هَجَر هو الاسم القديم لواحة الأحساء، وهي شرقي الدهناء، وحَجر هي قاعدة إقليم اليمامة قديماً والتي قامت على انقاضها الرياض، وهي غربي الدهناء!! وما بين الموضعين درب من العشق!! فمنذُ فجر التاريخ والبطاحُ تسيلُ بأعناق المطايا الضامرات، ما بين هجرٍ وحجر، وهو ما عناه الشاعر العربي القديم بقوله:
يمرون بالدهناء خفافاً عيا بهم
ويرجعنَ من دارينَ بُحرَ الحقائب!!
ودارين هي الجزيرة الشهيرة وهي من أعمال هجر قديماً!! ولم يفُتْ شاعر اليمامة المُغرّد الشيخ عبدالله بن خميس أن يُمضي توقيعه على هذا الدرب في قصيدته الشهيرة «لو أباحت» عندما قال:
تشهدُ العيسُ حَسْراً من وَجَاها
شفها الوحدُ والسُرى والزميلُ!
ضاربات ما بين هجرٍ وحجرٍ
وبأعناقها البطاحُ تميلُ!!
ضامراتٍ كأنهنَّ العراجينُ
طواها بعد التموكِ النحولُ!!
وليست «الجماميل» إلا صفحة من صفحات ذلك الدرب الطويل، إذ سالت البطاح وتواصلت أعناق المطي في منظومة تجارية رسمت أثراً لا يزالُ وشماً في جبين الدهناء، فبعد أن تم ضم الاحساء إلى دولة الملك عبدالعزيز، وعلى مدى أربعة عقود انتظمت عشرات القوافل التي يدفعُ بعضُها بعضاً على طول هذا الطريق تجلب الأطعمة والمؤن من الأحساء إلى قصر ابن سعود في الرياض، وكان لأهالي الزلفي النصيب الأكبر في تشكيل هذه القوافل، وقد أشار إلى ذلك المؤرخ مقبل الذكير.
والاحساء التي كانت في يومٍ من الأيام مصدراً يُغذي أنحاء البلاد، لا تزالُ إلى اليوم تمنح محبيها وزائريها نفحةً من الجود والكرم المتأصل في نفوس أبنائها، منذُ أن تعالت في سمائها هذه النخيل الباسقات الطوالع، ومنذُ أن جرت على أراضيها عيونٌ وجداول، وهو لاشك زمانٌ موغلٌ في القدم. إن هذه الواحة الجميلة لم يقتصر دورها مع ما أناخ بها من ركائب على ذلك التبادل التجاري رغم أهميته، بل تجاوزت ذلك إلى ما هو أهم، وهو تغذية تلك الركائب فكرياً، فعلى امتداد قرون انتظمت فيها حلقات فكرية وبرزت فيها أُسر علمية تملكت في دُورِها مكتبات عريقة أثرت المنطقة بما حوته من كتب نادرة ووثائق ومخطوطات، ومن تلك البيوت الأحسائية التي اشتهرت علمياً أو اقتصادياً تذكر: آل عبدالقادر وآل مبارك وآل الملا والشعيبي والملحم والمغلوث والقصيبي وغيرهم ممن لا استطيع حصرهم في هذه المقالة، لذلك لا غرو أن برز فيها علماء وصدحَ فيها شعراء ملأوا الأصقاع بشعرهم العربي الأصيل.
تحتل هذه الواحة الجميلة مكانة في نفوس أبناء هذا الوطن، ولقد سعدتُ ذات مرة باقامة فيها، صحبة الأستاذ محمد القشعمي، الذي ذهب إلى هناك ليقلب صفحات التاريخ المحلي مُستنطقاً الذاكرة الأحسائية المحلية من خلال المقابلات مع العلماء والأعيان من أبنائها في محاولة تسجيل التاريخ الشفوي للبلاد السعودية، وكنتُ هناك أجري حواراً مع الشاعر الأستاذ عبدالرحمن بن محمد المنصور، المولود في الزلفي عام 1340ه والحاصل على شهادة الماجستير في الفلسفة وعلم النفس من القاهرة عام 1372ه!! والذي استوطن الاحساء منذُ عقود، وهو أحد شعراء الوجدان في هذه البلاد بما غرَّد به من قصائد فاضت رقةً وعذوبة، فهو شاعر مرهف الإحساس، رقيق المشاعر، ذو نبرة حزينة وفي شعره تأثر كبير وواضح بشعراء العراق كنازك الملائكة والسيّاب، وقد نُشر الحوار في وقته، وكانت إقامتنا في ضيافة الفنان التشكيلي القدير أحمد المغلوث، الذي سعدنا بالتجوال داخل صالة عرضه، التي اشادها على دعائم من الفن والجمال، متنقلين بين لوحات فنية أبدعتها أنامله، وقد شدّنا ما انفرد به دون غيره من الفنانين التشكيليين وهو الرسم على الخوص!! حيثُ خاض هذه التجربة وأثبت نجاحاً فيها وقدّمها إلى الآخرين، إضافة إلى إبداعه المعتاد في المزج بين مدارس الفن التشكيلي الواقعية والتجريدية والسريالية وإجادته في توظيف الألوان الزيتية والمائية في رسم لوحات استوحى معظمها من بيئته المحلية، كما سعدنا بلقاء العميد متقاعد عبدالله المغلوث مدير شرطة القصيم سابقاً، الذي تحدث عن تجربته الطويلة في الأمن وعن كثير من الأمور الفكرية، وكان لقاؤنا برجل الأعمال الشيخ علي بن حسين الخرس مختلفاً، إذ تشعب الحديث إلى أمورٍ عدة وطال الحديث في مناقشة قضايا الفكر الإسلامي، والتي من أهمها التقريب بين المذاهب الإسلامية، وكان للحدث التاريخي المهم الذي قام به المليك المؤسس، طيّب الله ثراه، في لم شعث هذه البلاد وتوحيدها تحت راية واحدة نصيب من حوارنا، الذي وصل في نهايته إلى المرأة السعودية، التي أبدى الشيخ علي الخرس إعجابه بالمستوى الذي وصلت إليه من حيث التعليم والتأهيل والممارسة مع حرصٍ والتزام في تمسكها بأهداب دينها الحنيف وعاداتها وتقاليد مجتمعها المحافظ، وكان للقاءات المسائية التي نظمها الأستاذ أحمد المغلوث في بستانه أن جمعتنا بالعديد من شباب الأحساء المثقفين الذين منهم الكاتب المسرحي عبدالرحمن الحمد والفنان محروس الهاجري والموسيقار سعد الخميّس والإعلامي حسن الحرابة وغيرهم ممن سعدنا بلقائهم فأحيوا أمسيّة من أماسي واحة الأحساء الجميلة.