| مقـالات
لقد تم خلال العام الماضي الكشف عن أكبر إنجاز علمي في القرن العشرين وذلك بوضع 95% من الخريطة البشرية للإنسان باستخدام أحدث التقنيات الحيوية. إن هذا الاكتشاف لم يأت بمحض الصدفة وإنما أتى بعد جهود مضنية من البحث المتواصل منذ اكتشاف المادة الوراثية DNA في عام 1952م من قِبل العالمين واتسون وكريق واستحقا على ذلك نيل جائزة نوبل للعلوم. تلا ذلك إجراء سلسلة من البحوث من قِبل علماء من العديد من الدول أدت إلى الكشف عن معظم الخريطة البشرية. إذ كان من المتوقع أن يتم الانتهاء من وضع كامل الخريطة البشرية في عام 2005م ولكن التطورات المذهلة في مجالي التقنية الحيوية وتقنية المعلومات خلال العقد السابق أدت لاختصار هذه الفترة وتم الإعلان عن الاكتشاف في العام المنصرم. الجدير بالذكر أن كل العلماء الذين ساهموا في تحقيق مثل هذا الإنجاز هم من الدول الغربية المتقدمة بمشاركة اليابان. كما كانت هناك مساهمات فعالة من قِبل شركات التقنية الحيوية في هذا المشروع كان من أهمها الدور الفعال الذي لعبته شركة التقنية الحيوية الشهيرة في مجال علم الموروثات سيليرا )برئاسة الدكتور كريج فنتر الحائز على جائزة الملك فيصل للعلوم( بتقنياتها الحديثة. ومما يؤسف له أنه لم يكن هناك أي دور يذكر لعلماء من دول عربية شاركت ولو بجزء في مثل هذا المشروع والسبب الرئيسي يعود إلى انعدام أهمية البحث العلمي لدى الدول العربية.
إن المتأمل للخطط الاستراتيجية التي وضعتها حكومتنا الرشيدة عند إنشاء مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية يدرك مدى الوعي لدى ولاة الأمر لأهمية التقنية وتوطينها في المملكة بخطى متأنية ودقيقة للتمكين من نقلها وتوفيرالموارد المادية والبشرية للاستفادة منها في مشاريع الخطط التنموية، وأقرب مثال على ذلك ما تم البدء فيه في مجال التجارة الإلكترونية. إن هذا التطور الهائل سواء في مجال التقنية المعلوماتية والاتصالاتية أو ما حدث أخيراً في مجال التقنية الحيوية، من الكشف عن الخريطة الوراثية البشرية كما تناقلته وكالات الأنباء وتحدث عنه رؤساء الدول العظمى سوف يؤدي إلى حدوث ثورة عالمية في مجال صناعة الدواء وبالتالي علاج الأمراض بحيث يتم صنع أدوية فاعلية قوية محددة للمورثات المسببة للأمراض دون حدوث مضاعفات جانبية تذكر.
مما سبق ذكره يبدو جلياً أن شركات التقنية يمكن أن تلعب دوراً مهماً في تأسيس البنية التحتية لأي خطط استراتيجية مستقبلية للقطاع الصحي خاصة ما يتعلق بالأمن الصحي. إذ إن معظم الشركات الحيوية سوف تملك المعلومات الوراثية الأساسية لكثير من الأفراد في مختلف الدول وبالتالي إمكانية توجيه ودعم كثير من الأبحاث الطبية للمساهمة في إنتاج أدوية لعلاج كثير من الأمراض الوراثية خاصة في مثل تلك الدول ذات الخصوصية الوراثية. يضاف إلى ذلك أن انتشار أمراض وراثية في بعض الدول لم يتم وصفها من قبل الأطباء والعلماء سيترتب عليه انعدام إمكانية إنتاج أدوية لمثل هذه الأمراض. وبما أن المملكة العربية السعودية تعد من تلك الدول ذات الطبيعة الخاصة حيث أن هناك الكثير من الأبحاث الطبية والتي أجريت داخل المملكة في مراكز طبية مثل مركز الأبحاث بمستشفى الملك فيصل التخصصي كالأمراض الوراثية الاستقلابية والتي ساهم الدكتور وزاند مساهمة فعالة في الكشف عن وصف كثير منها، وكذلك أمراض الدم الوراثية التي وصفها البروفسير محسن الحازمي في كثير من أبحاثه. إن مجال التقنية الحيوية يعد مستقبل صناعة الدواء خلال السنوات القادمة خاصة بعد التعرف على الكثير من المورثات التي تسببها الكثير من الأمراض حيث سيكون من أهمه إنتاج أدوية مصنعة وراثياً.
لذا فإنه يتطلب إبجاد بنية تحتية تساعد على تحديد ودعم مثل هذه الجهود وذلك بإنشاء مركز للتقنية الحيوية في المملكة. ونظراً لما تضطلع به مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية من مساهمة فعالة في نقل التقنية وتوطينها بداخل المملكة، ولما تملكه المدينة من إمكانيات تجعلها مؤهلة للقيام بالدور الإنشائي والإشرافي لمثل هذه التقنيات. لذا فإنه يجب تفعيل هذا الدور وذلك بإنشاء معهد التقنيات الحيوية مماثلاً للمعاهد الموجودة في المدينة مثل معهد بحوث الطاقة النووية ومعهد بحوث الاستشعار عن بعد حيث يمكن أن يكون من مهام هذا المعهد ما يلي:
وضع التشريعات والقوانين التي تخص التقنية الحيوية وإنشاء وإدارة البنية التحتية لمثل هذا المشروع.
تبني خطط مستقبلية للإشراف ودعم البحوث الوراثية بداخل المملكة من قبل الباحثين على مدى سنوات قادمة وذلك للتعرف على المورثات الخاصة بالأفراد السعوديين سواء مصابين أوطبيعيين وذلك للتعرف على وظائف هذه المورثات لكي يمكن صياغة استراتيجية مستقبلية لصناعة الدواء بالمملكة.
الإشراف على تصنيع وإنتاج المواد الدوائية مثل الهرمونات والأمصال المعدلة وراثياً داخل المملكة وكذلك المواد ذات الأهمية الطبية وذلك للتأكد من سلامتها.
توحيد الجهود في الدخول في قطاع الاستثمار على مستوى مشروع وطني وذلك بعد التنسيق مع الهيئة الوطنية للاستثمار والقطاعات الصحية سواء في وزارة الصحة أوالحرس الوطني ومستشفى الملك فيصل التخصصي، بحيث تكون المدينة هي الجهة الحكومية الرسمية المشرفة على هذه النشاطات كما هو معمول به في تزويد خدمة الإنترنت أو التجارة الإلكترونية. إذ إن هذه الشركات الطبية سيكون لديها معلومات ذات أهمية أمنية خاصة بأفراد المجتمع السعودي.
إن وجود مثل هذا المعهد داخل المدينة سيساعد على استقطاب الكثير من شركات التقنية الحيوية المتحمسة للدخول في السوق السعودي في عديد من المجالات الطبية وتطبيقاتها، حيث يمكن أن تجمع هذه الشركات في مكان واحد مثل ما يسمى بواحة العلوم «Science Park» كما هو معمول به في بعض الجامعات الأمريكية واليابانية. كما أنه سيساهم في إنعاش الاستثمار ونقل التقنية وسيحدث فرصا وظيفية لكثير من الكفاءات السعودية المتخصصة في مثل هذه التخصصات.
إن دراسة هذا المشروع وما سيترتب عليه من نتائج إيجابية لها أهمية كبيرة، ستجعل للمملكة بصمة واضحة في مثل هذه الاستثمارات الحيوية. إذ يتوقع أن الاستثمار في القطاع الصحي سيماثل الاستثمار في مجال الاتصالات وسيساعد في وضع الخطط الصحية المستقبلية.
والله الموفق.
*جامعة الملك سعود
|
|
|
|
|