| محليــات
كلُّ لحظةٍ تمرُّ بي تزيدني إيغالاً في أدغال الإنسان..
أدري أنَّكِ لا تريدين منِّي الخوض في هذه الأدغال، وأنَّكِ تربئين بكلِّ نقيِّ أن تشتاكه منها وخزةٌ،... وأنَّكِ إن كنتِ سيِّدة الحفر، والكفاح، والبناء، فإنَّكِ ترفضين أن تُسكبَ قطرةٌ دمٍ واحدة، أو تُراق على حوافِّ العبور..
لكنَّكِ الوحيدة التي حببتِ فوق رهافتي كمياتٍ من القوة...، وقلتِ لي: ربّما تحتاجين إليها ذات لحظة...
أجل...
أحتاج إليها اللَّحظة، وأنا أهمُّ بدخول الأدغال...، إنَّها تبدو موحشة، ولأنَّني ما كنتُ أتوقع قرب مواقعها...، حسبتُ أنَّ الوصول إليها، يحتاج منِّي الى سفر طويل، أكتشف فيه، ما يسافرُ إليه الجوَّابون في أرض الأرض، ويقفون على ما يُذهل من مُخيفاتِ الزَّواحف، والمفترسات، و...، ولكن...
أدغالُ الإنسان أشدُّ وحشةً من أدغال سواه...
ووحشة الدَّخول إليها شديدة الوطأة...، لكنْ، أتدرين ما الَّذي خفَّف من هذه الوحشة؟... وما الَّذي هوَّن الدخول في أعماق هذه الوحشة؟!... هو وجودكِ، تحملين شعلة نوركِ... فأرى التفاصيل...، وأختار بحذرٍ موقع موطئ قدميْ...
دخلتُ، أُتيح لي مع نوركِ، أن أرى تفاصيل أدغال الإنسان...، شاهدّتُ التواءاتِ دروبها...، مررتُ بطحالب مستنقعاتها...، ألوانٌ من طبقات داكنة حتى الإيقاب...، مظلمة مدلهمَّة...، يا لي من غبية غباء الذي غطَّتْ عليه الأرض بما ثقلت...، قد كنتُ أتيه بالإنسان...، وأبتهج...، حسبتُ أنَّه المخلوق الذي كُرِّم...، هو المخلوق الذي يعيش فوق بسطة انفساح المدى...، في بياض لا تناهٍ معه...، أوله...، لكنَّني أدركت اللَّحظة...، أنَّ الإنسان وحده من يصنع أدغاله، بمثل ما هو وحده من يصنع روضاته، بمثل ما هو يطوي، يبسط...، وبمثل ما هو يرتقي، يسقط، وبمثل ما هو يعلو، ينزل...، وبمثل ماهو يُفرح، يُحزن، وبمثل ما هو يُحب، يكره، وبمثل ما هو يَبني، يهدم...، وبمثل ماهو يزرع، يحصد، وبمثل ما هو يبذر، يحشُّ...
واللَّحظة تعرَّفت كثيراً إليه...
وعندما التفتُّ، لم تكن للأدغال إليه دروبٌ...، ولا إلى منعطفاتها، ومفازاتها، والتواءاتها خارطة، بل وجدتُ لوحكِ المعلّق في سماءٍ فضائي...، وأنتِ تقفين بشعلتكِ...، تحملينها قلماً يؤشِّر لي...، وفوق هذا اللَّوح...، يرسم لي أدغال الإنسان...، يُريني تفاصيل التَّفاصيل، و بهبوب الشُّعلة، كنتِ تلوِّنين لي درجات الظلمة، والبياض، وألوان الحياد، والتَّطرف، والانغماس فوق سديم هذا اللَّوح...
سرمديَّة هذا القادم من عندكِ، في تنامي العطاء منكِ...، يدوم بي في يقظةٍ دوميَّة، تجعلني بعد قراءة لوحكِ...، والعبور معكِ وراء مؤشِّر شُعْلتكِ، نحو خطوات الإنسان في أدغاله... أرى ... وتكبر رؤيتي...، ماذا تعني له الحياة هذا الإنسان يا سيدتي... إن ضاق بنفسه على نفسه، وإن لفَّ نفسه في طيَّات بؤسه، ثم غادر الى أدغاله؟!...
كيف؟ ستبكي الروضات؟...، ستنوح الحمائم؟، أم سوف تصدح أصداؤه... كي يسعى الى تناول جرعات من الاحساس بفقده؟...
كيف يفقد الإنسان نفسه في معيِّة نفسه؟ ، إن لم تكن نفسُه الفاعلة في الفقد، والمفعولة في المعيَّة؟!...
يا سيدتي...
كثيراً ما أخذتِني إلى طرق التفكير، نلج بوابات الأفكار...، وهناك نجثو بجوار فازات الأماني، ومزهريات الأحلام...، وروافد ماء الزهر...، نعبُّ منها ونغسل تلك اللَّوحة التي كانت خطوط غابات الإنسان مرسومة فوقها كي نطفئ لهيبها، وكي نمهِّد تربتها...، وكي نعود نبذر فيها الأحلام، والأماني...
أنتِ رسولة الطُّهر في زمن تعفَّر فيه الطُّهر في صدور الناس...
وأنتِ سائقة مراكب الصدق...، وكم وجدْتُكِ حافية تصطلي قدماكِ في عراءٍ كي تُمثلي رسالة الوفاء...
أتحسبين أنني كنتُ غِرَّةً حينذاك ولم أتلقَّ تلك الرسائل، وأتعلَّم تلك الدُّروس؟
أبداً يا أبديَّة الصِّدق والطُّهر... لقد غدوْتِ معلِّمةً في ملكوتِ كونٍ يتًّسع بكِ...، فيما هو يضيق بهم...
كلَّما جئتِ...، كلَّما اتسعت منافذُ الترحيب، وأقبلَتْ...
كلَّما كنتِ...، كلّما استقرَّت أجنحةُ النَّقاء، وانتشَرتْ....
لقد رمَّمْتِ الثّقوب...، ولقد رتقْتِ الممزَّق في ثياب الكون، حيث استقرَّتْ مُديَّات الظُّلمةِ...، ورماح الدَّكن القادم من أدغال الإنسان...
ألا ليتكِ تدركين كم هي الحاجة لأن تسمحي لهم بدخول مظلَّتكِ، كي يُتاح لهم أن يعيدوا رتْق الجروح، وإدمال الشَّق الواسع الذي سقطوا فيه...، بعد أن أقاموا له حفلاً، ما لبثوا أن وقعوا في لهيب اشتعاله...
هذه أيدي الإنسان قد كثُرتْ ولم تعدْ اثنتان، وأصابعها تضاعفت عن العشرة، وحملَتْ أكفُّهم التي انكمشتْ الى حدودٍ ضيقة، كي لا تكون إلاَّ جذراً جافاً، تخرج عنه هذه الأصابع، عند أيدٍ كأنَّها فروعٌ عجفاءٌ لشجرةٍ جفَّت، وتقادم عليها الزمن...!!
تذكَّرتُكِ اللَّحظة، وأنتِ تُحذِّرينني ألا أقف، ولا للحظة خاطفة، في لمحةٍ عابرةٍ كي أشاهد هذا الموت...
كنتِ تقفزين بي الى أبعد عن موقع هذا المشهد لسقوط الإنسان...
كنتِ تربئين بي عن دركِ النِّهايات، لمطاف الإنسان، وهو في غفلةِ العبور...، ينسى براءة الطُّهرْ، إلى رُعْب التَّلوث...
يا سيدتي...، بكلِّ النَّقاءِ الذي نثرتِ بذوره في طريق الإنسان، أُبشِّرُكِ بأنَّه قد ا نكفأَ على الأرض، كي يحمل هذه البذور...
ولقد أتَّجه الى أودية الرُّواء، وحمل قطرات الزُّهور بين جفونه...، ثم ها هو يسكبها كي ينطفئ في أدغاله اللهيبُ، وكي يكون إليكِ...، يتعلَّم كيف يكون البناء...، كيف هو النَّماء، كيف يُثمر الحبُّ، وكيف ينهض الوفاء...؟...
لله درُّكِ...
لقد منحتِ شعلتكِ كي تكون البوصلة في مدى سرمدي لديمومة الشَّارات...، في رحاب البياض...
ألا فليكنْ لعزفكِ سرب الآذان...
وليكنْ للوْحتكِ مدى المدى، كي تكوني لكلِّ العابرين، في مدى لا نهاية له... لا صمتَ لإيقاع الصَّدى، لرسيس ما ينبض في جوفه الذي لا تغادره حمائم السلام.. ولن أخوض في الأدغال أبداً بعد أن تحوَّلت بكِ الى هذا المدى الفسيح.
|
|
|
|
|