| مقـالات
هذه الدنيا رحلة قصيرة، وعرض زائل، وجسر عبور لا يمكن أن يستقر عليه أحد، هذه هي الحقيقة الكبرى للدنيا، وهي حقيقة تغيب - أحيانا - عن أذهان الناس حينما ينغمسون في دنياهم سعيا وراء الحياة المرفهة المنعمة، وركضا وراء سراب الدنيا الخادع الذي لم يجد أحد من الراكضين وراءه ماء أبدا، وإنما وجدوه بريقا خادعا لا يروي من ظمأ.
وفي هذه الرحلة الدنيوية القصيرة يمر بنا أشخاص لا نلتفت إليهم كثيرا، ولا نفطن الى ما يدعون إليه من معاني اليقظة والعظة والعبرة، بل ربما منحناهم نظرات ساخرة، أو مشفقة على حالهم التي يبتعدون فيها عن الغوص فيما غصنا فيه، والانغماس فيما انغمسنا فيه من لذائذ الحياة ومتعها ومغرياتها.
نعم يمر بنا أولئك الأشخاص وكأنهم - في نظرنا - يعيشون في غير عصرنا وينظرون الى الحياة اللاهثة المتطورة بمنظار متخلف عن منظارنا، مع أنهم - لو تأملنا تأملا صحيحا - أعمق منا نظرا وأصح فهما لهذه الحياة العابرة.
كنت في أواخر المرحلة الثانوية أتأمل بعض الكتب الثمينة التي تضمها مكتبة رجل داعية كبير ذي منهج دعوي سمح متميز وهو الشيخ علي بن يحيى الغامدي - يرحمه الله - وذلك في منزله في «العقيق» بادية منطقة الباحة، كنت أتأمل بعض الكتب في مكتبته فوقعت عيناي على عنوان جميل «موارد الظمآن لدروس الزمان» فبادرت بتناول الكتاب وأخذت أقلب صفحاته وأتوقف عند بعض عناوينه وموضوعاته، وما كنت عازما على القراءة في حينها، ولكن التنوع في موضوعات الكتاب دفعني الى قراءة بعض الموضوعات التي وجدت لها أثرا في نفسي لما فيها من المواعظ والعبر والزهديات وبعض النصائح الشعرية المبثوثة في الكتاب.
ولم أكن في حينها أعرف شيئا عن منهجية الكتابة والتأليف، وعن أهمية التوثيق للنصوص المنقولة بذكر مصادرها ومراجعها، وإنما أعرف أن القراءة مهمة لطالب العلم، وأن لها أثرها الفعال في بناء شخصيته الثقافية والفكرية وأن للقراءة متعة لا يسعد بها إلا من عود نفسه عليها وذاق حلاوتها.
لقد استمتعت - حينها - بقراءة ما استطعت من كتاب «موارد الظمآن» للشيخ عبدالعزيز بن محمد السلمان، ووجدتني معجبا بهذه السجعة الرنانة في العنوان «موارد الظمآن لدروس الزمان تأليف الفقير الى عفو ربه عبدالعزيز بن محمد السلمان»، وقد وجدت من السجع داخل صفحات الكتاب ما أعجبني في ذلك الحين، ولكن الأهم من ذلك كله أنني شعرت بتأثر بما قرأت من المواعظ والعبر، وشعور عميق في حينها بأهمية ورود منابع الخير في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح لترتوي النفس الظمأى من تلك الموارد الغنية، وهذا الشعور هو الذي أشعرني في ذلك الوقت، وفيما بعد أن وراء هذا الكتاب نية حسنة - إن شاء الله - وقلبا نابضا بحب الخير للناس، وبالحرص على انتشالهم من ميلهم الشديد الى الدنيا، وغفلتهم - غالبا - عن الآخرة وعن الموت الذي يتخطف الناس كل يوم.
إن الافراط في تعظيم «منهجية الكتابة والبحث» يفسد - أحيانا - على القارىء متعة القراءة، ويصرفه عن اتخاذ العبرة والموعظة مما يقرأ وأذكر أن كتب الشيخ «عبدالعزيز السلمان» - يرحمه الله - ذكرت في مجلس فيه مجموعة من «الدكاترة» فرأيت منهم من زم شفتيه وقال «ليس فيها منهجية البحث والكتابة» وأسلوبها أسلوب تقليدي قديم وحينما قلت له: ألا ترى أن الشيخ قد بذل ما في وسعه، واجتهد بما يستطيع، وقدم ما لم تقدم أنت أيها المتقوقع في «المنهجية»؟، سكت وأحجم عن الحديث.
لم ألتق بالشيخ عبدالعزيز السلمان إلا مرة واحدة عابرة لا أستطيع الآن أن أحدد مكانها، ولكنني أذكر شخصيته جيدا، وأذكر كيف سعدت جدا بتواضعه، كما سعدت من قبل بقراءة كتابه «موارد الظمآن» ولربما كنت الملوم - وأنا كذلك - على عدم القيام بواجب زيارته مع أنني أشاركه الاقامة في مدينة الرياض العامرة، وما هذا التقصير إلا نتيجة من نتائج الانشغال بهذه الحياة الفانية التي حرص الشيخ - يرحمه الله - على أن ينتشل الناس من غفلتها ولهوها.«موارد الظمآن..» وأين القلوب التي لا تظمأ في عصر ألهبته سياط المدنية الغربية الزائفة؟، وأين النفوس التي لا تعطش وهي تلهث في قيظ الحياة المعاصرة بكل ما فيها من غبار ودخان وصخب وضجيج؟
نعم، القلوب ظامئة وهي بحاجة الى المورد الذي يطفىء جذوة هذا الظمأ والشيخ عبدالعزيز السلمان كان يدرك هذا جيدا وكان يرعى هذا الظمأ القاتل، وهذا الركض المرهق، ويرعى هناك في الجانب الآخر الموارد الصافية التي تمسح عن واردها آثار الظمأ والنصب والتعب، فأخذ يلوح بقلمه النظيف للراكضين في الاتجاه المعاكس ليدلهم على المنابع التي تزيل ما بهم من الظمأ، وظل يحرص على ذلك ولا يمل من التلويح بقلمه، ورفع صوت حروفه مناديا ولسان حال كتبه يقول :«أيها الظامئون هنا موارد الظمآن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي سيرة أهل الخير عبر الأزمان.
ولعل الشيخ عبدالعزيز السلمان قد رأى مع تعاقب الأيام، وزيادة الصخب والنصب، وتكاثر المغريات، وانتشار وسائل اللهو في هذا العصر، أن النفوس قد انصرفت، وأن القلوب قد انجرفت، وان الأفكار قد أغلقت، فألف كتابه الآخر بأجزائه الثلاثة ووضع له عنوانا يدل على إدراكه لخطورة انغلاق الأفكار عن الرؤية الصحيحة لحقيقة هذه الحياة العابرة، فأسماه «مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار» ونثر فيه من المواعظ والعبر والحكم نثرا وشعرا ما يمكن ان يحرك بعض تلك الأذهان المنغلقة، وأن يفتح بعض تلك الأفكار التي أحكمت عليها لذائذ الدنيا أقفالها.
والحقيقة أن الشيخ عبدالعزيز السلمان - يرحمه الله - لم يكن همه ان يلتزم بمنهجية البحث والتأليف القائمة على التبويب الدقيق والعناية بتسلسل الموضوعات والأفكار وبضبط المراجع والمصادر وخدمة الهوامش، ولو أراد ذلك أو التفت إليه لما أعجزه لأن تلك المنهجية من الأمور المتأتية لمن أرادها، ولكن هم الشيخ كان في أداء ما عليه من واجب الدعوة والتوجيه والتذكير، وفي حرصه على انتشال ضال المسلمين، وتنبيه غافلهم، وتقويم منحرفهم، فبذل في ذلك جهده التأليفي المشكور، وإن في كتبه من المحطات العلمية والثقافية والدعوية ما يجعلها جديرة بالاقتناء والقراءة.
على أن له في جانب العقيدة والفقه دورا كبيرا غير مجهول من خلال تدريسه في معهد الرياض العلمي أولا، ثم معهد إمام الدعوة ثانيا، وقد تخرج على يده عدد كبير من طلاب العلم وألف في ذلك كتبا ميسرة تسهل على طالب العلم معرفة القضايا العقدية والفقهية مقرونة بالأدلة الشرعية، منها «الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية» وسلسلة «الأسئلة والأجوبة الفقهية المقرونة بالأدلة الشرعية » . وغيرهما.إن الإخلاص في طلب العلم أولا، ثم في نشره بين الناس ثانيا، هو الذي يحقق للعالم السعادة في الدارين، في الدنيا بانتشار علمه وقبول الناس له وارتفاع مكانته عندهم، وفي الآخرة بالجزاء الأوفر عند رب كريم.
وإن أواصر العقيدة والحب في الله، وروابط العلم هي التي تصل بين الناس مهما تباعدوا، وبها يعيش الإنسان مع صاحبه عقلا وروحا وإن تباعدت الديار، وقد قلت في إحدى قصائدي.
كم فتى غائب عن العين موجود
وكم حاضر طواه الغياب
كما قلت:
وما ينفع الإنسان قرب مكانه
إذا لم يجد من نفس صاحبه قربا |
لقد شعرت منذ اللحظة الأولى التي قلبت فيها «موارد الظمآن» أنني أعرف الشيخ عبدالعزيز السلمان، وعرفت مما سمعت عن ورعه وتواضعه وحرصه على صلاح الناس وهدايتهم ما أكد في ذهني تلك الصورة الخيالية التي رسمتها للشيخ من خلال قراءتى لكتبه.
الشيخ عبدالعزيز السلمان - يرحمه الله - في مدينة عنيزة ولد عام 1339ه، وفي مدينة الرياض توفي عام 1422ه، وبين هذين العامين مرت ثمانون سنة أو تزيد كأنها طيف عابر، ملأها الراحل بطلبه للعلم ثم بتدريسه والتأليف فيه، ثم مضى، نعم، مضى مودعا هذه الدنيا التي لوح لنا بقلمه فيها، ونادانا بصوت حروفه الصادقة، موجها وواعظا ومحذرا من الغفلة واللهو والغرور.
مضى ولسان حال فراقه يقول: لقد وعظتكم وذكرتكم بزوال الدنيا بكتاباتي وأقوالي، وها أنذا أؤكد لكم ذلك برحيلي الفعلي عن هذه الدنيا، لقد سبقتكم وأنت اللاحقون.
اسأل الله أن يتغمده برحمته، ويجزيه خيرا على ما قدم، ويلهمنا الرشد والصواب.
|
|
|
|
|