الشعراء الأعْشَون في العرب أكثر من واحد، وأعشانا هذا هو: عبدالرحمن بن عبدالله بن الحارث الهَمْداني. شاعر كوفي أموي، كان أحد الفقهاء القرّاء، ثم ترك ذلك إلى الشعر، وهو زوج أخت الشعبي الفقيه، كما أن أخته زوجة الشعبي. شارك في حروب الدولة الأموية، ووقع في أسر الدَّيلم، ثم فرَّ من الأسر بمساعدة ابنة ملكهم. وكان بعد ذلك ممن خرج على الأمويين مع أبن الأشعث، فأسره الحَجّاج، وقتله صَبْراً، وذلك سنة 83ه.
ذكر أبو الفرج (الأغاني 6/51 ثقافة) أن الأعشى كان متزوّجاً بامرأة من قومه تُدْعى أمَّ الجلال، وهي كما قلنا أخت الشعبي (هو عامر بن شراحبيل الهمْداني، من أفقه التابعين، مات سنة 103 ه)، طالت مدة أم الجلال عند الأعشى، فملّها وقلاها، فخطب عليها امرأة أخرى من قومه أيضًا، تدعى (جَزْلة) لم ترض أن تتزوجه حتى يطلق أم الجلال، فطلقها، ثم عبّر عن تجربته معها شعراً فقال:
تقَادمَ ودُّك أمَّ الجلالِ
فطاشت نبالُك عند النضال
وطال لزومُك لي حقبةً
فرثّتْ قوى الحبل بعد الوصال
وكان الفؤاد بها معجَباً
فقد أصبح اليوم من ذاك سال
فهو لم يندم على طلاقها كما فعل الفرزدق مع زوجته نوار، ولم يبغضها، وإنما هو طول العشرة والملل منها، وقد كبرت سنُّها، ولم تعد قادرة على شغل فؤاده ومَلْء حياته:
صحَا، لا مسيئاً، ولا ظالماً
ولكن سلا سلوةً في جمال
ورُضْتِ خلائقنا كلَّها
ورُضْنا خلائقكم كلَّ حال
ثم أشار إلى خلاف حصل بينهما لم يفصح عنه، وإنما اكتفى بالإشارة إليه:
فأعْيَيْتِنا في الذي بيننا
تسومينني كلَّ أمرٍ عُضال
وقد تأمرين بقطع الصديق
وكان الصديق لنا غير قالٍ
وإتيان ما قد تجنّبتُه
وليداً، ولمتُ عليه رجالي
أفاليومَ أركبُه بعدما
علا الشيبُ منِّي صميم القذال
هناك مجموعة من الخلافات ضاق بها الشاعر، ورفض ان يتحملها من هذه الزوجة:
لعمرُ أبيك لقد خْلتِني
ضعيفَ القوى، أو شديد المِحال
هلمّي اسألي نائلاً، فانظري
أأحرُمكِ الخيرَ عند السؤال؟
ألم تعلمي أنني مُعْرِقٌ
نماني إلى المجد عمِّي وخالي؟
فبعضَ العتاب، فلا تهلكي
فلا لك في ذاك خيرٌ، ولا لي
ثم يتحرر الشاعر من كاف الخطاب بعد ان لزمها ثلاثة عشر بيتاً، وينتقل إلى هاء الغائب، كأنما هو يمثّل بذلك حالته في عيشه معها، وتحمّل بعض مواقفها المسيئة له، ثم تحرره منها بالطلاق ثلاثاً، فيقول:
فلماّ بدا لي منها البذا
ءُ، صبّحتُها بثلاثٍ عِجالِ
ثلاثاً خرجن جميعاً بها
فخلَّينها ذات بيتٍ ومال
إلى أهلها غير مخلوعةٍ
وما مسَّها عندنا من نكال
فأمستْ تحنُّ حنين اللقا
حِ، من جزَعٍ إثْر من لا يبالي
ثم يعود إلى مخاطبتها ليصارحها بعدم استعداده لردّها إلى عصمته، وأنه غير نادم على طلاقها،
فحنِّي حنينك، واستيقني
بأنّا اطّرحناك ذاتَ الشمال
وأن لا رجوعَ، فلا تُكذَبينَ
ما حنّت النِّيبُ إثْر الفِصال
ولا تحسبيني بأني ندِمتُ
كلاّ وخالقِنا ذيالجلال.!
فقالت له: بئس والله بعلُ الحرة، وقرين الزوجة المسلمة أنت.! ويحك.! أعدَدْتَ طول الصحبة والحرمة ذنباً تسبني وتهجوني به.! ثم دعت عليه أن يبغّضه الله إلى زوجته التي اختارها، وفارقتْه إلى أهلها، واستجاب الله دعاءها، فحين دخل بجزّلة زوجته الجديدة لم يحظَ عندها بالقبول، وفرِكتهُ وكرهته. واشتد شغفه بها، ولم تمهله الأيام، فسرعان ما خرج مع ابن الأشعث، فأسره الحجاج وقتله. وصوّر حاله معها قبل خروجه في قصيدة وجهها إليها ضمّنها شكواه منها وعتابه لها وثوْرته عليها، ويبدو أن صاحبنا كان شخصية قلقة، يعجبه التغيير، فلا يثبت على حال، فقد قلنا: إنه كان من الفقهاء القرّاء في زمانه، ولعلَّ هذا ما رشحه عند الشعبي حين زوّجه أخته أم الجلال، ولكنه سرعان ما ترك الفقه والقراءات وحياة العلم والعلماء، ليتعلق بالشعر وما يتبعه من لهو وغناء، وليقطع صلته بماضيه، فرّط في زوجته أمّ الجلال فيما فرّط ، حيث طلَّقها، وعمد إلى الزواج بغيرها، وربما كان اندفاعه إلى الخروج على بني أمية مع الأشعث ما يؤكد ما ذهبنا إليه من أنه كان شخصية قلقة لا تثبت على موقف، ولا تطيب له حياة.