| العالم اليوم
في 14/3/1978م اجتاحت القوات الإسرائيلية الأراضي اللبنانية، ولم يتوقف العدوان إلا بصدور القرار 425 من مجلس الأمن الدولي، وأقام المحتلون ما يسمونه )منطقة الحزام الأمني( التي يصل عمقها في بعض المناطق إلى أربعين كيلومتراً، وبعد أربع سنوات شنت إسرائيل عدواناً أوسع نطاقاً في عام 1982م، ووصلت قواتها إلى بيروت، وفرضت على الحكم اللبناني اتفاق 17 مايو «ايار» ولم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية بعد ذلك، ومع ذلك فقد استطاع الشعب اللبناني تمزيق الاتفاق الذي لو طبق في حينه لوضع لبنان تحت الوصاية الإسرائيلية، وحولت المقاومة اللبنانية مصيدة موت للجنود والضباط الإسرائيليين، مما شكل خطراً واستنزافاً مستمراً للقوة البشرية الإسرائيلية بخلاف الخسائر المادية نتيجة للنفقات العسكرية التي تتكبدها إسرائيل، مما حدا بقادة إسرائيل إلى الاعتراف بأن الجنوب اللبناني تحول إلى )فيتنام إسرائيلية( لا قبل بالدولة العبرية بتحملها، وإن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر أصبحت محض وهم وخيال، مما جعل الجميع في اسرائيل ينادون باخراج الجيش الإسرائيلي من لبنان، والفرار فوراً من لبنان وبأي ثمن، فليس، المهم من وجهة نظر الغالبية في إسرائيل أن يكون الفرار )الانسحاب( طلباً للسلام أو ايثاراً للسلامة، وإنما المهم هو الخروج قبل الغرق في المستنقع اللبناني..!
حتى قاتل الأطفال الارهابي أرييل شارون مهندس الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م، والمدافع الشرس عما يسمى «الحزام الأمني» بات من أكثر المتشددين على خلع الحزام حتى لو سقط «سروال إسرائيل»، وأخذ يردد بأن المنطقة الأمنية لم تعد أمنية، وأن لا جدوى من البقاء مع استمرار نزيف الأرواح الإسرائيلية، وأن مهمة الحزام الأمني كانت حماية أرواح سكان شمال اسرائيل لا ازهاق أرواح شبابها في حرب لا نهاية لها.
جنود إسرائيل في الجنوب اللبناني يبكون كالنساء طالبين السماح لهم بالفرار من وجه الموت، فيما يبكي الآباء والأمهات أبناءهم الذين ماتوا ضحايا أوهام القوة الإسرائيلية الغاشمة، حتى أصبح الفرار من الجنوب اللبناني الورقة الرابحة انتخابيا بالنسبة للمرشحين، وأصبحت التهمة التي يوجهها مرشح إلى الآخر هي درجة مسؤوليته في توريط إسرائيل في «المستنقع اللبناني»، ومع تنامي قدرات المقاومة اللبنانية التي غدت قادرة على المبادرات المفاجئة، وتسيير اللعبة العسكرية والسياسية بفن وخبرة نادرتين، وفرضت مناخاً من الرعب والخوف لدى الإسرائيليين، فباتت الدبابة الإسرائيلية تقصف اختها، والوحدة الإسرائيلية تقتل ابناءها برصاص الذعر والارتباك، ارتفعت الأصوات في إسرائيل داعية إلى «الخروج من الجحيم» فيما كانت وحدات أخرى تابعة لكتيبة «غولاني» تتمرد على الأوامر، وقد وقع عناصرها عريضة طالبوا فيها بالانسحاب الفوري، متحدثين، عن «اليوم الجنائزي الطويل في جنوب لبنان» على خلفية الاستغراب الشديد «للبقاء الاستعراضي داخل المقبرة» ودون أي مبرر على الاطلاق سوى انتظار «الأشباح».
وترددت أصداء الهزيمة على باقي وحداث الجيش الإسرائيلي، فجنود لواء النخبة «غولاني» وضعوا خلفية سوداء لشارتهم العسكرية بدلاً من الخلفية الخضراء، وذلك حداداً على زملائهم الذين قتلوا في لبنان، ويعتبرون الذهاب إلى لبنان رحلة إلى الموت، ولذلك يكتبون رسائل وداع مسبقة إلى الأصدقاء والأهل، ويدعونها تنتظر في جيوبهم مستسلمين لهذا القدر اللبناني!
ألم يعترف أسحاق رابين بأن «حزب الله قد هزم إسرائيل» وهو ما أكده يوسي بيلين بقوله «لقد أرسلنا الجيش الإسرائيلي إلى جنوب لبنان ليحمي إسرائيل من المقاومة، ولكن السؤال الآن بات كيف نحمي الجيش من عمليات المقاومة».
واعترفت دراسة صادرة من معهد موشي دايان للشؤون الشرق أوسطية، إن هامش الخوف لدى الجندي الإسرائيلي هو أكبر من هامش الخوف لدى المقاتل من حزب الله بثلاث مرات على الأقل، وتعتبر أن هذه المعادلة «سيئة للغاية» إذا ما أخذ في الاعتبار إن الاستراتيجية الإسرائيلية قامت منذ عام 1948م على الترويع، وترى الدراسة أن الحل قد يكون في سياسة الأرض المحروقة، لكن مقاتلي حزب الله يمكن أن يتحولوا خلال لحظات إلى صواريخ بشرية تنقض على الدبابات والمدرعات الإسرائيلية.
لقد فقد جيش الاحتلال أعصابه وتوازنه أمام صلابة وصمود وجهاد وبطولات أبطال المقاومة اللبنانية، وحققت هذه البطولات ملحمة جديدة وانتصاراً حقيقياً لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، تمثل في فرار جنود الاحتلال وعملائهم كالفئران المذعورة أمام تقدم رجال المقاومة.
لقد عرف المقاومون أن فجر النصر آت لا محالة رغم الظلام الحالك الذي يلف أرجاء الأمة العربية، فشدوا العزم، وشددوا الضربات للعدو المحتل، ولقنوه الدرس تلو الدرس.
لقد أجاد رجال المقاومة التحدث باللغة التي يفهمها العدو الإسرائيلي، ووصلت رسائلهم إلى كل بيت في إسرائيل، حتى أصبح الانسحاب من لبنان فوراً هو مطلب كل إسرائيلي، وتوصلت المقاومة اللبنانية إلى الدواء الناجع لمأزق عملية التسوية في الشرق الأوسط، فما لا يمكن الحصول عليه عبر طاولة المفاوضات، يمكن بالصبر والجلد والايمان والتضحية الحصول عليه في ساحات الشرف.
وفي يوم 24/5/2000م بزغ فجر يوم عربي غير مسبوق شهد اندحار آخر جندي إسرائيلي عن الجنوب اللبناني في يوم أطلقت عليه الصحف الإسرائيلية يوم )العار.. والمهانة( لإسرائيل، ويوم العز والكرامة للأمة العربية.
لقد أراد باراك الخروج من لبنان بأي اتفاق، لكن تبين أن للمقاومة اللبنانية مخططات أخرى، وفرضت على الجيش الإسرائيلي سيناريو خاص بها، تجسد في حالات الفرار المرتبك والذليل للجيش الإسرائيلي كالفئران المذعورة من أرض الجنوب.
لقد تركوا كل شيء.. الدبابات والذخائر والعربات العسكرية وأحزمة الجند.. تركوا كل شيء حتى ذاكرتهم تركوها ممزقة برصاص المقاومة.
يحق لكل لبناني.. بل وكل عربي أن يفخر بمقاومة الشعب اللبناني للاحتلال.. باعتبارها النموذج الحي لقدرة شعب صغير لا يمتلك شيئاً في واقع الحال على هزيمة جيش مدرب ومدجج بأحدث ما في الترسانة الأمريكية من أسلحة، حيث أعادت هذه المقاومة الثقة في النفس لأبناء الأمة العربية، وردت الاعتبار لحقائق ظن البعض أن الزمن قد تجاوزها، ومنحت الأجيال العربية الطالعة أملاً جديداً في غد يسود فيه العالم العربي.
تحية للمقاومة اللبنانية التي أكدت للجميع أن الدم قد غلب السيف، وإن هناك طريقاً آخر غير طريق الخنوع والاستسلام، أو القبول بالفتات أو انتظار ما يسمح باراك بالتنازل عنه.
طوبى للمقاومة التي علمتنا أن للحرية الحمراء باباً..
كلمة أخيرة..
ونحن نهنئ أنفسنا بالذكرى الأولى للانتصار الذي سطرته المقاومة اللبنانية على العدو الإسرائيلي لزاماً علينا أن نذكر شهداء الثورة الفلسطينية الذين رووا بدمائهم الطاهرة أرض لبنان الحبيب دفاعاً عن الثورة والشعب والقضية.
إن انتصارات الأمة هي مجموعة تراكمات من الأعمال الصغيرة والكبيرة على مر التاريخ وتعاقب الأيام، ولا يوجد حدث واحد هو الانتصار، ومهما تكن التضحيات التي يقدمها الشعب، فما هي إلا لبنات صلبة يبني عليها المستقبل.
لقد كان من أبرز النتائج التي ترتبت على الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982م والأثر العميق الذي تركه على المجتمع الإسرائيلي، التصدي الشجاع للعدوان من قبل رجال الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، والصمود البطولي العظيم للشعبين الفلسطيني واللبناني أمام آلة الحرب الإسرائيلية، هذا الصمود والتصدي أدى إلى تصدع في بنيان المجتمع الإسرائيلي لم يكن مرده بطبيعة الحال للخسائر البشرية وحدها وإنما لعدم تحقق أي نتيجة مقنعة من الأهداف المعلنة للغزو سواء القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وما يعنيه هذا من القضاء على القضية الفلسطينية برمتها حسب طموح مناحيم بيغن، أو اقامة حكومة عميلة في لبنان توقع اتفاق سلام مع إسرائيل.
وإذا أردنا أن نستخلص الأهم من حرب بيروت عام 1982م فإن أهم محصلة لهذا الغزو هو خروج الحركة الوطنية اللبنانية من رحم الثورة الفلسطينية.
والتاريخ الحديث أثبت أن المقاومة الفلسطينية بذرت قبل خروجها من لبنان عام 1982م بذرة طيبة أعطت ثمارها عام 2000م بانتصار المقاومة اللبنانية.
كاتب وصحفي فلسطيني
a abuhashim@hotmail.com
|
|
|
|
|