| مقـالات
لقد أقام بن علي سياسته الخارجية على أسس ثابته تأخذ بعين الاعتبار الانتماء الاقليمي والحضاري لتونس مع إيلاء المصلحة العليا للدولة التونسية والشعب التونسي مكانة محورية.
لكن من أكثر ما ميز السياسة الخارجية التونسية هو مراهنة بن علي على البعد المغاربي باعتبار ذلك يشكل الضمانة الاستراتيجية لكل علاقة اقتصادية أو سياسية يمكن ان تربطها تونس مع تجمعات أخرى. كما هو الحال مع الاتحاد الأوروبي وغيره.
وقد أراد بن علي أن يتم إنشاء اتحاد مغاربي يعمل على صون المصالح المغاربية الجماعية ويؤسس لوحدة مغاربية تنهي كل أنواع سياسة المحاور، التي طبعت الساحة المغاربية طيلة الفترة السابقة لإنشاء الاتحاد. ويرى بن علي أن كل علاقة خارجية لتونس مع أي بلد لا يمكن ان تكون مثمرة، إلا إذا استندت الى مراعاة المصالح العليا للبلدين، مع وجود الالتزام المتبادل والانطلاق من نية صادقة للوفاق.
كما أن بن علي قد ظل يراهن على التنسيق الثنائي والتشاور الدائم في ظل سياسة ديبلوماسية هادئة وبعيدا عن ضوضاء الإعلام وبهرجة المزايدات، ويرى أن ذلك هو الوسيلة الأنجع لحل كل خلاف ينشأ بين الفرقاء، وقد ضمنت هذه الفلسفة لتونس احترام كل شركائها السياسيين والاقتصاديين مما بوأ الديبلوماسية التونسية مكانة متميزة اقليميا وقاريا ودوليا.
ولعل إعادة الاعتبار للبعد الحضاري والثقافي لتونس وشعبها، كان له الأثر الأكبر في وجود علاقات حميمة بين تونس وإخوانها العرب وقد وضع ذلك حدا لتفرة طويلة من المشاحنات الديبلوماسية بين تونس وبعض أخواتها العربيات وذلك طيلة عهد الزعيم الحبيب بورقيبة وهي المسائل التي تعود في أغلب الأحيان الى الرؤية السياسية للزعيم بورقيبة تلك الرؤية التي تراهن على علاقات تونس الغربية والأوروبية على نحو يبلغ حد التبعية للسياسة الخارجية الفرنسية أحيانا. ولذا كان من البارز في السياسة الخارجية التونسية الجديدة في عهد الرئيس بن علي هو إصراره على استقلالية السياسة الخارجية التونسية وانطلاقها من انتماءاتها ومصالحها الاقليمية أولا فقد بادر الرئيس التونسي كما قلنا، إلى إعادة الاعتبار للبعد الحضاري العربي الإسلامي لتونس مما قوى علاقاتها مع كل الأقطار العربية وأعطاها مكانتها اللائقة في إطار العمل العربي الجماعي، ولذا نرى تونس اليوم تحتضن عدة منظمات وهيئات عربية كلها تعمل من أجل تقوية العمل العربي المشترك وفي كافة الميادين السياسية والثقافية والإعلامية. فتونس تحتضن الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واتحاد إذاعات الدول العربية، والهيئة العربية للطاقة الذرية، والمركز العربي لبحوث المرأة والتدريب.
كما أن ضرورة ترسيخ انتماء تونس الى بعدها الاقليمي المغاربي كان من أولويات سياسة الرئيس بن علي الخارجية، ولذا فلا غرو إذا شاهدنا حجم الاهتمام الكبير الذي أعطته الديبلوماسية التونسية لمسألة تقوية العلاقات التونسية المغاربية والتونسية العربية والتونسية الأفريقية. ومن هنا كان الدور التونسي في إنشاء الاتحاد المغاربي ومده بالديناميكية اللازمة لاستمراره من أكثر الأدوار حيوية وتواصلا. ونظرا إلى أننا سوف نتناول مسألة الاتحاد المغاربي في السياسة الخارجية التونسية في مقال مستقبلي فإننا سوف نخصص هذا المقام للحديث عن العلاقات التونسية العربية والأفريقية عموما وبخاصة من خلال الدور البارز الذي لعبته تونس في المنظومتين العربية والأفريقية.
ففي الصعيد الأفريقي، فإن الرئيس بن علي قد أعطى أهمية فائقة للعلاقات التونسية الأفريقية عكس ما كان معهودا قبله من إهمال تونس للعلاقات التونسية الأفريقية، وهكذا أمر بن علي بتنشيط العلاقات التونسية مع كل دولة أفريقية على حدة إضافة الى تشجيع التعاون الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين تونس والدول الافريقية. وقد وطد بن علي من قوةعلاقات تونس الثنائية مع الدول الأفريقية عندما واكبها مع وجود سياسي تونسي فاعل على الصعيد القاري من خلال تنشيط الدور التونسي في إطار منظمة الوحدة الأفريقية ولذا كانت القمة الأفريقية التي انعقدت في تونس سنة 1998م وقوة القرارات التي تمخضت عنها هذه القمة، خصوصاً فيما يتعلق بالقضاء على النزاعات الاقليمية في القارة وما تبع ذلك من متابعة لا تكل لتنفيذ هذه القرارات من طرف الرئيس بن علي هو أبرز دليل على أهمية البعد الأفريقي في السياسة التونسية وقد كان دور المنظمة الأفريقية في عهد سياسة بن علي لها من أبرز الأدوار التي مرت بها طيلة مسيرتها.
أما الدور التونسي في تقوية عمل الجامعة العربية فلا نحتاج الى التذكير به ولعل أهم ما قامت به الديبلوماسية التونسية في هذا الجانب هو إصرار الرئيس بن علي على تنقية الأجواء العربية والعمل على جعل العلاقات العربية العربية أساسا يبنى عليه في كل توجه خارجي لسياسة كل دولة عربية على حدة.
وظل بن علي يرى أن ذلك لن يتم إلا بتمكين الجامعة العربية من أن تلعب دورها الذي أنشئت من أجله، ألا وهو جمع شمل العرب وتوحيدهم في منظومة سياسية واقتصادية تضمن لهم حقوقهم المادية والمعنوية وتعطيهم مكانتهم الدولية التي يستحقونها.
ولذا كان الدور التونسي بارزا في انعقاد القمة العربية الطارئة في القاهرة في نهاية السنة الماضية وما تمخضت عنه من قرارات سياسية إيجابية ستؤثر بلا ريب في مستقبل العمل العربي المشترك، والتي نرى أن من أهمها الموافقة على انعقاد قمة عربية دورية سنويا كما هو الحال في كل التجمعات الاقليمية والقارية والدولية في العالم.
إلا أن أكثر شيء قامت به الديبلوماسية التونسية في القمة العربية الأخيرة هو تقديمها لورقة تتضمن آلية عربية للوقاية من النزاعات، وقد كان لتونس ما أرادت حين صادقت الجامعة العربية على هذه الآلية.
وللإشارة فإن بن علي قد تقدم بمقترح الآلية في شهر يناير من سنة 1995 وظل يتابعه من أجل المصادقة عليه من طرف إخوانه العرب وذلك بنفس لا يكل وحتى كان له ذلك في قمة القاهرة الطارئة. والواقع أن مقترح آلية الوقاية من النزاعات العربية إنما يجسد الإرادة القوية لدى الرئيس التونسي في البحث عن وسائل عملية لتعزيز العمل العربي المشترك، والارتقاء بمفهوم العمل الجماعي العربي الى مستوى من التنظيم والترشيد مما يجعل الجامعة العربية قوة عربية ضاربة وقادرة على إعطاء الكلمة العربية نفوذها والصوت العربي حضوره في زمن التحولات الاقليمية والدولية المباغتة.
وقد وصف الدكتور عصمت عبدالمجيد الأمين العام للجامعة العربية الموافقة العربية على المقترح التونسي بإنشاء آلية عربية للوقاية من النزاعات وإدارتها وتسويتها بأنها «خطوة مهمة على طريق استكمال أجهزة العمل بالجامعة» معتبرا أن موافقة الدول العربية على هذه الآلية يؤكد استعداد الجامعة لبحث أي نزاع قد ينشأ بين أي دولتين عربيتين. والحال أن ما قامت به الديبلوماسية التونسية لخدمة العلاقات العربية قد قامت بمثله في خدمة العلاقات العربية الأفريقية وعلاقات الجنوب وعلاقات الشمال والجنوب ومجموعة عدم الانحياز والسبع والسبعين، وفي صلب منظمة الأمم المتحدة، الى غير ذلك من المنظمات الاقليمية والدولية.
وكل تحرك ديبلوماسي تونسي في إطار هذه المنظمات إنما ينطلق من فلسفة تجعل مصلحة الدول الأعضاء فيها وما يمكن أن يعود على الشعوب من فائدة هي الأسباب المحركة والأساسية لكل عمل يمكن ان يقام به في إطار هذه المنظمات.
ولعل مصادقة منظمة الأمم المتحدة في إطار الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة على المقترح التونسي بإقامة صندوق عالمي للتضامن إنما يأتي تتويجا للجهود الجبارة التي بذلتها الديبلوماسية التونسية في نقل تجربة محلية تونسية الى صعيد عالمي، فالنجاح الكبير الذي حققه الصندوق الوطني للتضامن 26/26 في القضاء على مظاهر الفقر والتهميش في المجتمع التونسي، قد شجع تونس في أن تسعى الى نقل هذه التجربة الى تقليد يمكن ان يطبع العلاقات بين الشعوب والدول في العالم قاطبة، وكما أن صندوق التضامن 26/26 قد مكن تونس من القضاء على مناطق الظل فيها، فإن صندوقا من هذا القبيل يمكن ان يقضي على دول «الظل في العالم الثالث» أو الدول الفقيرة وذلك من خلال جمع عناصر الدعم من الدول الغنية ضمن صندوق عالمي للتضامن، يعمل على التقليل من مظاهر الفقر والتهميش في العالم.
|
|
|
|
|