إن الناقد الذي يباشر شعر الشاعر الكبير محمد حسن فقي وفي ذهنه مقولة النقد الحديث إن ما يعني الناقد في النص الأدبي ليس على وجه التحديد ما يقوله هذا النص وإنما الطريقة التي يقوله بها. أي أن المهم في النص الابداعي ليس معناه وإنما شكله. إن الناقد الذي ينطلق من هذه المقولة لتأمل شعر فقي سيفوت على نفسه متعة التذوق.
إن الشعراء ليسوا سواسية كأسنان المشط فمنهم من يركز على اللغة ليشكلها تشكيلاً فنياً.
ومنهم من ينطوي على رؤية عميقة للكون والحياة والإنسان.
إن النص الذي يقع ضمن هذا المجال نص يتعامل مع العالم فهو يميل الى الموضوع والأفكار أكثر من تمحوره حول الأبعاد الفنية والجمالية وهو لايهمل اللغة وإنما يهتم بها بوصفها أداة تتجسد فيها الأفكار. ولأنها تمثل جزاء جوهرياً وعنصراً مكوناً للنص الابداعي في بيئته الكلية. اننا نقدر شعر فقي ونتفاعل معه لا لأنه يقدم لنا نموذجا جماليا فحسب وإنما لأنه يذعن لحاجة من حاجات العالم الداخلي للإنسان.
إنه لا يقدم معرفة بالعالم ولكنه ينتج في النفس شعوراً بالعالم.
يركز فقي في شعره إذن على الرؤية ولكنها ليست رؤية فلسفية عميقة تصدر من العقل الفعال الذي ينتج المعرفة للآخر لكنها رؤية تأملية. عملية إدراك ذاتي وهي محاولة للوصول إلى إجابة تروي فضوله حول قضايا فكرية وكونية.
يقول فقي:
وما الشعر حب شاغف وصبابة
فحسب ولكن حكمة وتأمل
جذبت به نحوي الفواتن فترة
من العمر ثم انجاب عني التذلل
فقد أطفأت دنياي من وقدة الصبا
وولى شباب كان يسطو ويجهل
وأصبح شعري ينشد الحق جاهزاً
وما عاد يشجيه الهوى والتغزل
إن أهم سمة تسترعي الانتباه في شعر محمد حسن فقي هي الاحساس بالألم وهذا ناتج عن الوعي المفرط بالذات.
قال جوته معلقا على مقولة سقراط «اعرف نفسك»: «لو عرفت نفسي لملئت منها رعباً ووليت عنها فراراً».
وإذا كان جوته قد تحاشى هذه المعرفة فإن فقي وقع ضحية لهذا الإحساس:
حيرتني نفسي فما أعرف ما
تحتويه من أسرار
ألِرشد تميل أم لضلال
ولنفع تميل أم لضرار
من صبابي الغرير كنت أعاني
قلقاً من شذوذها وعثاري
يا لنفس من الضلالة والرشد
ومن صولتي بها وانحداري
أقلقت مضجعي فحالفني
السهد ومالهولها من فرار
أما السمة الثانية البارزة في شعر فقي فهي الإحساس بالتشاؤم والخوف من المستقبل وهذا الإحساس يتمثل في صلب الرؤية الشعرية عند
فقي منذ بواكير شعره.
إنني خائف مصيراً شقياً
فيه يجفو غرابة الكروان
بعد أن كان شادياً يطرب السمع ويشفي يراعه والبيان
كيف للحر أن يطيب له العيش ومن حوله جوى وامتهان
أما السمة الثالثة من سمات الرؤية الشعرية لمحمد حسن فقي فهي الإحساس بالاغتراب واغتراب فقي يقترب من الاغتراب الوجودي. حيث دفعته المعاناة الى نوع من الاغتراب الانطولوجي الذي اخذ معه يهيمن عليه شعور بالخوف الحاد والانفصال عن الذات.
يا ابنتي.. يا ابنتي أبوك غريب
وهو في داره وبين لداته
جامد الحس والهموم تناغيه وتقصيه عن لذيذ سباته
ساهم الفكر تستبد به الخيفة من دربه ومن ظلماته
فهو يمشي به كئيباً فيصيبه ويدمي الكسول من خطواته
هذه ملامح الرؤية الشعرية عند فقي يتيح لنا تأملها متعة تذوق تجرب شعورية يلتحم فيها الوعي المرهف واللغة الشعرية المتأنية بحيث يجد القارئ نفسه قبالة أفق تعبيري يتضمن تأملات عميقة في الكون والإنسان والحياة صيغت بلغة سهلة طيِّعة.