| مقـالات
ومن المرأة المبدعة الى المرأة القضية، اذ تشكل المرأة القضية الاهم لدى مجموعة من الروائيين والقصاص، وقد انجز الاستاذ الدكتور «محمد بن عبدالله العوين» دراسة فنية وموضوعية عن «المرأة في القصة السعودية» ونوقشت الدراسة، ومنح بموجبها شهادة الدكتوراه، والامل ان تطبع الرسالة، مع رسائل اخرى تناولت السرديات في مختلف الابعاد لتكون اضافات دراسية جديدة للقضايا الموضوعية والفنية في الابداع السردي، ولما تكن قضية المرأة في الابداع السردي همَّاً فردياً ولا اقليمياً، ولما يكن تقصي امرها مقتصراً على دارس اكاديمي او محلي، لقد درست المرأة مبدعة، ودرست قضية على مستوى الوطن العربي، وخرج الدارسون بنتائج ثرية.
والاشكالية ليست في تناول قضايا المرأة عبر الابداع، او تقصي ذلك عبر الرصد والتحليل النقدي، وانما هي في مشروعية الموقف منها، اذ تحولت الى موضوع اخلاقي وديني واجتماعي، وخرجت من الفن المحض الى «الادلجة» و «الانثربولوجيا» وتمادى الكتاب في الحديث عن المسكوت عنه وعن المحرم، حتى لقد شغلت البعض حرية الوصول اليها لا وصولها الى الحرية. والمرأة حين تختصر في العلاقات الجنسية، تدخل وحل النخاسة الجسدية، وتفقد انسانيتها، والذين يريدونها خدينة لاشباع النزوات الحيوانية، ثم يدنسون الفن، ويشيعون الفاحشة باسم الابداع وحرية التعبير يضربون الامة في الصميم.
والمرأة المتخاذلة لم تجد بأساً من استعراض جمالها في الاعلانات والمسارح ومسابقات الجمال واغلفة المجلات الماجنة، وما ظفرت من خلال دعوات الحرية الا بأن تكون كاسية عارية مائلة مميلة، واذ شغلت العلماء والادباء والمبدعين والمفكرين على حد سواء فإنها على المستوى الابداعي وعند المبدعين بين المحظور والمباح، فلقد اهتم بقضاياها مئات الروائيين والاف القصصيين في الوطن العربي، ولما تغب عن جيل الريادة والتأسيس والانطلاق في المملكة، وفي مقدمة اولئك السباعي والمغربي بوصفهما من الرواد الثلاثة، وجاء من جيل التأسيس الدمنهوري في روايته «ثمن التضحية»، واستفاضت قضاياها، وتنوعت، وتعقدت عند روائيي الخضرمة والانطلاق، ولم تعد عند اولئك عشيقة، تنتهي بالزواج، ولا جاهلة تفضي بنفسها الى التعلم، بل كانت اشياء اخرى، وتقلبت قضاياها بين السذاجة والذكاء، وسوء النوايا وحسنها، وارتبطت بالجمال الحسي تارة وبالجمال الروحي والاخلاقي في تارات اخرى، وكل روائي او قاص افسح لها مجالات عدة، ولما يخل منها عمل ابداعي. فقد جاءت عند الروائي والقاص «ابراهيم الناصر» في «عذراء المنفى» وهي كذلك لدى «فؤاد صادق مفتي» في «لا لم يعد حلماً» ولدى «امل شطا» في «لا عاش قلبي» ولدى «عصام خوقير» في «الدوامة»، وعند «امين عبدالمجيد» في مجموعته «الاعزب الفقير» و «بدرية البشر» في مجموعتها «نهاية اللعبة» ولدى «تركي العسيري» في «اوراق جماح السرية» وعند «عبدالرحمن الشاعر» في مجموعة «عرق وطين» وعند «محمد الصويغ» في مجموعة «الخلاص» وله الى جانب تلك المجموعة مجموعة «المسحوق» وعند «حجاب الحازمي» في مجموعته «وجوه من الريف» وعند «حسن الحازمي» في مجموعته «انطفاءات الولد العاصي» وعند «محمد منصور الشقحاء» الذي حاول من خلال ثلاث مجموعات «الغريب» و «الطيب» و «الرجل الذي مات وهو ينتظر» الخروج من نفق المرأة الى فضاء المقاومة والسياسة عاد كما لو لم يكن خرج، عاد اليها جارية واميرة قصر ووصيفة. وقد اشرنا من قبل الى ان القاصة «سميرة الخاشقي» في تناولها لقضايا المرأة لا تمثل الهم المحلي، مع انها تعد الاكثر ايغالاً في قضايا المرأة. والذين استدعوا المرأة لتكن شخصية ثانوية او استدعوا قضاياها لتكون رئيسية يختلفون في حوافز الاستدعاء، والاكثرون من الروائيين والقصاص يجعلون من المرأة فاتح شهية ووسيلة لاختراق عوالم القراء وجذبهم، وقد يقترفون خطيئات بسبب جهلهم للضوابط الاسلامية التي تمنع التفحش واشاعة الرذيلة.
والرواية العربية ومن ظاهرها من النقاد اوغلوا في الرذيلة، وأسفوا في ادب الاعتراف، وتحول الجنس عندهم تجسيداً للصراع الحضاري، وقد سنَّ الطيب صالح سنة سيئة في موسم الهجرة، وواطأ النقاد هذه المقترفات، ووجد الغربيون في سخرية الروائي من عشيرته وقومه وفي هذه الهمجيات والايغال في الرذيلة مجالاً للتسلية، والدراسة النقدية التي كتبها الدكتور/ محمد بن عبدالله آل عبداللطيف عن رواية «الحزام» ونشرتها مجلة «اليمامة» تكشف عن تهافت القارئ الغربي على الرواية العربية حين تصور الانسان العربي تصويراً تهكمياً بدائياً متوحشاً، والنقد العربي بسذاجته المعتقة يتصور ان مرد هذا التهافت لبراعة المبدع واصالة العمل.
على ان هموماً كثيرة تختلط فيها القضايا وتتقاطع الهموم وتختلف الاراء تساور المبدعين في عمل واحد او في اعمال متعددة، كالنزعة الانسانية والتربوية، والعلاقة مع المرأة، وسائر القضايا السياسية والفكرية وغيرها، ولكل ناقد رؤيته، فالنص الابداعي ذو فضاءات واسعة، وآليات الناقد وخلفيته الثقافية وهواجسه تضيء عتمات النص، ثم تستجلي دلالات لم تكن حاضرة الذهن الابداعي، والنص المراوغ في انزياحه او قناعه او اشارته او رمزه قد يفضح الناقد، لانه يجر قدمه لكشف ذاته، والنقاد الذين تسوروا محاريب النصوص الحمَّالة قالوا ما يخامرهم، والقليل منهم من يكتشف هموم الروائي، و «نظرية التلقي» قد تكون سبباً رئيساً في تحريف القول عن مواضعه، وما اختلت الوحدة الفكرية في الفكر الاسلامي القديم والحديث الا بسبب «التأويل»، اذ إن مدار الاستقامة والانحراف على قطبي «النص» و «التلقي» وما اختلف المفكرون، وما نشأت المذاهب الا بسبب التلقي، ذلك ان المرجعية الواحدة لا يتعدد فيها الحق، ولكن التلقي المتعدد تتعدد معه الرؤى والتصورات، والنص قد يساعد على تعميق الاختلاف، والجدل حول النصوص الحمالة يؤدي الى تفرق الكلمة، ولعلنا نتذكر نهي الامام علي - رضي الله عنه - عن مجادلة اهل الباطل بالقرآن.
وكلما كان المبدع موهوباً عميق الثقافة ناضج التجربة كانت اشكالية تأويله من اعقد الاشكاليات، والروائيون والقصاص ذوو القضايا الفكرية او الاجتماعية يوقعون النقاد في مأزق النص المراوغ، والذين يقرؤون المحيميد، والحميد، والشقحاء، والغدير، وحسين، والدوسري، والخال، والعالم، والمشري، وكل اعمال الناشئة التي وصلت حبالها بمتغيرات الرواية الحداثية يجدون النص عند اولئك حمالاً، وعلى سبيل المثال فان رواية «علي حسون» «الطيبون والقاع»حظيت بدراسات استعراضية، وتحليلية، ووصفية من عدد من النقاد، من امثال الدكتور احمد عبدالله النعمي، والاستاذ عبدالسلام المفتاحي، ولكن احداً منهم لم يستطع امتلاك مفاتيح النص واختراق فضاءاته الرمزية، بحيث يجلي هموم القاص ونوزاعه، ولك ان تقول مثل ذلك عن كل الذين «تحدثنوا» اصالة او محاكاة في الفكر او في الفن او في اللغة ممن المحنا الى غموض الفكرة او اللغة في ابداعاتهم الروائية والقصصية، وفي ظل هذا المتغير الجذري ألمحنا الى مأزق النقد في التحولات الدلالية والفنية واللغوية التي يبدأ بها المبدع مشهده دونما توقع، واحسب ان هناك سباقاً بين تحولات الابداع وآليات النقد، وكأن المبدع طريدة الناقد،وكأن التحولات تحرف لحفظ سرية النص، والتحولات عند الروائيين والقصاص تكون عفوية تفرضها مستجدات المشهد، وتكون مكتلفة تحفز اليها طبيعة المغلوب في تقليد الغالب، ثم انها قد تكون بطيئة الحركة لدى طائفة من المبدعين، وتكون على شكل قفزات عند آخرين. والنقاد قد يسبقون مشهدهم، بحيث يحتاج المتلقي الى قراءة تأسيسية، يتمكن بها من فك شفرات الناقد، واشكالية المشهد حين تكون الظلمات بعضها فوق بعض، بحيث يكون المبدع موغلاً في الانقطاع اللغوي والفكري والاجتماعي والفني، ثم يكون الناقد جريئاً في التجريب النقدي، بحيث يضطر الى تحميل النص مالا يحتمل، واكراهه ليكون مستجيباً لما جد من مناهج وآليات نقدية، والحداثة التي تؤكد على الانقطاع المعرفي، وترفض سلطة الماضي، واكبها انقطاع ابداعي وانقطاع نقدي، فكانت غرية الوجه واليد واللسان، ومع ان المؤصل والمستشرف لا يكون خبأ ولا يخدعه الخب، الا ان الممارسات غير المحكومة تصيب الذين ظلموا والذين لم يظلموا كما الفتن.
ولو اخذنا على سبيل المثال ب «تكنيك» «تيار الوعي» وهو مصطلح من مصطلحات علم النفس، قال به «جيمس» في كتابه «مبادئ علم النفس» ثم امتد كما «البنيوية» الى الابداع السردي لوجدناه الاكثر تداولاً على ألسنة النقاد المعاصرين وتجلياً عفوياً او متكلفاً عند بعض المبدعين المتواصلين مع المستجدات، وتلك الظاهرة يتداولها من لا يعرف اصولها، المعرفية، ولا تجليها في الابداع القولي، و «تيار الوعي» اخذ طريقه الى النقاد السرديين منذ ان ترجم «محمود الربيعي» كتاب «همفري» «تيار الوعي في الرواية الحديثة» ولما يكن في نظري على الاقل - بالاهمية ولا بالحجم الذي اعطي له، فالمبدع لا بد ان ينتج للشخصية اكثر من حالة تعبيرية، وهذه الحالة تكون ذات ارتباط بأي مفردة من مفردات علم النفس، وتجلي «تيار الوعي» في بعض الاعمال لا يحمل على تصور جدته، وابسط تعريف او وصف له: انه ما يعيه الانسان من تجارب ومدركات ذهنية وافكار ومشاعر مما تستثيره الذاكرة المتيقظة، ثم يتدفق كما التيار، ويجري على ألسنة الشخصيات الروائية او القصصية، وذلك ما نجده عفويا او متكلفا عند طائفة من الروائيين والقصاص من امثال «محمد علوان» و «المشري» و «النعمي» كأصحاب جغرافيا متشابهة، ونجده عن «الحميد» و «الخال» و «حسين» كاصحاب قضايا ذاتية واقليمية وفكرية متشابهة، ونجده عند آخرين من ذوي النزعات الاصلاحية من امثال «باخشوين» و «السالمي». ولا احسب ذلك متغيرا دلالياً وانما هو اسلوب للتعبير الدلالي، وهو كما «المنلوج» اسلوب في الاداء القولي لا يحتاج الى تقنية معينة.
واذا كان هناك متغير في طريقة الاداء فان هناك متغيرات اخرى ترتبط بكل متعلقات الفن السردي، فعلى مستوى المتغير الدلالي والاستشراف نجد ان «لقمان يونس، نجاة الخياط، محمود عيسى المشهدي» يمثلون التحول السريع في المجتمع السعودي، ورائدهم في هذا الروائي «ابراهيم الناصر» الذي يصف الحازمي اعماله بأنها ترصد تحول المجتمع السعودي. فقصة «شبح المدينة» تحكي صراع البداوة والحضارة وقصة «خيبة امل» في مجموعة «ارض بلا مطر» تحكي الصراع نفسه، وقصة «بين جيلين» تحكي التحولات، واحسب ان لفيفاً من الروائيين والقصاص يجسدون صراع الاجيال، وهو صراع ساذج، وغير عميق، نجد ذلك عند الجيل المخضرم الذي عاش البدايات، وادرك نتائج التعليم النظامي، وتغيرت تبعاً له كل الاوضاع، وكان للمرأة النصيب الاوفى، ولا احسب ذلك صراع افكار، وانما هو صراع عادات وتقاليد، وصدمة مدنية لا حضارية، ومن ثم فإن القارئ لن يجد مبدعاً جسد الصراع الحضاري والفكري الا في القليل النادر عند افراد معدودين، وما جاء من صراع وجدل بين جيل وجيل فانما هو صراع مدنيات لا غير، والفرق واضح بين صراع الحضارات وصراع المدنيات، والذين اتخذوا من الجنس رمزاً للصراع الحضاري كما هو عند «عبدالفتاح عثمان» في دراسته للطيب صالح وآخرين، في كتابه « الصراع الحضاري في الرواية العربية» يسيؤون للفن الروائي، على ان المبدعين الذين اقتصروا على صراع المدنيات لا يصلون حد التوتر، بحيث يكون الصراع بمفهومه الواسع ، والحق ان تنازع البقاء تحول من الصراع الى الحوار، حيث هدأت عاصفة الصدام، واذعن المجتمع للتغيير. وابراهيم الناصر الذي جسد الصراع والحوار معاً دخل مصطلح الخضرمة، اذ امتدت به الحياة الفنية، وكان اصداره في مرحلة الانطلاق يفوق اصداره في مرحلة التأسيس، ولهذا اصبح من المشروع ان نستدعيه في المرحلتين، واشكالية الخضرمة في الدراسات الادبية توقع في الخلط، فالادب لا يمكن تصور حواجز فاصلة بين مراحله واجياله، فالأدب العباسي مثلاً امتداد للادب الاموي وهكذا.
ومع اننا نحتفي بامكانيات التحرف للتأويل والتحرف للتجديد فإننا لا نسلم بالاندفاعات غير المحسوبة، ذلك ان تقانات معاصرة من تقانات السرديات حولت العمل الابداعي من جمالية عفوية الى صناعة واعية متعمدة، تخشب معها العمل، وفقد نبضه الفني، حتى لقد عرفت الشخصية: المدورة، والضدية، والنمطية، والمسطحة.
وعرف التبئير، والتطهير، والانقلاب المسرحي، والطبقات النصية، المترسبة، والمضمر، والمتراكم، والمغطى، وانواع التناص، والتوالد الى آخر «التقليعات» التي يستحضرها المبدع، ويفتعلها الناقد، ولا يكون شيء من هذا استدعته المرحلة دون تعمل وتكلف، وجيل الانطلاق وقع في هذا ، وجاء تجديده مأخوذاً بالمحاكاة والافتعال والتصنع، مما عمق الهوة بين المبدع والمتلقي، وجاء نقاد على دين مبدعيهم، لا يودون ان يقال انهم غير عصريين، فكان الابداع افتعالاً والنقد مواطأة، وفقدت المصداقية، وفقد معها التأصيل والتأسيس واحترام الشرط الفني والفوارق بين انواع الفنون، وكل هذا وطأ الاكناف للادعياء والمتعالمين، وها نحن نجني الشوك والحنظل، فكل كاتب يفيض على المشهد بحشفة وسوء كيلة عبر اعمال ثلاثية ومشاريع نقدية والمقتدرون صامتون صمت العاجز او الخائف.
|
|
|
|
|