التعب، انسل عائدا الى المدينة.»
باغتني بسؤال
ماذا قصدت هنا؟
تصنعت الهدوء ولم استطع.
قلت لم اقصد شيئا سيدي هذا يحدث كثيرا مع الناس.
واضفت بلغة مستجدية وبارتباك ظاهر لاتوغل سيدي في التأويل وشعرت اني عاجز عن وقف خياله الجموح الذي سيطوح به بعيدا عما قصدت.
يبدو انك لاتفهم ماتكتب.
قلت بصوت تنقصه الثقة: أفهم سيدي أفهم.
وأردف بلغة ساخرة: دون ان تظهر ملامح الابتسامة على محياه.
ممتلئ وتدعي الجوع أليس هذا بطراً
قلت بسرعة: القصيدة للسياب وليست لي ياسيدي. لم يعلق واشار لي ان اكمل.
صوتي بدأ يضعف ويخفت قليلا «دفنت قدمي في ماء النهر وبصري مازال معلقا في الضفة الاخرى لكنه ارتد إليَّ كسيف اتعبه منبع الضوء البعيد.
رحت اجمع الطين اللزج واشكل منه بيوتا لها تفاصيل وجه امي كنت اصنع لزوايا البيوت اعمدة صاعدة الى السماء تشبه مآذن المساجد الموغلة في السمو» قلبي صار يخفق بشدة، والدماء تجري في اوردتي محدثة نبضا هائلا، والعرق مازال يسح من جسدي حتى تبللت ثيابي.
المكان بدا غائماً في عيني، والسطور بدأت تصغر وتتداخل وتتشابك مع بعضها البعض.
«خبأت رأسي بين ركبتي، تداعى الى سمعي من أعلى النخلة التي اجلس تحتها هديل حمامة تنوح كان صوتها مزيجا من العويل و الغناء ربما كانت تنوح منذ الف عام، احسست بالفجيعة واعتراني شيء من الآلام.. لو.. امش.. بم
دعكت عيني بكلتا يدي وحاولت ان استجمع شتات الكلمات وكنت أقرأ بصعوبة.. «جموع الناس تحدق في البعيد..»
|
|
|
|
|