| الثقافية
قليلون هم الذين يعرفون ان الأستاذ الشاعر الكبير محمد حسن فقي.. ناثر مجيد.. كما هو شاعر مجيد يشعل فتيل القوافي ينير بها الطريق حاملا جذور العشق للكلمة المجنحة والايقاع الجميل ويلبس الحرف ثوبا زاهيا من الرقة والعذوبة. ولو جمع الأستاذ محمد حسن فقي مقالاته الرائعة التي كانت تتصدر صفحات البلاد والمدينة وعكاظ وغيرها من الصحف السعودية.. لصدرت له مجموعة من المجلدات تزيد عما صدر له من دواوين شعرية. فمقالاته النثرية لا تقل جمالا عن قصائده الخالدة.. لغة مسبوكة واطلالات سامية وعواطف مشوبة بالرقة تعبر عن أحاسيس انسانية ومشاعر جياشة وفكر مستنير وسلسلة من الآراء والتجارب الحية يكتبها في أسلوب جميل من غير فذلكة أو تعقيد..
ومن حسن حظ محبي الأستاذ محمد حسن فقي وعشاق فنه وشعره.. ان بعضا منهم جمعوا بعضا من مقالاته النثرية في كتابين صغيرين جميلين أولهما كتابه المسمى «فيلسوف» الذي صدر منذ أكثر من ثلاثين عاما تضمن كثيرا من تجاربه الانسانية الخصبة صاغ جملها وسطورها في ايقاع متناغم يشعر الانسان وهو يقرؤها انه يقرأ أبياتاً من الشعر الموزون المنغوم.
أما الكتاب الثاني فقد صدر عن دار الرفاعي للنشر والطباعة ضمن سلسلتها الرائعة المكتبة الصغيرة التي حرص الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي رحمه الله ان تكون نافذة مضيئة يرصد من خلالها زخم العطاء الفكري واستطاع أبناؤه من بعده ان ينفذوا وصيته لتظل المكتبة الصغيرة شاهدة على عطاء الرجل وبذله ومشاركته الفكرية والثقافية.
واسم الكتاب «رمضانيات فيلسوف» أما موضوعاته فهي تدور على نفس منوال الكتاب الأول من حيث الصياغة والمضمون الذي يحتضن في داخله رؤية الكاتب والشاعر للكون والأشياء من حوله.. ولعلنا من مقالاته تلك نقتطف جملة واحدة تضيء لنا جزءا من شخصية كاتبها الفذة..
يقول الأستاذ محمد حسن فقي:«ان الناس في غمرة الصراع لا يبالون بمن يسقط ولكنهم يهتفون لمن يفوز حتى لو كان أولئك الساقطون انما سقطوا في المعركة وهم يناضلون عنهم ويقاتلون في سبيل مثال وعقيدة.. حتى لو كان أولئك الفائزون قد فازوا بجبن ونذالة وفازوا ليسيطروا ويستغلوا لا ليصلحوا أو يفيدوا» كلمات محددة.. تحتضن ما يمكن ان يقال في سطور أو صفحات أو ربما كتب..
وهكذا هي حروفه المغردة شعرا كانت أم نثرا.. تخاطب قارئها مباشرة.. أن - قم.. استيقظ.. فكر.. تحسس عالمك.. وابصر..
وهكذا هو الفنان المتمكن من أدواته يستخدم كل ما عنده من طاقة فكرية ليفجر في داخل المتلقي شهوة النظر فيما حوله.. ولاختبار العالم من خلال العينين والخيال.. والرغبة في الوصول الى الحقيقة.. حقيقة الأشياء دون غموض.. ودون الدخول في تفاصيل دقيقة لبلوغ الهدف لتحريك المياه الساكنة.. والنشاط المذهل للعقل والفكر.. انه يترك لقلمه حرية الحركة في الكتابة لتغطي مساحة الفكرة التي يريد.. وربما تأتي هذه الكتابة عبر أبيات تصل الى المائة.. أو ربما في كلمات محددة لا تتجاوز السطر الواحد.
ومحمد حسن فقي واحد من الشعراء بل الأدباء القلائل.. الذين يدركون جيدا ما تحمله جذورهم الروحية والمادية على امتداد الزمن والأرض من مضامين وتجارب ورؤى فالطابع العربي الاسلامي بارز في لوحاته الشعرية والاحساس واللون واللغة واضحة في كل أعماله.. التي تتجلى فيها قدراته الفنية المذهلة طوال تاريخه الفني الرحب.. التي تعبر بصدق وأصالة وشفافية عن جوهر الانسان في كل قضاياه.. مهيئا لقارئه رؤية جديدة.. تمنحه فرصة النفاذ الى داخل العمل الأدبي وفهمه واعطائه وزنه الحقيقي من الوعي والتأمل..
ومن المؤسف اننا نجهل الكثير من بدايات حياة أدبائنا ومفكرينا خصوصا في طفولتهم المبكرة التي لو وجدت من يرصدها لكان لدينا حصيلة من المعلومات المفيدة التي تمنح الأجيال الحاضرة صورة للظروف التي صنعت مسيرة الرواد من أدبائنا وتكوين شخصياتهم الفكرية.. وكيف ساهمت بيئاتهم البسيطة في شحن مخيلاتهم وشحذ مواهبهم المبكرة.. بعوالم ازهرت في مستقبل حياتهم فكرا وأدبا جميلا معبرا.
ومن يقرأ شعر محمد حسن فقي.. يتأكد انه تخرج من نفس مدرسة الظروف الصعبة التي تعلم في رحابها الكثير من عباقرة الفكر والفن والأدب ومشاهيره.. الأمر الذي جعل معظم أعماله الشعرية تخرج الينا وهي محملة بشجن حزين.. وقلق مأساوي متأجج.وثمة مدرسة أخرى بكل ما تحمل من علامات مضيئة في تاريخ المعرفة والفكر في بلادنا.. كانت محطته التي توقف عندها طويلا انها مدرسة الفلاح التي دخلها.. طالبا عصاميا.. ثم مدرسا.. وزميلا للعديد من أقرانه من الشباب الذين صنعوا بدايات الحركة الأدبية في الحجاز أمثال العواد، وحمزة شحاته وغيرهم من الشباب الذين اجتمعوا على حب الأدب وتعطشهم للجديد من فنونه..ويتحلقون حول كتاب يحمل أفكار المدارس الأدبية والجمالية في مصر والشام.
ووسط هذه الباقة الجميلة من الأدباء الشباب شق محمد حسن فقي لنفسه طريقا خاصا به استنادا على ايمانه العميق بموهبته وتميزه الأمر الذي كان مصدر قلقه وراحته في نفس الوقت وربما جر عليه ذلك التميز الكثير من الازعاج الذي كثيرا ما يحظى به المميزون بين أقرانهم في سن مبكرة وهو أمر لا مفر منه.. وضريبة لابد منها.
واستطاع ان يضع اسمه بين أسماء العديد من الأسماء التي سبقته في الوسط الأدبي وكان هذا التميز يدفعه الى الاحساس بأن الطريق الزاهي الذي يمضي نحوه لا يمكن السير فيه بحماسة متخيلة أو أوهام واهية.. بل عليه ان يتزود لرحلته الطويلة بكثير من الصبر والتزام الروية والاصرار والعناد.
وقد اكتسب محمد حسن فقي على امتداد نحو خمسين عاما من الانتاج الشعري شهرة عريضة ليس على المستوى المحلي وحسب.. بل وعلى المستوى العربي أيضا.. ولو قيظ لإنتاجه الوسيلة المثلى للانتشار عبر العالم لكان للأدب العربي السعودي شأن كبير في الأوساط العالمية ذلك ان قدرة الأستاذ محمد حسن فقي الفنية تتجاوز محيطه المحلي .
فأعماله الأدبية تكشف عن استاذية وقيمة وشخصية فذة رفيعة المستوى سامقة البناء. من حقها علينا ان ندرس ونبعث فيما تركت وراءها من عطاء ثر زخم تؤكد هذه الأستاذية في الشكل والتكوين والتناول الفني وهي جميعها قادرة على ان تترك على الطريق الطويل في عالم الفكر والأدب بصمة عريضة وغنية ستظل خالدة على مدى الأيام والأزمان.
|
|
|
|
|