أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 23rd May,2001 العدد:10464الطبعةالاولـي الاربعاء 29 ,صفر 1422

مقـالات

منعطفات
أزمة مياه أم أزمة عقلية؟!
د. فهد سعود اليحيا
بهذه المقالة سأختتم الحديث ذا الشجون الذي أثارت لواعجه أزمة المياه التي ألمت بالرياض منذ ثلاثة أسابيع أو اربعة.
الأزمات او الكوارث او المشاكل الطارئة متوقعة الحدوث في أي وقت، وفي أي جانب من جوانب الحياة اليومية، وفي كل مكان من أنحاء العالم. والأزمة نفسها قد يختلف تأثيرها وتتباين نتائجها بحسب الظروف الوقتية المصاحبة بينما الاحتياطات العامة لها - على العموم - لا تتغير.
على سبيل المثال، الاستعداد للطوارئ يقول ان علينا ان نتأكد دائماً من جاهزية «كفر» السيارة الاحتياطي، وهو أمر كثيرا ما نتجاهله، ولكن لنفرض ان كفر السيارة بنشر في احد الشوارع الرئيسية وانت ذاهب عصراً في مشوار عادي، واكتشفت ان الكفر الاحتياطي بدوره مبنشر، أمر مزعج بلا شك ولكن لا مشكلة هناك اكثر من حل: انت غير مستعجل.. سيارات الليموزين اكثر من الهم على القلب.. اولاد الحلال كثيرون يمكن ان يفزعوا.. الخ، لكن لو حدث ذلك في الهزيع الاخير من الليل و«المدام» في حالة ولادة، او الطفل في حالة مرضية اسعافية، وفي شارع فرعي ماذا ستفعل؟ موقف لا تتمناه ان يحدث لعدو فما بالك لحبيب!
ستلعن الساعة التي لم تفحص فيها الكفر الاحتياطي، وستقبل حذاء سائق اية سيارة تقبل على الطريق ليقلكم الى المستشفى، وستدفع كل ما لديك لأي سائق ليموزين كنت تماسكه ضحى الأمس في خمسة ريالات.
هذا هو منطق الازمة: انها مباغتة، انها تفرض عليك شروطها، انها تأتيك من حيث لا تنتظر - وأحياناً من حيث تنتظر ولكن بشروطها - والفرق بين البلدان المتحضرة والمتخلفة يكمن في وجهين: الأول: العمل الدؤوب لتقليل احتمال حدوثها، وكذلك تقدير احتمالات حدوثها عبر الاحصاءات، ونظرية الاحتمالات، والثاني: في تبني عقلية مواجهة الظروف الطارئة وكأنها ستحدث غداً، فيتم التدريب عليها دائماً، ويتم تطويرها وتحديثها بحسب المستجدات الناتجة من التدريبات المتكررة، او الوقائع الفعلية.
ومنذ سنوات كتبت مقالة بعنوان «حديث العاصفة» بعد عاصفة رعدية وامطار غزيرة هطلت على الرياض لمدة نصف ساعة فأغرقتها في شبر من المياه. في تلك الليلة كان الانتقال من شارع الى آخر في الرياض مناورة خطيرة. وفي اليوم التالي كانت المستنقعات تحتل مساحات من الطرق السريعة والشوارع. تلك العاصفة الرعدية بينت اننا لا نمتلك خطة طوارئ لمواجهة أزمة في الأنواء.
وفي تلك المقالة استشهدت على الاستعداد لمواجهة الازمات الطارئة بتدريب عملي حضرته أثناء الاشهر الثلاثة الاولى من حياتي المهنية كطبيب امتياز ولا داعي لإعادته ولكني اقول اني ذهبت مرتعداً تتملكني الرهبة ضمن فريق الجراحة المناوب في سيارات الاسعاف الى المطار القديم «لم يكن مطار الملك خالد قد وجد بعد» لإسعاف ضحايا طائرة سقطت وخلفت ورائي المستشفى «مخترشا» بعد اعلان حالة الطوارئ المسماة «كارثة كبرى» «Major Disaster» وبعد نصف ساعة علم الجميع ان كل هذا كان تدريباً تم التخطيط له بدقة، ولم يعلم بحقيقته إلا عدد محدود من كبار العاملين في المستشفى.
منذ بضع سنوات غرقت أنحاء كثيرة من الرياض والقصيم في ظلام دامس لعدة ساعات نتيجة خلل في مولدات الكهرباء التي تصلنا من المنطقة الشرقية، وبحسب ما تسعفني به الذاكرة فإن العناية الإلهية قصرت عطل الكهرباء على مصابيح الشوارع واشارات المرور والحمد لله. واذكر ان شباباً مدنيين ترجلوا من سياراتهم وأمضوا ساعات ينظمون المرور في تقاطعات الشوارع الرئيسية وكتبت في مجلة اليمامة محيياً اولئك الفرسان المجهولين الذين ترجموا معنى الوطنية والمواطنة عملاً وصنيعاً.
هذه الأزمات او المشاكل او الاعطال - سمها ما شئت- تحدث في أي مكان فجأة، في «اورلاندو» و «الخرمة»، و«نيس» و«طماي الزهايرة»، وقد تحدث في «الرياض» اليوم، وفي «طوكيو» غداً. ولكن لنرَ:
قبل أربع سنوات مكثت في مطار الرياض ساعات بانتظار الصعود الى الطائرة المتجهة الى القاهرة، لحضور المؤتمر السابع لاتحاد الأطباء النفسيين العرب، تأجلت الرحلة الى نفس الموعد في اليوم التالي لأن مطار القاهرة مغلق بسبب رياح الخماسين الموسمية المتربة، حسناً! هذا أمر يحدث في كل مكان، كما ان رياح الخماسين لا تخضع لسلطات مطار القاهرة، او مطار الرياض، لكن الخروج من المطار كان مهزلة تبعث على البكاء، حسب نظرية ابي الطيب المتنبي.
من المؤكد ان هذه ليست اول رحلة دولية مغادرة من الرياض يتم إلغاؤها لسبب او لآخر، وابسط التصورات ان هناك بطاقة او «كارت» يحمل عنوان «الاجراءات الواجب اتخاذها في حال كذا وكذا» في متناول كل المسؤولين في المطار، ولكن التخبط كان واضحا: في البداية قالوا لنا: توكلوا على الله الى بيوتكم، واحتفظوا معكم ببطاقات صعود الطائرة لتسافروا بها غداً، هرعنا مغادرين بيد انهم اوقفونا لأن مسؤولي الخطوط تجادلوا فيما بينهم، فقد قال احدهم ان هذا لا يصح، لأن نوع الطائرة قد يتغير غداً! معه حق! اما الاهم من هذا والذي لم يقله فهو ان التاريخ الموجود على البطاقة سيتغير غداً بالتأكيد، وان احد المسافرين قد لا يستطيع السفر في اليوم التالي لسبب او لآخر، وان مسافرين جدداً قد ينضمون الينا! طلبوا منا ان نتجه الى المكتب الفلاني لنأخذ التذاكر، فعلنا ذلك، وتزاحمنا حول ذلك المكتب المستدير ذي الواجهتين، اخذنا التذاكر واتجهنا للخروج.
فوجئ ضابط الجوازات بنا، وفوجئنا بأن لا علم لديه بهذه التطورات! أوقفنا الضابط واعلمنا بأن خروجنا ليس بهذه السهولة، وتجادل مع موظفي الخطوط السعودية، فنحن رسميا قد غادرنا البلاد، بدليل الختم الموجود على جوازات السفر، والمعلومات الموجودة في كمبيوتر الحكومة، معه حق بدوره، والحل؟ الغاء هذه الاختام على الجوازات والغاؤها من الكمبيوتر وهكذا كان.
أخيراً خرجت من صالة السفر وانا أرى سيدات استبد بهن الهلع، فقد ودعهن ازواجهن، وعادوا الى مقار اعمالهم خارج الرياض: في الدوادمي، والقويعية، والخرج وغيرها. مصيبة! وتركت الصالة والجدال حامي الوطيس بين المسؤولين المدنيين والعسكريين، وكل طرف يحاول ان يلقي بهذه المسؤولية الثقيلة على الآخر.
من ساعة ابلاغنا بإلغاء الرحلة حتى خروجنا من باب المطار امضينا اكثر من ساعة نركض من مكان لآخر، ونستمع الى جدال هذا «السنيور» مع ذلك السوبر فايزر، وهذا «المدير» مع ذلك «الضابط».
من الواضح انه لا توجد خطط بديلة للتعامل مع المواقف الطارئة، وانها لو وجدت فإن العاملين في المطار لم يدروا بها، وانهم لو دروا بوجودها فإنهم لم يتدربوا على تطبيقها، وانهم لو تدربوا على تطبيقها فإنهم لم يأخذوها بجدية.
لحسن الحظ كنا بضع عشرات من المسافرين فقد كنا في شهر مارس ولم يكن موسم اجازات، وسيكون الوضع اسوأ لو ان عاصفة رملية اغلقت مطار الرياض وتم الغاء كل الرحلات، بل وسيكون اشد سوءاً لو حدث ذلك في موسم الاجازات.
ولو عدنا الى مثال بنشر الكفر نقول ان البنشر قد يحدث نتيجة مسمار او عقب زجاجة او تلف في الكفر او هذا السبب او ذاك. وكذلك هذه الازمة او تلك قد تحدث نتيجة اعصار او هزة ارضية او فيضان او سوء صيانة، ولكن ساعة حدوث الازمة ليس المهم الحديث لماذا حدثت؟ ولكن المهم ما الخطوات العملية التي يجب عملها لمواجهتها، وبعد انتهائها بأقل اضرار ممكنة، تتم دراسة الأسباب التي احدثتها لتفادي حدوثها مرة أخرى «قدر الامكان».
تتميز ازمة المياه الماضية بأنها مست سكان الرياض جميعا فلم تقتصر على حفنة ركاب ألغيت رحلتهم ولا عدة مئات عانوا من السيول ولا بضعة ألوف عانوا من امتلاء الشوارع بالمياه، ولذا فقد وشت بأزمة العقل التي نعاني منها التي هي مربط الفرس. انا لا اتحدث من الناحية الفلسفية ولا الناحية النظرية حين اقول انه اقمام العقل: العقل النظري، والعقل العملي ولكني اتكلم من الناحية العملية المهنية البحتة، للتبسيط: العقل النظري يجعلك تتصور شيئاً في الفراغ او تضعه على الورق مثل المهندس الذي يرسم المخطط على الورق والعقل العملي يخرجه لك على الواقع مادياً مجسماً، فعندما تتخيل بيت المستقبل على الورق وتطلب من المهندس المختص ان يصممه لك حسب الاصول سيقول لك ان كان ذلك ممكناِ فعلاً ام مجرد خيال بل وسيقول لك ان كان ذلك ضمن مقدورك المالي او ضمن احلامك المالية فقط.
وما اريد ان اقوله ببساطة إن أي كفر يمكن ان يبنشر في أي وقت وفي أي طريق ويجب ان يكون الكفر الاحتياطي جاهزاً، مسألة ليست بحاجة الى تنظير او لجان او خبراء اجانب او محليين او عولمة، انها بحاجة فقط الى قليل من الصدق والاخلاص بالعمل لا بالكلام.
والله، وبالله، وتالله، ليست في كل مرة تسلم الجرة، فلنحمد الله بكرة وأصيلاً، ونشكره ليل نهار على لطفه بنا، ولنتعلم الدرس بسرعة، وبكل تأكيد، لن يغني ذلك عن الله شيئاً، ولكنه من باب الأخذ بالأسباب، ومن باب الشكر بالعمل، ومن مبدأ «اعقلها وتوكل».
إن مبدأ «درهم وقاية خير من قنطار علاج» اكبر بكثير من التطعيم ضد الكوليرا وأوسع بكثير من ان يعني صحة الجسد، وانه مبدأ لو تعلمون عظيم.
فاكس: 4782781
fahads@suhuf.net.sa

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved