أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 12th June,2001 العدد:10484الطبعةالاولـي الثلاثاء 20 ,ربيع الاول 1422

مقـالات

مدخل لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة«11»
د. حسن بن فهد الهويمل
وعوداً إلى مبدعي تلك المرحلة الإشكالية، نجد أن من تتنازعهم مرحلة التأسيس والانطلاق الكاتب الرومانسي الجمالي عبدالله بن عبدالرحمن الجفري المولود سنة 1358هـ الذي استهل بداياته السردية بأعمال قصصية ذات سمات فنية، ليست من السائد في شيء، وأكاد أجزم بانقطاعه عن الابداع القصصي، وإغراقه في العمل الصحفي اليومي المحترف. بدت طلائع نشاطه القصصي قبل خمس وثلاثين سنة بمجموعته «حياة جائعة» في مائة صفحة، وكان بحق عذرياً لا يبرح رحاب المرأة ومضاضة الألم،وقد اتهمه الدارس والناقد محمد الشنطي بالنمطية )1(، معولا في اتهامه على إطالته الوقوف في تلك المهايع على شاكلة الرومانسيين الحالمين.
ومما لا قبل لنا بنفيه أو تبريره ما ألفناه من بدايات المبدعين كافة. فالموهوبون منهم والمتعلمون يستهلون تجاربهم بأوسع القضايا وأخصبها وأكثرها تجاوباً وأقدرها على الجذب والإثارة والتأزيم، كقضايا المرأة العاطفية والاجتماعية. والجفري من الموغلين في هذا، ولغته الحالمة المتأنقة مكنت له في تلك المجالات، وهكذا فعل أترابه من كتّاب القصة والرواية في مطلع شبابهم، يطيلون الحديث عن الحب كما الشعراء العذريين، والحديث عن الحب قد ينفلت من إساره ليكون حديثاً في قضايا المرأة، ولست أشك في تأثير النظرية الفرويدية على جملة من المبدعين والمفكرين، ودخنها كما دخن «الرباء» فمقبل ومكثر.
ومع انفتاح السرديين على قضايا أخرى، تراهم يأخذون طريقهم إليها على جسر من النساء، حتى لقد شكك البعض في غايات الأبطال والفاتحين وصناع التاريخ ودوافعهم، وكأنهم جميعاً مهاجر أم قيس، وليس عنا ببعيد ما فعله «جرجي زيدان» في رواياته التي كان لها حضور فاعل في فترة من أخصب الفترات، ومع صليبيته الحاقدة سماها بالروايات الإسلامية. ونحن حين نتحفظ كما تحفظ الشنطي من قبل، وهو يتعقب المبدعين السرديين مجلياً علاقة البدايات بالمرأة لا نغفل ما يتميز به المبدع السعودي من حذر شديد، إذ إن البيئة المحلية بكل حساسيتها لم تمكن المبدع من الوقوع بما وقع فيه المبدعون في الوطن العربي من تهتك في الأخلاق وسوء في المقاصد، ولا يجوز التعويل على بعض الأعمال التي لم يتفق النقد بعد على فنيتها فضلاً عن مشروعية الفعل، وبدايات الرومانسيين تعويل غير سديد على ما يتداوله المشهد من أعمال رائدة، ومن ثم نجد علاقة تأثرية أو استلابية بين بدايات أولئك وتهالك إحسان عبدالقدوس على فضائح الجنس، وإن كنت لا أستبعد إلماماتهم القرائية به كغيرهم من شباب جيلهم ممن استهوتهم اسفافاته، بحيث وجدوا فيها ما يدغدغ مشاعرهم المتولهة. والجفري باعترافاته كفانا مؤونة التخمين حين اعترف بتأثره بوجدانيات مصطفى صادق الرافعي ورسائله في الحب والتوله. والرافعي كتب ما كتب عن حب من طرف واحد، لقد أحب «مي زيادة» ولم تبادله الحب، بل أشفقت عليه، ورقّت له، بسبب عاهة الصمم وقبح الصوت وتصابي الشيوخ، وصرفته بلطف، كما صرفت غيره من عمالقة المرحلة و«صالون مي» من حبائل السوء، ولا عبرة بالإسباغات التي أضفاها الدارسون، وبخاصة الدارسة «سلمى الحفار». وهذه العذابات التي تعرض لها الرافعي تمخضت عن رسائل وقصص حب صارخ كـ«حديث القمر» و«السحاب الأحمر» و«رسائل الأحزان» وهي التي تعلقت بها ناشئة مصر والوطن العربي، قبل أن تكون الأعمال القصصية المتفحشة عند مشاهير الروائيين.
والجفري الذي مازال متحملاً لقسط كبير من هموم المرأة وقضاياها، أخذته أحداث جسام، ألمت بأمته، فحملته على النهوض ببعضها عبر شخوص آخرين، ليسوا كشخوص بداياته، لقد صدمته الأحداث، ولم يكتف بالصراخ المتشنج في وجهها، بل راح يتأمل ويستبطن، ويحلل ويفكر، وبدت شخصياته نخبوية، وليست من الدهماء ولا الشبقيين ومطاردي المرأة، ولكنه خرج من إسار الابداع وفعالية الفن إلى فضاءات السرد الموضوعي، ولما يعد - فيما أعلم - إلى مطارح الابداع وله أكثر من خمسة عشر عملاً، من أهمها أعماله القصصية، ومنها: «حياة جائعة» و«الظمأ» و«الجدار الآخر»، «جزء من حلم» و«برق لجنون المهرة» وكلها مجموعات قصصية.
ومع الأداء المتواصل، لم تحظ أعماله بدراسات منهجية، تكشف عن أدق خصائصه، وما هي إلا إلمامات وصفية اشارية، تتعقب بعض اصداراته، ومنها ما كتبه الأستاذ سباعي عثمان في مقدمة انجزها لكتابه «لحظات» وما كتبه الأستاذ أحمد المهندس في تعريفه بالمجموعة.
والجفري الذي يعيش حضوراً مكثفاً في كتابة المقالة الصحفية من حيث البنية والاسلوب وتعدد القضايا، يرتبط بالخصوصية الاسلوبية ذات الطابع الفني، ومن ثم فهو لا يفرق في أسلوبه الايقاعي المتأنق بين الابداع القصصي وكتابة المقالة الصحفية، ولأن الجفري يعتمد على التحصيل الذاتي، إذ لم يكمل دراسته الجامعية - فيما أعلم -، فقد بدت بصمات مقروئة واضحة، لا من حيث البناء واللغة فحسب، بل وفي المضمون. وقد أشار في لقاءات أجريت معه في بعض الصحف والمجلات عن قراءاته، وعن عمق تأثره بالرافعي، وذلك بالطبع في مطلع حياته، وإذا كنا لا نستبعد المحاكاة الاسلوبية والموضوعية في مجموعته «حياة جائعة» أو قل التناظر والتناص، فإننا لا نفكر في توقع استمرار هذه المحاكاة، لقد شب عن الطوق، وامتاز بنكهة خاصة، يعرفه بها المتابعون لتحولاته البطيئة، والجفري يمتلك موهبة قصصية من اليسير جداً استجلاء مبلغها من الجودة ومستواها في سياقها الفني والزمني، والدكتور «سحمي الهاجري» الذي درس القصة القصيرة في المملكة دراسة أكاديمية، لم تتح له إمكانياته إذ ذاك على الأقل تقصي ابداع الجفري، ومن ثم اقتصر على الاشارة لمجموعته الأولى «حياة جائعة» دون ان يقدم أية دراسة حولها، وقد أشار بما لا غنى فيه إلى قصصه اللاحقة مثل «في نفسه مرض» و«الزهرة الذابلة» و«عودة إلى السجن المحبب» بحيث لا يزيد مجموع ما قاله عنه على سطر واحد، وهو قول لا يغني ولا يقني، ويبقى الجفري حتى هذه اللحظة في منأى عن الساحة النقدية التطبيقية، وليس شرطاً ان نتفق معه أو نختلف، المهم أنه يشغل حيزاً في المشهد الأدبي، لأن له اسلوبه المتميز وقضاياه المتعددة وحضوره المتواصل، ومن حقه وحق المشهد الأدبي أن نقول فيه ما نرى، وأن نرد إليه ما لا نرى، فالكاتب الذي لا يرفع قلمه عن ورقه، يحتاج إلى وقفات عازمة جازمة.
ومرحلة الانطلاق مثيرة ومحيرة لأنها ليست على وتيرة واحدة، وحصرها ضمن خصائص معينة اجحاف بحقها، انها تفيض بالعديد من الاتجاهات والمستويات والمبادرات والمحاكاة، وهي كما النقد المواكب، لفيف من الخلطاء الذين يبغون على بعضهم، في وقت ضاعت فيه الكفاءة في زحمة الأدعياء، وفقد التأصيل، وانعدمت المبادرات، واستفحل التنافخ، وتعمد بعض الإعلاميين التعتيم على المؤصلين المقتدرين الذين لا تأخدهم بالحق لومة لائم. ومما يؤخذ على تلك المرحلة فقد التجانس، فالذين اتخذوا طريقهم صوب السرد الحداثي بكل تقنياته اللغوية والفنية أوغلوا في الإغراب والانقطاع، ولما يكن أحد منهم على شيء من خصوصية المشهد المحلي، الأمر الذي حمل بعضهم على نشر أعماله خارج البلاد، وقد لا يكون الخروج في الفكر وفي السلوك وفي الموقف من الأشياء وحسب، وإنما يكون في الفن واللغة، وحينئذ ينقطع المبدع عن وسطه، وهذا الإيغال شايعه ايغال مماثل من النقاد الذين وصلوا حبالهم بحبال النقاد المغاربة، فكان الحديث استعراضاً لذات الناقد، وتجربيا فجا للآليات والمناهج، ومن هنا نجمت مناهج ومذاهب وآليات لم تكن معروفة من قبل، وكان من أنداها صوتا «النقد اللغوي» بكل تنوعاته وتحولاته ومصطلحاته ومترادفاته، والمبدعون الذين أشعرهم النقاد بأن النص لغة، تعلموا الأغراب اللغوي في المفردة والجملة والعبارة والاسلوب، وكدنا نعود إلى ظاهرة «المقامات» ولما لم يكن المستجيبون لهذا الاهتمام اللغوي على شيء من المعيارية النحوية والصرفية والثراء اللغوي فقد جاءوا بالعجائب، ولعلهم يعودون إلى سالف عهدهم، بعد أن خفت حدة «النقد البنيوي» وطرح مشروع «النقد الثقافي» وهو منهج عائم لا يهتم ببنية النص. ودون هؤلاء «المتحدثين» في القول من لم يكونوا حداثيين، ومما يؤخذ على هذه الطائفة تكاثرهم في مستويين لغويين: المستوى المتوسط أو ما يسمى باللغة الثالثة، والمستوى العامي، وبخاصة في الحوار. و«المتحدثون» لغويا لا يجدون بأساً من الركون إلى العامية،ومن ثم نجد أن مرحلة الانطلاق تقترف خطيئة العامية والاقليمية، ولأن العاميات ذات انتماء اقليمي فإن «ابراهيم الناصر» ركن إلى العامية الحجازية، فيما ركن «عبده خال» إلى العامية الجازانية، واتجه «عبدالعزيز المشري» صوب العامية في «السرات»، وجاءت عامية نجد وعاليتها وأعماق الشمال على أسلات قصاص وروائيين لا تحصي لهم عدداً، وإذا كانت اللغة تتعثر بالبساطة والوضوح والشيوع والعامية، فإنها تترهل وتطول، ولا تكون مثيرة بهذا الشيوع والعادية واللحن معا عند الأكثرين. وقلّ ان تجد لغة جزلة فصيحة نقية مقتصدة في الأعمال السردية، وقلّ أن تجد قاصاً أو روائياً عميق الثقافة شمولي المعرفة، تجد الموهوب والمتأدب، وحين تظفر بالعميق الشمولي لا نجد عنده الموهبة وإنما هو اقتدار ومواطأة نقدية. والنقاد الذين قلدوا المغاربة في النقد البنيوي، شدوا انتباه المبدعين المبتدئين إلى أهمية اللغة، وحملوهم على التعمل والإغراب، وما فعلوه أو ما فعله أكثرهم تطبع لا طبع.
وما يقال عن اللغة يقال عن الصورة الفنية، ومجيئها وصفية مفردة عادية هو الغالب، وقد تكون مركبة أو مجردة: حركية أو ثابتة، ولكنها نادرة عند مبدعي مرحلة الريادة والتأسيس. ومثلما نجد الاقتدار اللغوي والصورة التقليدية عند جيل الرواد والتأسيس نجده أيضاً عند جيل الانطلاق، وعند المخضرمين منهم، والاقتدار الموازي للموهبة، يختلف عن الاقتدار اللغوي، ولا شك انه يغري الأكثرين ويحفزهم على ممارسة الكتابة الروائية والقصصية والشعرية، ولا يكشف الفرق بين العمل الابداعي الناتج عن الموهبة والناتج عن صناعة فنية وقدرة كتابية وامكانيات ثقافية مع جرأة وغفلة أو مجاملة من النقاد، لا يكشف ذلك إلا النقاد الذين يمتلكون ذوائق سليمة وامكانيات نقدية، ثم لا يخشون من قول آرائهم، ولا يقطعون بصحة ما يقولون. وهذه الطائفة من النقاد موجودة ولكنها مترددة في الافصاح عما تعتقد مجاملة أو تقية، وأحسب أنه لا يعيب المقتدر أن يقال له: إنك لا تحمل موهبة، والله يقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له»، ومن ثم فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحمل موهبة الشعر، ولا يعيبه ذلك، ونحن أحوج ما نكون إلى دارسين يخوضون غمار تلك الأعمال، ويكشفون عن مخبوءاتها اللغوية والبلاغية والفنية والدلالية، ويفرقون بين صناعة الاقتدار وبراعة الابداع العفوي، ابداع المواقف أو ابداع التزيد. وتعويد المبدعين على التقريظ والثناء يخلق عندهم أخلاقيات تحول دون قبولهم بالمناصحة والتعليم، والشعراء والروائيون الذين شغلوا المشاهد لم يتفق النقاد على تألقهم، ولم يعبهم تردد الحاسدين والناصحين في قبول ابداعاتهم. والمشاهد الثقافية لا تتألق إلا باختلاف وجهات النظر والاشتغال بالقضايا دون الأشخاص.
وإذا كان الدارسون قد تناولوا أصحاب المجاميع القصصية فإن عدداً من المبدعين الذين لم تجمع أعمالهم يستحقون وقفات عازمة جازمة، تحفزهم على مزيد العطاء ومزيد المراجعة، نذكر من هؤلاء «جبر المليحان» و«حصة العمار» و«حصة التويجري» و«سلطانة العبدالله» و«صالح الأشقر» وقد علمت فيما بعد أن له مجموعة قصصية، لم أرها بعد، كما أن هناك مبدعين لهم مجموعات لا أعرف عنها شيئاً، ومن حقهم على المشهد النقدي أن يدخل بهم دوائر الضوء، ليأخذوا نصيبهم، ومن أولئك «عبدالله السحيمي» و«صالح السروجي» وغيرهم.
وعند مشارف النهاية من الحديث عن الرواية والقصة وبداية الحديث عن المسرحيات السردية، والسير الذاتية وأدب الرحلات نود الاشارة إلى أن ما نراه لا يكون بالضرورة مصادراً لرؤية الآخرين، والأمل أن يكون حافزاً للمداخلات الموضوعية التي يكون هدفها إحقاق الحق، والذين لم نوفق في انصافهم من حقهم ان يدفعوا قولنا، بالتي هي أحسن، والذين لم يحالفنا الحظ في الاطلاع على ابداعاتهم، ولم نشر إليهم، من حقهم أن يطرحوا أنفسهم، فالمشاهد الثقافية تقترف جريرة الاهمال، والملاحق الأدبية مصابة بداء الشللية، والمبدعون الواعدون يشكون من الاهمال، وعدم توفر المادة لدى الناقد والدارس تعرضه للتقصير غير المتعمد. وما قلناه لا يعني الحديث المستكمل لكل الابداع القصصي والروائي وإنما هو مبلغنا من العلم ليس غير.
* ملاحظة: سوف أرجئ الحديث عن السرد المسرحي، والرحلات والسيرة الذاتية إلى حين اكتمال الدراسة فمعذرة للمتابعين..
هوامش :
)1( 334 من كتاب في الأدب العربي السعودي.

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved