لقد كانت التغيرات الطبيعية التي تحدث بشكل منتظم للإنسان القديم هي أعظم وأهم التغيرات التي تبدو واضحة ومحسوسة بالنسبة له وهي التغيرات والتبدلات التي تحدث في حركة الأشياء في السماء. إن تبادل النهار والليل - النور والظلام - والناتج عن ظهور الشمس وغروبها أهم التغيرات الطبيعية التي يدركها الإنسان وهذه الظاهرة ناتجة عن دوران الأرض حول الشمس وأصبح تبادل النور مع الظلام بالنسبة للإنسان يوماً.
وهناك أيضاً تغير وتبدل منتظم بالنسبة للإنسان يحدث في السماء وهو مايتم في شكل القمر وكما هو معلوم فإن كل دورة تحدث في شكل القمر تتم في حوالي 5. 29 يوماً وهذه الظاهرة أصبحت تسمى بالشهر إضافة لذلك فهناك تغير آخر يحدث في السماء بصورة منتظمة منح الإنسان وحدة وقتية أطول لقياس مانسميه بالزمن وهو مايتم من تغير في الفصول وبمراقبة الإنسان للنجوم قبيل الفجر مباشرة أو بعد غروب تمكن من معرفة أن الشمس قد تحركت ببطء باتجاه الشرق من بين هذه النجوم وتقوم الشمس بدورة كاملة واحدة حول السماء في الفصول وهذه الدورة تتم في حوالي 25. 365 يوماً وهو ما أطلق عليه الإنسان: السنة. وفي وقتنا الحاضر فإن التقاويم التي نستعملها عملت أساساً وبصورة تامة على السنة، حتى وإن كانت السنة مقسمة إلى اثنتي عشرة فترة والتي نسميها بالشهور فهي ليست لها علاقة بدورة القمر الحقيقية. ولايوجد تغير أو تبدل منتظم يحدث في السماء لعدة أيام مثل مايفعل الأسبوع ويعتقد ان تقسيم اليوم إلى أربع وعشرين ساعة والساعة إلى ستين دقيقة ، والدقيقة إلى ستين ثانية، حيث قسم الفلكيون والمنجمون البابليون طريق الشمس التخيلي إلى اثني عشر جزءاً متساوية ومن ثم قسموا فترة النور - ظهور شمس النهار - وفترة الظلام - وهو الليل - إلى اثني عشر جزءاً لكل من هاتين الفترتين، والحصيلة هي أربع وعشرون ساعة وهي اليوم..
قال أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها المغيث بن علي العجلي:
إذا عد الكرام فتلك عجل
كما الأنواء حين تعد عام
يقول العكبري في شرح هذا البيت: الأنواء: جمع نوء، وهو سقوط نجم من منازل في المغرب مع الفجر، وطلوع رقيبه من المشرق يقابله، ويسمى النجم نوءاً، وفي الأنواء خلاف، فمن العرب من يجعل لكل كوكب من الثمانية والعشرين، أعني - العكبري - منازل القمر نوءاً مخالفاً لنوء صاحبه في العدة، فيجعل نوء كوكب ثلاثة أيام ونوء آخر خمسة أيام، ونوء آخر سبعة أيام على قدر تجاريها، وإتيان سقوطه، أو طلوع رقيبه حراً وبرداً ومطراً وريحاً، أو غير ذلك، ومنهم من يجعل لكل كوكب طلع منها ثلاثة عشر يوماً بعد طلوعه معدودة في نوئه، وكلما حدث فيها من الغير التي ذكرناها عدوه من إحداثه، وثلاثة عشر يوما في ثمانية وعشرين منزلة. ثلاث مئة وأربعة وستون يوما، وهي أيام السنة، ينقص يوم شذ عن قسمته. وأي المذهبين سلك أبوالطيب، فالمعنى الذي أراده حاصله هذه الأنواء، إذا حصلت كلها كانت عاماً، وفي العام يكمل فكذلك الكرام إذا عدوا كانوا عجلاً، وهي هذه القبيلة، أي كلهم كرام، وليس كريم إلا عجلياً، فهم كمنازل القمر إذا حصلت كلها كانت عاماً، والكرام إذا حصلوا كانوا عجلاً فهذا من أحسن معانيه. والمعنى: يقول: إذا عد الكرام فجعل يجمعها، كما أن الأنواء يجمعها السنة، من سقوط أولها إلى آخرها والمعنى: من أراد أن يعد الكرام في الدنيا، فليقل هم بنو عجل، فإنهم يشملون جميع الكرام، كما أن الأنواء بطلوعها وسقوطها تشمل جميع العام. وأما منازل القمر فهن ثمانية وعشرون منزلة: منها أربع عشرة شامية، وأربع عشرة يمانية فالشامية الشرطين، والبطين، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك. وأما اليمانية فالغفر، والزبانا، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة وسعد بلع، وسعد الذابح وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدم، وفرغ الدلو المؤخر، والرشاء. ولكل نجم منها ثلاثة عشر يوماً من السنة إلا الجبهة، فإن لها أربعة عشر يوماً.
لاندري بماذا يمكن أن نقوله عن بيت شاعرنا هذا؟ هل نقول أن شاعرنا كان يعرف عدد السنين والحساب؟ أم نقول إنه أشار إلى استخدام الإنسان إلى ظاهرة، أو ظواهر كونية - فلكية - ثابتة متكررة في تحديد فترة زمنية عديدة محددة، وتراكم هذه المدة الحسابية أعطتنا القرن والعصر والدهر والزمان باستمرارها اللانهائي على الأقل بالنسبة لنا؟ ومع هذا فإن ما نستطيع قوله هو أن شاعرنا الفذ جمع لنا في بيت واحد من الشعر معلومة ربما ظلت البشرية حائرة فيها دهوراً وقروناً وأعواماً قبل أن تصل إلى هذه النتيجة الحسابية.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها الحسن بن طغج:
1- ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روى رمحه غير راحم
2- فليس بمرحوم إذا ظفروا به
ولا في الردى الجاري عليهم بآثم
يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى: إذا عرف أحد الأيام معرفتي بها وبأهلها، قتلهم غير راحم لهم. ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: يقول: هم إذا ظفروا به، أي من عرفهم لم يرحموه، وهو غير آثم فيما يفعل بهم.
وقال المتنبي في قصيدة يعزي بها سيف الدولة بوفاة أخته الصغرى :
3- قد بلوت الخطوب مراً وحلواً
وسلكت الأيام حزنا وسهلاً
4- وقتلت الزمان علماً فما يغـ
ـرب قولاً ولايجدد فعلاً
يقول العكبري عن البيت الثالث: الحزن: ضد السهل، وهو ماخشن من الأرض، وارتفع. والخطوب: طوارق الأيام. وفي البيت طباقان: المر والحلو، والحزن والسهل. والمعنى: يقول: قد خبرت طوارق الدهر بمعرفتك وعرفت حلوها ومرها بتجربتك، وسرت في الأيام مالكاً صعبها، تسلك منها ماصعب وسهل، وتعاني مابعد وقرب، ناهضاً بنفسك، مكتفياً بعلمك. ويقول العكبري عن البيت الرابع: قتل الشيء علماً: بلغ غاية معرفته. والمعنى: يريد: أنت عرفت الزمان وأحواله وصروفه معرفة تامة، فلا يأتي بشيء لم تعرفه، ولايفعل جديداً لم تره، فقد قتلته علماً بأمره، وإحاطة بوجوه تصرفه، فما يسمعك قولاً تستغربه، ولايجدد لك فعلاً تهيبه، ولايطرفك إلا بما قد عرفته، وأحطت بأمثاله وجربته وأجرى هذا كله على سبيل الاستعارة ومن بديع الكلام.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
5- نحن من ضايق الزمان له فيـ
ـك وخانته قربك الأيام
6- كل يوم لك احتمال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
يقول العكبري عن البيت الخامس: المعنى: يقول: نحن الذين ضايقهم الزمان فيك فيبخل عليهم بك، فيحرمهم لقاءك، ويباعد بينهم وبينك، وتخونهم الأيام في القرب منك، يشير إلى أن الزمان يعشقه، ويغار على قربه، فهو يريد أن ينفرد به دون الناس. ويقول العكبري عن البيت السادس: المعنى: يقول: كل يوم لك يحدث سفراً، وهو دليل على علو همتك وفي كل يوم لك رحيل يقيم فيه المجد عندك، لأنه يطلب المجد، ولأن المجد معك حيثما كنت.
لقد ربط أبو الطيب في بيتيه الأول والثاني من أبياته الستة السابقة بين الأيام والناس.
ومن هنا تبين أن الشاعر كان ينسب مايحدث للإنسان من مصائب ومحن هي من صنع الإنسان ذاته بغض النظر عن مايحدث للإنسان من كوارث كونية، ولذا نجد أن شاعرنا يقول : من عرف الأيام والناس مثل معرفتي بها قتل الناس غير راحم لهم، لأنه - وكما يقول في بيته الثاني - إذا لم يرو رمحه بدماء أهل أيامه، فتكوا هم به ولم يرحموه إذا ظفروا به.
يقول العقاد )1970م( في تعليق له على هذين البيتين: سوء الظن بالناس شعور يخامر جميع المجربين المحنكين الذين عرفوا الزمان وخبروا تقلبات القلوب ونفذوا إلى خبايا السرائر، ولكن المتنبي وحده هو الذي يقول حين يسيئ الظن بالناس: «ومن عرف الأيام».. وهو كلام طبيعة لازيف فيها، بل هو كلام تجريب لاشك فيه، ولكنه تجريب المتنبي خاصة دون سائر المطبوعين وسائر المجربين، لأنه الرجل المغامر الطواف الذي عاش في زمان الدول الدائلة، والمطامع الغادرة، ولقي الناس في ميدان الشح والتربص والمخاتلة، وتعود أن «يتفلسف» في تسويغ أخلاقه بفلسفة «الطبع» لا بفلسفة الأخلاق، ولا بفلسفة العرف، ولابفلسفة الدين )كان العقاد يقارن بين شعر الصنعة، وشعر الشخصية( ويقول أبو الطيب في بيتيه الثالث والرابع موجهاً كلامه لسيف الدولة: لقد عرفت ياسيف الدولة وجربت حوادث الزمان، حلوها ومرها، صعبها وسهلها، وعلمت أن هذه الأشياء هي أحوال الزمان، وليست بجديدة أو غريبة عليك. ومن هذا يمكننا القول: إن الشاعر حدد لنا أيام سيف الدولة ، وهي مدة حياته فالزمان هنا هو مجموع سنوات عمر سيف الدولة والتي من خلالها وخلال أيامها عرف الزمان وأحواله وصروفه وتبدلاته. ويقول المتنبي في بيتيه الخامس والسادس موجهاً كلامه لممدوحه: لقد ضايقنا وأزعجنا الزمان بسبب أنه أبعدك عنا وحرمنا من رؤيتك ولقائك لأنه - أي الزمان - يغار عليك ويحبك ، وأنت كل يوم لك حالة جديدة من السفر والترحال في طلب المجد. نلاحظ هنا أن شاعرنا ربط بين الإنسان وأفعاله وحركاته وتنقلاته وأيامه - زمانه - فالزمان لايفعل شيئاً من هذه الأشياء للإنسان، وإنما الذي يفعلها الإنسان ذاته بما يمليه عليه عقله ونوازعه النفسية.
وقال ابو الطيب في قصيدة وقد عذله معاذ في إقدامه في الحرب:
1- ولو برز الزمان إلي شخصاً
لخضب شعر مفرقه حسامي
2- وما بلغت مشيتها الليالي
ولاسارت وفي يدها زمامي
3- إذا امتلأت عيون الخيل مني
فويل في التيقظ والمنام
يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى : يقول: الزمان هو محل النكبات والنوائب، ولو كان شخصاً ثم برز إلي للحرب، لخضبت شعر رأسه. ويقول العكبري عن البيت الثاني: المعنى: يقول: لم يبلغ الزمان مراده مني من تغيير حالي، وتوهين أمري، وما انقدت له انقياد من أعطى زمامه. ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يقول: هم يخافونني، فإذا رأوني في النوم ذهبت لذة نومهم فلاينامون. وإذا ذكروني ذهبت أمنة يقظتهم.
لقد ربط الشاعر في أبياته الثلاثة السابقة بين الإنسان والزمان فلو كان زمان الشاعر شخصاً أي شيئاً محسوساً - لقتله شاعرنا وخضب شعر رأسه بدمه، ولكنه -الزمان- غير ذلك ، فهو بالنسبة لشاعرنا إحساس نفسي قسري، مع أن زمانه هذا عبارة عن ليالي تمر وتعود، ووقت يقظة ونوم ، وهذه الأزمان يمكن أن تنكمش أو تتمدد إلى مالانهاية اعتماداً على حالة الإنسان النفسية.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها سيف الدولة وقد أهدى له ثياب ديباج ورمحاً وفرساً ومهراً:
1- ثياب كريم مايصـون حسـانها
إذا نشرت كان الهبات صوانها
2- تريـنا صـناع الروم فينا ملوكهـا
وتجلو علينا نقشها وقيــانهـا
3- ولم يكفها تصويـرها الخيل وحدها
فصورت الأشـياء إلا زمانهــا
يقول العكبري في شرح البيت الأول: الصوان: التخت، وهو مايحفظ الثياب. والمعنى: يقول: أتتني ثياب من كريم لايصون الثياب الحسنة، ولكن يهبها فليس لها صوان إلا الهبات، فلايتركها في التخت، بل يهبها. ويقول العكبري عن البيت الثاني: الصناع: الحاذقة التي قد صورت الصور، وهي حاذقة بالعمل. والمعنى: يقول: هذه المرأة الحاذقة التي قد صورت الصورة بالصنعة، أرتنا من صنعتها في هذه الثياب ملوك الروم، وقيانها وجميع ماقد صورت فيها من الملوك وغيرها، فهي مرقومة فيها. ويقول العكبري عن البيت الثالث: المعنى: يقول: لم يكفها تصوير الخيل وحدها، بل صورت الأجسام، وما أمكنها تصويره ، ولم تقدر على تصوير الزمان، لأنه لاجثة له فتحكى، فلم تترك شيئاً لم تصوره إلا الزمان.
لقد بين أبوالطيب في أبياته هذه قدرة الإنسان - ومنذ القدم - محاكاة الأشياء المنظورة والملموسة وتقليدها ، ولكنه يعجز عن محاكاة أو تقليد ماهوخارج عن حواسه وقدرته وفهمه، وهو هنا الزمان، ومع هذا يمكننا أن نتصور زمان الأمم السابقة بما لدينا من تراثهم وبقاياهم. فالصور التي كانت على ثياب الروم التي وهبها سيف الدولة للشاعر قد توحي لمشاهدها عن زمان تلك الصور، وكيف كانت أيام أهلها.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها كافوراً:
1- ويوم كليل العاشقين كمنته
أراقب فيه الشمس أيان تغرب
2- وعيني إلى أذني أغر كأنه
من الليل باقٍ بين عينيه كوكب
يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى: يقول: رب يوم طال علي كما يطول ليل العاشقين، اختفيت فيه خوفاً على نفسي، أراقب حين تغرب الشمس حتى أسير إليكم «كمنته» اختفيت وقعدت بالكمين. وأيان: بمعنى متى ويقول العكبري عن البيت الآخر: المعنى: أنه كان ينظر إلى أذني فرسه: وذلك أن الفرس أبصر شيئاً فإذا حس بشخص من بعيد نصب أذنيه، فيعلم الفارس أنه أبصر شيئاً؛ ثم وصف فرسه فقال: كأنه قطعة ليل في وجهه كوكب.
لقد عبر أبو الطيب في بيتيه هذين عن الإحساس النفسي للزمن فالإنسان عندما يكون في حالة خوف ورعب من المجهول، أو في حالة انتظار واشتياق فإن عقارب الزمن تتوقف عن الدوران أو أنها تتحرك حركة بطيئة ممللة مؤلمة، فشاعرنا كان يراقب غروب شمس يومه وهو في حالة نفسية قلقة، ولو أن حالة شاعرنا النفسية غير حالته التي كان عليها عندما قال ذلك لغربت شمس يومه بلمح البصر، أو على الأقل لغربت من منطلق حساب الزمن العددي. ويستمر أبو الطيب موضحاً لنا قلقه وخوفه حيث إنه كان ينظر إلى أذني جواده لأنها ربما توحي إليه بشيء ما قادم صوبه فيأخذ حذره.
يقول الأيوبي )1401هـ -1980م(: يختلف الشعور بالزمن بين شاعر وآخر، فتارة يحس الشاعر بأنه يمر ببطء، وطوراً بسرعة، وأحياناً يقف الزمن عند نقطة معينة لايغادرها، فيحس الشاعر كأنما ساعات الأرض كلها توقفت. ومن هنا تأتي الصفة النسبية التي يتصف بها الزمن والتي تجعله غير محدد وتنفي إمكانية قياسه وقد قال الأديب الفرنسي مارسيل برست: الزمن الذي يتعلق بنا ونستعمله كل يوم مطاط الانفعالات التي نشعر بها، تمدده وتبسطه والتي نوحي بها تقلصه والعادة تملؤه.