| الثقافية
تحتوي الرواية العربية على ما تحتويه الرواية العالمية من تشخيص يقوم عليه البناء الروائي، مثلها في ذلك مثل غيرها، ولانجد الفرق في البناء العام للعمل الروائي، بل نجد ذلك في طبيعة التشخيص نفسه. ويعود التشخيص في غالبه الى معطيات البيئة العامة، والخلفية الثقافية للكاتب نفسه. فالتجربة الفنية حتى وان لم يكن البناء فنيا تعطي فكرة عامة عن الخلفية الثقافية للكاتب، مما يسهل على المتلقي قبول او رفض العمل الابداعي من منظور ادبي، بصرف النظر عن فنية العمل من عدمها. وقد يكون النموذج البارز، شخصية من شخوص الرواية، وقد يكون غير ذلك، كالزمان او المكان، او غير ذلك من الظروف العامة والخاصة التي تتحرك الرواية في فلكها من العام الى الخاص او العكس. وهي الاحداث التي يبدأها القاص من العموميات ثم يتدرج بها الاشياء الدقيقة والخاص في العمل الروائي، وتوجد هذه الجزئية في الرواية الاسترجاعية، التي يبدأها من النهاية مسترجعا الاحداث من خلال السرد اما من الخاص الى العام، فهي الرواية التي يبدأها من اول حدث. وقد يتساوى النموذجان في كلتا الحالتين، وقد يختل من مستوى آلى آخر في كثير من الاحيان لكن يبقى النموذج حيا في كل منهما، وهو المادة التي يستطيع الروائي ان يحرك البطل من خلالها، وهذه الحركة محسوبة على العمل الروائي ككل، فاذا كانت مكانية عند خيري شلبي في روايته الجغرافية «بطن البقرة» التي يصف فيها الجغرافية القاهرية، في اسلوب روائي متكامل الاركان، فهي زمانية عند دوفسكي في روايته العالمية «الحرب والسلام» التي صور فيها التاريخ الحربي مالم تستطع كتب التاريخ تصويره ويسميه جانيت «سلطان الرواية» Power of Narration, اي قوة الرواية، وهو مركز الثقل في العمل الروائي، وهذا المركز من اخطر ما يقابل الروائي الحق، فان لم يكن متمكنا من الموهبة الروائية والقدرة على صياغة هذه الموهبة، فانه لن يستطيع السيطرة على مركز القوة في المشروع الروائي، يقول الدكتور، سيد ابراهيم في دراسته للرواية «وقد تصل المبالغة الانحرافية بالراوي الى ضياع الهدف والانحراف عن الطريق الذي يؤدي بدوره الى ضياع البؤرة الروائية، اذا لم يرتب له المؤلف بعناية فائقة، بحيث يقدم له الاسباب المعقولة والمنطقية التي تساعد المتلقي على فهم ما يقصده المؤلف وكثيرة هي الروايات التي اضاعت الهدف، بحيث لم يتمكن الكاتب من السيطرة على النموذج، فاذا ضاع النموذج، او صار مشوشا غامض المعالم، تشتًّتت الاحداث وضاع الهدف من القص وضعفت السلطة على الرواية.
ونموذج الرواية العربية النسائية هو الرجل، بنسبة كبيرة جداً، اذا استثنينا بعض الكاتبات اللاتي لم يركزن العمل على الرجل، وكأن الرجل هو النقد، او العدو اللدود للمرأة، بينما الرجل في الكثير من الاوقات يشعر بالظلم من المرأة مثلما تشعر المرأة بنفس الظلم من بعض الرجال، فاذن العملية متبادلة بين الطرفين. وسنأخذ نموذجاً واحداً في كل مرة للتحليل من الروايات التي صدرت حديثاً رواية )انثى العنكبوت( للكاتبة «قماشة العليان» التي اصدرت قبلها عدداً من القصص القصيرة، مثل «خطأ في حياتي»، والزوجة العذراء ودموع في ليلة الزفاف وعيون على السماء، وهي الرواية التي لم اطلع عليها، لانها صدرت عن نادي ابها وهكذا النوادي الادبية، آخر ما يصلنا ما تنتجه النوادي الادبية» لذلك تكون هذه الرواية التي قرأتها قبل ان تتكرم المؤلفة بارسالها الى بالبريد، كعادة المؤلفين ودور النشر، من خارج البلاد وداخلها، ولم يكن اسلوب المؤلفة بالغريب على مثلي ممن قرؤوا انتاجها الفكري قبل اليوم، الا ان عالمها الروائي هو الجديد، كما اسلفت، ونفس الكاتب في القصة القصيرة مختلف بالتأكيد عن النفس الروائي ولكل منهما طرقه ومقوماته الفنية والروحية، من حيث القدرة والموهبة. وهذه الكاتبة وكثير غيرها من الذين تمرسوا في كتابة القصة القصيرة صارت انفاسهم انفاس القصة القصيرة، كما ان كتاب الرواية عندما يحاولون كتابة القصة القصيرة تتملك اعمالهم انفاس الرواية، فالتكثيف اللغوي من سمات كاتب القصة القصيرة اكثر من كاتب الرواية، مع اننا نسلم بكل المقولات النقدية، والدراسات الاسلوبية التي تؤكد على التكثيف اللغوي في المكان المناسب من النص، سواء في الرواية او القصة القصيرة، لكن الخلاف هنا خلاف بنائي وليس خلافاً تركيبياً، فالعمل يبدأ اجتماعياً وينتهي فردياً، ينتهي بمقولة تشبه شهادة العيان في آخر قصة على شكل رسالة موجهة للبطلة نفسها حتى وان كانت في ظاهرها لاحلام الصغيرة وسواء هذه ام تلك فالهم الذي تحدثت عنه الكاتبة في كل زاوية من زوايا العمل هو الهم المشترك بين الاجيال، في عالم لم يعرف معنى التفاهم بلغات متعددة، لكنه يجيده بلغة واحدة، ومفردة ليس لها من مرادف. وبما ان المؤلفة بدأت به وانتهت به فان النتيجة واحدة تقول: )الحرية يا احلام هي وهم سكن عقولنا، ولا اساس له في ارض الواقع فالإنسان مكبل بالاغلال منذ ولادته..قيود حديدية تشده الانسان هو الذي يصنع الحرية ويجملها ويعيشها لكنها لا تصنع الانسان ولا تحميه( ص 183 ان البطلة هنا عادت كما بدأت ولم تكن هي البداية ولا النهاية، فقبلها امها التي عانت ما عانته ثم بعدها احلام التلميذة التي ورثت هذا العرف البغيض، فهذه سلسلة شبه وراثية، وواقع صنعناه ونحن المسؤولون عنه، وقد وقف له الكثير من الناس واستطاعوا التغلب عليه حتى وان كان الكلام نظرياً فمن النظري يأتي التطبيق، وليس من التطبيق يأتي النظري، والذي انحنى امام الريح، او اغلق الابواب واستراح كما خدرتنا امثال العاجزين على مدى قرون من الزمن على انها من تجارب الشعوب، فقد آن لنا ان ننفض هذا الغبار ونبدأ زمنا جديدا نجرب فيه حصيلة ما تعلمنا ودرسنا من امثال الشعوب الاخرى، ولا نعلق الضعف على شماعات الآخرين من المتجبرين والعصاة الذين ورثوا الرأي الآخر واخذوا في تطبيقه على الانا لعكسه على الآخر المختلف عن الاول، لكننا لا ننسى او نتناسى دور الآخرين في المصادرة العلنية او السرية من زمن لآخر، ونعمم الآراء على علاتها، ونحن نسلم بأن هناك من هو يركب الطريق شططا من الجنسين، وهناك العكس من ذلك، فاذا كانت الكاتبة لا تثق برجل من كان حتى وان كان ابوها، فهذا رأي فردي، فأين هي من زميلاتها اللاتي يعملن معها في سلك التدريس، لم تذكر ان واحدة منهن اشتكت من ابيها او زوجها؟ بل العكس احداهن بكت كثيرا عند وفاة خطيبها، بل اصرت على ألاَّ تتزوج بعده، وهي لم تعاشره بعد فالصورة التي صورت بها المؤلفة الرجل صورة لا تنطبق على الرجل، وليس اعتراضي على العمل من حيث هو عمل، فقد وجدت فيه المقومات الفنية، وهذه طبعا تختلف عن الاسلوب فالمقياس الفني موجود، لكنه لا يكفي ان لم يكن متوازنا مع المقياس الاجتماعي، فالمعاناة النفسية شديدة الى الغاية التي تجعل المتلقي يتفاعل مع العمل تفاعلا كاملا، والصراع الداخلي ينبض بالحرارة والحيوية، والصورة الفنية الصادقة معبرة في كل الحالات، واغلبها الحزن، فقد ارادت ان تخرج من رمضاء الاب القاسي الى جنة الزوج، فاختار لها القدر نارا لو ان الكاتبة كسرت التقاليد البالية التي لم ينزل بها من سلطان، لفاقت الرواية التصور، ان الانهزامية الموروثة قد اكدتها الكاتبة، بكل المقاييس، بالرغم من وجود القوانين التي تحمي فكرتها. ولكن ما تزال المرأة العربية تتخذ من الرجل نموذجاً بارزاً تعلق عليه ضعفها لتؤكد انه المسؤول والفضاء الروائي فضاء توظيفي، قد يكون الفضاء مكاناً او زماناً او انساناً، فالرواية ذات فضاءات واسعة تستوعب كل شيء، لكن اين الشخصية المتنامية القادرة على تطوير نفسها، القادرة على مواكبة الحدث النفسي الذي ابدعت فيه الكاتبة، شخصية بدأت ضعيفة لتضعف؟ وهي الفتاة المتعلمة، وليست فقط متعلمة بل معلمة!! وكأن الكاتبة تقول، ما اشبه الليلة بالبارحة نحن الذين صنعنا التجربة ونحن الذين نغيرها، لكن مشكلتنا في العالم العربي ان العرف من المسلمات الثابتة، مع انه من المتحولات، ومعظم كتابنا يتعامل بتفكير العقود السابقة، ولا انفي وجود مثل هذا الى اليوم، لكنه لم يعد مسلمة يجب الخضوع لها طوعاً او كرهاً. واذا بقينا على هذا من الانتاج الادبي فستكون صورتنا مكررة عن الماضي بكل حسناته وسيئاته..
فلماذا لا نقابل المشكلة بانفسنا، بدلاً من تعليق المشكلة على من تسبب في المشكلة، ونبقى بالصوت الاحادي فالزمن زمن حوار، والفروق الخاصة في طريقها الى الزوال.
|
|
|
|
|