أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 9th June,2001 العدد:10481الطبعةالاولـي السبت 17 ,ربيع الاول 1422

مقـالات

في بعض القصص عبرة
د. حمد بن محمد الفريان
يقول الطالب الياباني «أساهير» كانت حكومتي قد أرسلتني إلى ألمانيا لأدرس أصول الميكانيكا العلمية، كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركاً صغيراً، كنت أعرف ان لكل صناعة وحدة أساسية، «موديل» هو أساس الصناعة كلها، فإذا عرفت كيف تُصنع وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها، وبدلاً من ان يأخذني الأساتذة إلى معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتبا لأقرأها وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها ولكنني ظللت أمام المحرك أيا كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يحل، وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع، كان ذلك أول الشهر، وكان معي راتبي، وجدت في المعرض محركاً قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله، فأخرجت الراتب ودفعته، وحملت المحرك وكان ثقيلاً جدا، وذهبت إلى حجرتي ووضعته على المنضدة، وجعلت انظر إليه كأنني انظر إلى تاج من الجوهر وقلت لنفسي: هذا هو سر قوة أوروبا لو استطعت ان اصنع محركا كهذا لغيرت تاريخ اليابان، وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك من قطع ذات أشكال وطبائع شتى، مغناطيس كحدوة الحصان وأسلاك، وأذرع دافعة، وعجلات وتروس وما إلى ذلك، لو انني استطعت ان افكك قطع هذا المحرك، واعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركّبوها بها ثم شغلته فاشتغل اكون قد خطوت خطوة نحو سر الصناعة الأوروبية وبحثت في رفوف الكتب التي عندي حتى عثرت على الرسوم الخاصة بالمحركات وأخذت ورقا كثيرا وأتيت بصندوق أدوات العمل، ومضيت أعمل رسمت المحرك بعد ان رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه ثم جعلت أفككه، قطعة قطعة، وكلما فككت قطعة رسمتها على الورق بغاية الدقة وأعطيتها رقما وشيئاً فشيئاً فككته كله ثم اعدت تركيبه وشغلته فاشتغل كاد قلبي يقف من الفرح استغرقت العملية ثلاثة أيام كنت آكل في اليوم وجبة واحدة ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل وحملت النبأ إلى رئيس بعثتنا فقال: «حسنا ما فعلت، الآن لابد ان اختبرك سآتيك بمحرك متعطل وعليك ان تفككه وتكشف موضع الخطأ وتصححه، وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل» وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة، صنعت غيرها بيدي، صنعتها بالمطرقة والمبرد، بعد ذلك قال لي رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحياً... قال: «عليك الآن ان تصنع القطع بنفسك ثم تركبها محركاً، ولكي استطيع ان افعل ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس، والألمنيوم، بدلا من ان اعد رسالة الدكتوراه كما اراد مني اساتذتي الألمان، تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء واقف صاغرا إلى جانب عامل صهر المعادن، كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم، حتى كنت اخدمه وقت الأكل، مع انني من أسرة ساموراي ولكنني كنت أخدم اليابان، وفي سبيل اليابان يهون كل شيء قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة.. وعَلمَ «الميكادو» «الحاكم الياباني» بأمري فأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه انجليزي ذهب، اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة وأدوات وآلات، وعندما اردت شحنها إلى اليابان كانت النقود قد فرغت فوضعت راتبي وكلما ادخرته، وعندما وصلت إلى «نجازاكي» قيل لي ان «الميكادو» يريد ان يراني، قلت لن استحق مقابلته إلا بعد ان انشئ مصنع محركات كاملاً، وقد استغرق ذلك تسع سنوات وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات «صنع في اليابان» قطعة قطعة حملناها إلى القصر ودخل «الميكادو» وانحنينا نحييه وابتسم وقال هذه اعذب موسيقى سمعتها في حياتي، صوت محركات يابانية خالصة. هكذا ملكنا «الموديل» وهو سر قوة الغرب، نقلناه إلى اليابان، نقلنا قوة أوروبا إلى اليابان ونقلنا اليابان إلى الغرب» انتهى.
وإذا كان لأمة اليابان اسلوبها وطريقتها في جلب التقنية إلى بلادها وإذا افترضنا ان لكل دولة من دول العالم طريقتها الخاصة في هذا الصدد فإن المعيار للنجاح في الوصول إلى هذا الهدف هو ما تبلغه الدولة أيا كانت على بساط الواقع ومما لاشك فيه ان بين الدول العربية وبين اليابان بوناً شاسعاً في واقع الحال وما كان هذا الفارق بهذا الحجم والبعد قبل عقود من الزمن حينما بعثت اليابان إلى مصر عددا من المتدربين في عهود محمد علي باشا حينما نهضت مصر صناعيا في ذلك الحين وفي هذا الوقت بالذات الذي سبقت فيه اليابان دولا صناعية عريقة في الصناعة وأصبحت مضرب المثل، نجد الدول العربية في درجة غير مرضية وغير مقبولة إذا قورنت بغيرها من الدول التي استطاعت ان تتقدم خلال وقت قريب مثل من يطلق عليهم نمور آسيا.. إذاً هناك خلل لم تصلحه الشهادات العالية ولا النفقات الباهظة ولا اللجان المشتركة ولا البعثات المتتالية.
*عضو مجلس الشورى سابقاً

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved