للشاعر أحمد شوقي همزيات أُخَر، أطولهن نفَساً تلك المعنونة: )كبار الحوادث في وادي النيل( التي مطلعها:
همَّتِ الفُلْك، واحتواها الماءُ
وحداها بمن تُقلّ الرجاءُ
ثم همزيته النبوية هذه، والعلاقة بين هاتين الهمزيتين واضحة جدا، فالأولى سجلت تاريخ مصر الطويل، ومواقفها الأصيلة على مر الزمان، وبيان دورها في التاريخ، والهمزية الثانية في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، والتأكيد على شخصية مصر الإسلامية، والإشادة بالفكر الإسلامي، ودوره الحضاري، ومطلعها:
وُلد الهدى، فالكائنات ضياءُ
وفَمُ الزمان تبسُّمٌ وثناءُ
ومديح الرسول صلى الله عليه وسلم على رويّ الهمزة قديم، وأشهرُهُ همزية البُوصِِيري التي مطلعها:
كيف ترقى رقيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاولتْها سماءُ
التي لقيت لدى الناس قبولا واسعا، وتحولت إلى نشيد ترَدّده الحناجر، وتشدو به الشفاه معلنة حبها وتعلقها بحبيبها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله، ونظرا لأهمية موضوعها، وسلاسة عباراتها، وروعة عواطفها، توالى الشعراء عليها يقلدونها ويعارضونها، ويسعون إلى احتذائها، فهي من القصائد ذات التأثير في تاريخ شعرنا العربي، وهي في ذلك مثل )بانت سعادُ( وميمية البوصيري المعروفة بالبردة:
أمن تذكّر جيران بذي سلَمِ
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدمِ
التي عارضها شعراء كثيرون، ومنهم أحمد شوقي، فقال:
ريمٌ على القاع بين البان والعنمِ
أحلّ سفك دمي في الأشهرالحُرُم
وإذا حظيت قصيدتا البوصيري بحب العامة وبخاصة المتصوّفة، فإن قصيدتي شوقي لقيتا الحظوة عند المنشدين والمغنين وبخاصة سيدة الغناء العربي المعاصرة السيدة أم كلثوم، وتشترك القصائد الأربع بالغلو في بعض الأبيات كنا نود أن لو خلت منها. وقد أوجدت المعارضات في هذا الباب فرصة أما الدارسين في عقد الموازنات بين القصائد المختلفة، لعل من أهمها ما فعله زكي مبارك في كتابه )المدائح النبوية(، وما فعله الصديق الأستاذ الدكتور محمد سعد بن حسين، تحت العنوان نفسه، ولشوقي مدائح أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير هذه الهمزية، لذلك قال هنا:
لي في مديحك يارسول عرائسٌ
تُيِّمْن فيك، وشاقهُنَّ جلاءُ
هن الحسان، فإن قبلتَ تكرُماً
فمهورُهن شفاعةٌ حسناءُ
أنت الذي نظَمَ البريةَ دينُه
ماذا يقول وينظم الشعراء؟
وهو يتقرّب إلى الله بمدح نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن حبه مطلب ديني، بحيث لا يتم إيمان المرء إلا إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ماله وولده ومن نفسه التي بين جنبيه.
يقول شوقي في مدحته الأخرى:
أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري
بمدحك، بيد أن لي انتسابا
مدحتُ المالكين فزدتُ قدرا
وحين مدحتك اجتزتُ السحابا
وحين نتأمل هذه الهمزية نجدها مرثية على النحو التالي:
ومقدمة من سبعة أبيات، منها:
ولد الهدى، فالكائنات ضياء
وفم الزمان تبسُّم وثناءُ
الروح والملأ الملائك حوله
للدين والدنيا به بُشَراء
والوحيُ يقطر سلسلاً من سلْسل
واللوح والقلمُ البديع رُواء
ويتحدث بعد ذلك عن بيت النبوة، فهو صلى الله عليه وسلم خيارٌ من خيار، لهذا تباشرت الأملاك حين ظهوره، وفاحت به الأرجاء شرقا ومغربا، يقول شوقي:
بك بشّر الله السماءَ فزُينتْ
وتضوعت مسكاً بك الغبراء
وبدا محيّاك الذي قسماتُه
حقٌ، وغرَّتُه هدى وحياء
وعليه من نور النبوَّة رونق
ومن الخليل وهَدْيه سيماء
وأشار إلى بعض الظواهر الكونية الإعجازية التي رافقت ولادته صلى الله عليه وسلم، كاهتزاز شُرفات إيوان كسرى، وجفاف بحيرة سماوة. وقال عن يتمه الذي كان مفخرة من مفاخره:
نعم اليتيم بدت مخايلُ فضله
واليتمُ رزق بعضُه، وذَكاء
ثم تحدث عن أخلاقه الطاهرة في عدد من الأبيات بدأ أربعة عشر منها بإذا الشرطية، وذلك في رغبة من الشاعر في الايجاز وتقوية الدلالة الناجمة وجوب تحقق الجواب إذا تحقق الشرط، منها:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
منها، وما يتعشَّق الكُبراء
وإذا صحبْتَ رأى الوفاءَ مجسَّماً
في بردك الأصحابُ والخلطاء
وإذا أخذت العهد، أو أعطيته
فجميع عهدك ذمّة ووفاء
في كل نفس من سُطاك مهابةٌ
ولكل نفس في نَداك رجاء
ثم يمتدح أمية الرسول، ويشيد ببلاغة القرآن الكريم والحديث النبوي، من ذلك قوله:
يا أيها الأميّ، حسبك رتبة
في العلم أن دانت بك العلماء
الذكر آيةُ ربك الكبرى التي
فيها لباغي المعجزات غَناء
أما حديثك في العقول فَمَشْرَعٌ
والعلم والحِكَم الغوالي الماءُ
جرتِ الفصاحةُ من ينابيع النُّهىَ
من دَوْحه، وتفجّر الانشاء
وتحدث فيما تحدّث عن الإسراء والمعراج، فخلط بينهما، أو اعتقد أنه عبر عنهما تعبيرا قرآنياً،
وليس الأمر كذلك فهما معجزتان متميزٌ أحدهما عن الآخر، وإن تواليا في الوقوع، يقول شوقي:
يا أيها المُسرَى به شرفاً إلى
ما لاتنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل :
بالروح أم بالهيكل الإسراء؟
بهما سموت مطهرين، كلاهما
نور، وريحانيّة، وبهاء
ثم أشار إلى غزواته، وإلى عظَم الدعوة التي نشرتْها، وحملتها إلى الكون، وبرّت بها الإنسانية جمعاء،
ويختمها بقوله:
ظلموا شريعتَك التي نلنا بها
ما لم ينلْ في )رومةَ( الفقهاء
مشَتِ الحضارة في سناها، واهتدى
في الدين والدنيا بها السعداء
صلّى عليك الله ما صحب الدجى
حادٍ، وحنّت بالفَلا وجناءُ
اقول لكم الحق، إن الذي شدني إلى الكتابة عن هذه القصيدة موضوعها المتصل بذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم، ونحن نحتفي بها بطريقة إيمانية بعيدة عن الغلو، محكومة بالحب المقرون بالاقتداء وحسن الاتباع، في عصر يوصم فيه كل مقتد أو مكثرٍ الصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم، بالأصولية والروح المعادية لقومه وبني وطنه، ومن باب أولى أن يوصم بعدم الإنسانية، ومهاجمة حقوق الإنسان وخنق الروح الديموقراطية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.