| مقـالات
تقوم الحياة على مجموعة من التوازنات تشكل ناموسا كونيا يعكس الحكمة الإلهية من خلق الكون. من ذلك ان الحياة ليست وردية دائما، فلابد للورود من الأشواك، فالحياة آلام في بعض جوانبها وآمال وردية في بعض جوانبها الاخرى.
العلاقة بين الآلام والآمال:
ولاشك ان ثمة علاقة وشيجة بين الآلام والآمال، بحيث تكون الاولى باعثاً على تحقيق الثانية وتحويلها الى واقع ملموس، بعيدا عن الخيالات المجنِّحة. وتلك علاقة أزلية، اقصد العلاقة بين الآلام والآمال، والتي تنبثق لغويا من رجوع الكلمتين الى أصل لغوي واحد، وهو حروف الهمزة واللام والميم، مع اختلاف ترتيب اللام والميم في الكلمتين. ويترتب على فهم هذه العلاقة وإدراك كُنهها ثم حُسن استثمارها نجاح شعوب وإخفاق اخرى، وبزوغ نجم حضارات وأفول نجم اخرى. وأمتنا العربية العزيزة ليست بدعا في هذا الأمر، فهل وعت امتنا العربية هذه العلاقة الوطيدة وأدركت كنهها، وأخيرا أحسنت استثمارها؟!!
هل للألم فائدة؟
قديما عرَّفوا الألم بأنه الوجع، وبأنه )إحساس مرهق( أو )إحساس بغيض(. لكن الألم مع هذا ليس شرا خالصا، فرب ضارة نافعة، أو كما يقول سبحانه: )وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم( )البقرة: 216(. فالألم على مستوى الفرد ذو فائدة بيولوجية عظيمة على الرغم من انه إحساس غير مرغوب فيه؛ فهو يشبه ناقوس الخطر حيث يؤدي إلى عدة أعمال عصبية انعكاسية تهدف الى حماية الجسم من المؤثر الخارجي أو الداخلي الذي قد يتلف الانسجة، كما انه يُطهِّر نفس الانسان ويُصهر معدنه، ويخرجه من رتابة الراحة والنعيم واللذة، وقد يدفعه الى تحقيق آماله كمنجاة من هذا الألم، فما انقادت الآمال إلا لصابر!! او كما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوسُ كِباراً
تعبتْ في مُرادها الأجسامُ |
الألم سُـنَّة كونية:
فلكل شيء ثمن في دنيا البشر، وثمن الآمال الكبيرة تضحيات وآلام كبيرة أيضاً؛ فكثير من العلماء والأدباء والمخترعين في العالم اُتْخنوا بالآلام التي صنعت منهم علماء مرموقين في أممهم؛ كالمتنبي، وأبوالعلاء المعري، وطه حسين، وبتهوفن، وغيرهم كثيرون، بل لعلني لا أكون مغاليا إذا قلت: إن الألم سنَّة كونية وضرورة حتمية، والحياة لا تكاد تخلو أبدا من الآلام. قال سبحانه مقسما: )لا أقسم بهذا البلد، وانت حل بهذا البلد، ووالد وما ولد، لقد خلقنا الإنسان في كبد( )البلد: 1 ـ 4(. وقد بدأ الله بأعز خلقه، وهم الأنبياء والمرسلون، إذ كانوا اكثر الناس ابتلاء وآلاما، فقد روى مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد ابتلاء؟ قال: )الأنبياء ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبتلى الرجلُ على حسب دينه( )أخرجه الترمذي في جامعه، باب: ما جاء في الصبر على البلاء(.
آلام الأمة العربية:
والأمة العربية ـ كأي أمة في العالم ـ تعاني اليوم آلاما، بعضها حاد شديد قصير الأجل، وبعضها الآخر مزمن طويل الأمد لا يُجدي معه علاج حتى لو بالبتر والتدخل الجراحي، من ذلك قضية القدس وما أسميه بسلام الطيور الداجنة مع اليهود. ولا يخفى ما تعانيه أمتنا العربية من تخلُّف حضاري، وانقسام وفرقة وتدهور في العلاقات العربية، وحروب وصراعات دامية، وحصار اقتصادي، وتبعية واستعمار نفسي بغيض، وغيرها من محن وابتلاءات شتى، وهي مطالبة بحسن استغلالها والارتفاع فوقها نحو تحقيق الآمال المرجوة، وهي تبدأ قرنا جديدا مليئا بالتحديات العالمية الكثيرة.
في الطريق إلى العلاج:
وما هي مطالبة به ليس بالأمر الهين، فهو طريق طويل يبدأ أولا بتعرف مصدر الألم وأسبابه، سواء كانت أسبابا مادية او نفسية، ثم تحديد نوع الألم: فهل هو بسيط؟ أم متوسط يمكن التغلب عليه؟ أم حاد ومزمن يستعصي علاجه بصورة نهائية؟ وهذا التشخيص ليس هينا، فهو يحتاج وقتا كافيا ودقة شديدة؛ فمن المعلوم أنه من الصعب قياس الألم، فهو يعتمد على وصف المريض وإحساسه، ذلك لأن الألم نسبي يختلف الإحساس به من شخص لآخر، كما ان المريض قد يخونه حسه فيخطىء تحديد مصدر الألم بدقة، فيشعر بالألم في موضع مغاير لمصدره الحقيقي، أضف الى ذلك أن مؤثرات الآلام ومصادرها نوعان: خارجية وداخلية. وربما كانت هذه المؤثرات الداخلية أشد خفاء على المريض وأكثرها تعقيدا في التعامل معها.
ويأتي بعد ذلك دور العلاج، وهو متنوع حسب نوع الألم ومصدره وخبرة المريض نفسه بالألم؛ فتارة يكون بإزالة اسباب الالم، وتارة يكون بالأدوية المنشطة او بتقوية الارادة وتشتيت الانتباه او بالاسترخاء والإيحاء المباشر للألم العضوي. وهذا العلاج لابد له من التخطيط الجيد مع مراعاة عنصري الزمان والمكان، والأخذ في الحسبان المتغيرات المحلية والعالمية، والتذرع بالصبر، والتحلي بالموضوعية وبُعد النظر. فاذا احسنت أمتنا التخطيط جاء دور التنفيذ والتطبيق السليم لخطة العلاج، مع الاستعانة بالعزيمة القوية واستلهام التاريخ والاستفادة من تجاربنا وتجارب الامم الاخرى مع الآلام. فاستلهام التاريخ والاستفادة من دروسه ركيزة اساسية ودعامة قوية لنجاح الخطة وتطبيقها.
دروس من الماضي والحاضر:
وأمامنا دروس حية في صراع الأمم مع الآلام، وكيف كانت هذه الآلام باعثا لهممها نحو تحقيق الآمال؛ فأوروبا عانت في العصور الوسطى آلام التخلف والضياع والأمية، فكانت الثورة الصناعية ثم الحضارة الغربية التي ننعم بمكتسباتها اليوم. وأوروبا الشرقية عانت كثيرا آلام الكبت والقهر الشيوعيين فاستثمرت آلامها لاسترداد حريتها، كما قاست جنوب أفريقيا آلام العنصرية حتى كونت لها دولة بعد طول صبر وكفاح مستميت.
دعنا لا نبعد بعيدا، فالعاقل من اتعظ بنفسه قبل أن يتعظ به غيره، فالأمة العربية استطاعت في الماضي أن تجعل من آلامها باعثا لتحقيق آمالها؛ فلننظر كيف كانت قبل الاسلام؟ وإلام صارت بعده في ظل الدولتين: الأموية والعباسية؟! كما عانت في العصر الحديث آلام الهزائم )البقية ص 37(
في صراعها مع طاعون الاحتلال اليهودي، فاستطاعت بعد هزيمة )1967م( ان تتغلب على آلامها لتحقق نصرا مؤزرا في حرب السادس من أكتوبر )1973(، وهي قريبة عهد بتجربة جنوب لبنان الذي استطاع بكل بسالة ان يتخلص من آلام هذا الطاعون اليهودي، ويحقق آماله في الاستقلال. والمهم في ذلك كله أن تتحلى أمتنا بالاخلاص الحقيقي والرغبة الصادقة في تجاوز الآلام لتحقيق الآمال، فتناسي الهموم بصورة مؤقتة بند من بنود خطة العلاج، كما أن عامل السرعة من العوامل الحاسمة في نجاح هذه الخطة، وإلا تحول الألم الى ألم مزمن قد يستعصي فيما بعد على العلاج.
هذه خطوط عريضة لنا معها بعد وقفات إن شاء الله، لعله يأتي يوم عسى أن يكون قريبا، نستطيع ان ننهض من كبوتنا، ونتخلص من آلامنا المبرِّحة، ونحقق آمالنا التي طال اشتياقنا إليها على ارض الواقع، وأن نخطو خطوات جريئة ثابتة بين الأمم الاخرى لنشاركها بناء صرح الحضارة العالمية في القرن الحادي والعشرين.
|
|
|
|
|