| مقـالات
وحين نواصل الحديث عن ركائز هذه المرحلة، نحتاج الى استباق التساؤلات حول المخضرمين، الذين عاشوا مرحلة التأسيس، وكان لهم دورهم المشهود في مرحلة الانطلاق، ولربما نعيد الحديث عمن استكملنا الحديث عنهم في فترة التأسيس، وقد يتصور المتابع ان ذلك ضرب من الخلل المنهجي، واستدعاء رموز تلك المرحلة يمتد بنا الى معارف ونكرات، مقلِّين ومكثرين، مبدعين بالموهبة وكاتبين بالاقتدار، ومجربين واعين وعابثين باللغة والفن والدلالة. والمقلُّون خاصة ممن كان لهم حضور بأعمال سردية، لم تتح لهم فرصة الخروج الى دوائر الضوء عبر أعمال روائية أو مجموعات قصصية مطبوعة أو مخطوطة، أو دراسات جادة أو مجاملة، مع أن القصة الواحدة يكتبها الموهوب المثقف المجرب ربما تكون بحجم المجموعة، من حيث أصالتها وتوفرها على مقومات الفن ومتطلبات اللغة، وشعراء القصيدة الواحدة المتميزون تمكنوا من الحضور، فيما لم يتمكن منه أصحاب المطولات، وكم من الشعراء مَن ملك السيرورة بقصيدة أو بيت، وخمل آخرون بدواوين تُهدى ولا تباع. فالقلة والكثرة ليستا مقياس الأهلية، وكم من القصاص والروائيين الذين لم تطبع اعمالهم بعد، وإنما تسربت عن طريق النشر في الصحف بين الحين والآخر، يملؤون الأنفس إعجابا وإكبارا، وكم من المكثرين المغثين الذين تود أن بينك وبين اعمالهم امدا بعيدا، والحاضرون بمجموعاتهم القصصية أو برواياتهم أو بأعمالهم التي نشرت في الصحف والمجلات يعدون بالمئات، والحكم على أعمالهم يتطلب تصورها، وليس هناك مزيد وقت وجهد للتوفر على التصور الكافي لإصدار الحكم النهائي، ومن ثم فإننا سنلجأ الى الاشارة دون الوصف أو التحليل أو الحكم، وفي هذا استدعاء لأكبر قدر منهم.
ولأن الناقد قد يتوفر على اعمال بعض المبدعين وعلى بعض الدراسات عنهم، ثم لا يتوفر على مبدعين آخرين، ولا على شيء من ابداعاتهم، وإنما يعرفهم بأسمائهم وبما يتداول عنهم من قول، وقد يعرف أسماء أعمالهم، ثم لا يتمكن من الاطلاع عليها، وكل ذلك يحمله على تناول البعض بشيء من البسط فيما يلمح الى آخرين، ولا يجري على قلمه من هم أفضل من هؤلاء وأولئك، ومن ثم فإن ما نقوله لا يعد القول الاشمل والنهائي، وذلك تحفظ نقدمه حين لا نستدعي من هم احق بالاستدعاء، أو حين نطيل الحديث عن طائفة دون طائفة أخرى. والاستاذ الدكتور سلطان بن سعد القحطاني اشار إلى شيء من ذلك «الجزيرة 16/2/1422ه» العدد «10451» متوقعا أنني احمل همَّ التقصي والوصف والتحليل، وما ذلك باستطاعتي، ولكم اتمنى لو شاطرني المهمة فهو الأقدر والأمكن.
ولو عدنا الى ركائز هذه المرحلة وعمدها، ونحن عائدون ولا شك، نجد أن ممن هم في سياق هذه المرحلة، اضافة الى من سبق ذكرهم القاص «حسن بن محمد النعمي» في مجموعته القصصية التي أصدرها قبل عشر سنوات، وفيها يتوفر على لغة مكثفة، وموضوع مركز. وهاتان السمتان جاءتا على حساب الحركة الداخلية، ونحن اذ لا نتطلع الى حركة متنامية في القص بمقدار تطلعنا الى مثلها في الرواية، تظل رغبتنا تلح على توفير الحركة والحس القصصي، والمبدع أي، مبدع يعطي من خلال سردياته مؤشرات على موهبته الإبداعية، وهذا الذي حفزنا على التحفظ وعدم التسليم للمقتدرين الذين يكتبون ولا يبدعون «والنعمي» بوصفه قاصاً مقلاً، لا اعرف له سوى عملين: «زمن العشق الصاخب» و «آخر ما جاء في التأويل القروي». وقد درس عمله القصصي الأول من قبل دارسين متفاوتين، لعل من أهمهم «طلعت صبح السيد» ، فيما اغفله الدكتور العطوي، وهو كما يتصوره «صبح» يمثل التحولات الاجتماعية وصراع الاجيال. واذا كان النعمي يقترب من المغايرة بحركة بطيئة موزونة، فإن زميل مرحلته «جار الله الحميد» الذي ألمحنا له اكثر من مرة في مجموعته القصصية «أحزان عشبة بريّة» التي صدرت قبل مجموعة النعمي بثمان سنوات، يقفز الى المغايرة بشكل مغامرة جريئة، ومجموعته تلك ترهص لاندفاع اكثر، مارسه في اعماله اللاحقة. وموجة الحداثة الفنية واللغوية التي تركت آثارها السيئة والحسنة في آن، امتدت الى طائفة من مبدعي هذه المرحلة، فاستفاد منها قوم وأضلت آخرين، ومما تركته من آثار ما نراه من تجسيد الحياة الاجتماعية بطريقة يختلط فيها الواقعي بالرومانسي، مع الانفتاح على اساليب رواد القصة العربية واندفاع وراء بوارق التجريب الفني، وإغراق في الغثيان، واحتفال بالأشياء التافهة، وتعويل على المفاجآت وتأزيم المواقف، والتذكر، وتيار الوعي، والتفصيل الوصفي، واصطياد اللحظات، والمواقف، وأدب الاعتراف، والادلجة، وتكسير السوائد والمسلمات، وسوء الأدب مع المقدس، وظهور القصص الذهني، وغموض الافكار والعبارات، وانغلاق الصور، والإمعان في الانقطاع، والإشارة، والرمز، والأسطرة، والقناع، وتأرجح البطل بين أن يكون محوراً أو متمحوراً، أصيلاً أوهامشياً، أهلياً أو مغترباً، وتقلب البنية الزمانية بين الادبي والنفسي والفلسفي واللحظي والتراتب والقفز، ولعبة السواد والبياض والعلامات، والخلفيات اللونية والشكلية، مما أحدث انقطاعاً متعدد المجالات، على ان التحرف اللغوي الذكي القائم على الانقطاع والإبهام والانزياح والايجاز والمجاز تضارعه لوثة العامية والشيوع والترهل، والكتابات المشوشة والقول الفارغ من أي هدف، وهذه التناقضات التي قد تأتي في عمل واحد مؤشر على تبعية غير واعية، وتعلق ساذج وغير حصيف بالمستجد، والمسألة في النهاية تعمُّل وصناعة ومحاكاة، اذ لا تأصيل ولا مبادرة ولا عفوية، ولو ان تلك الظواهر اللغوية والفنية سمة لما تجاورت المتناقضات في العمل الواحد، والناقد يعرف ان الرجل أسلوب، وان الوحدة اللغوية والشعورية والفنية مؤشر أصالة وصدق وموهبة.. ومن ثم فإن أعمال المقلدين اولاد نغل تتنازعم الجينات، والمحصلة لكل هذه الظواهر غير الطبيعية ان المشاهد حين تفاجأ بالمستجدات الطارئة يخف إليها الفارغون، ويتهافتون كما الفراش على محاكاتها، فيما يتأملها المتمكنون، ويأخذون بأحسنها، ولتفادي التعميم نود استثناء طائفة من الشباب الذين نثمن مواهبهم، ونقدر تحرفهم، ونتحفظ على اندفاع بعضهم، ولربما يكون «الحميد» في لغته وبنائه القصصي متعالقا بشكل واضح مع كتاب القصة والرواية المتمردين على الشكل المتعارف عليه، وهو ينظر الى ما تركته الحداثة في الأعمال السردية كافة من تغيير في: الأحداث، والظروف، والشخصيات، والحبكات، واللغة، والصور، والحركة، واذا كانت مجموعة «الحميد» الأولى تمثل تجاوزا جريئاً، فإن أعماله اللاحقة تمثل انقطاعا فنيا تاما. وإذ لا نتردد في القول بامتلاكه موهبة ابداعية نتردد كثيرا في قبول اندفاعه غير المحسوب، وخروجه على المعتبر الفني في كثير من أعماله القصصية، وقد اشرنا من قبل الى خصائصه وأطراف من تجاوزاته، على انه لم يكن وحده في الإمعان التجريبي، بل نرى التجاوز دأب الشباب وديدنهم، نجد ذلك عند «محمد منصور المدخلي» و «محمد علي الشيخ» و«محمد حمد الصويغ» و«عقيلي الغامدي» و «عبدالملك القاسم» و«عبدالحفيظ الشمري» و«فهد الرشيد» و«محمد منصور الشقحاء» مع ان طائفة من اولئك ومن غيرهم صنَّاع قصة، وليسوا مبدعين، والتجريب عند المبدع اخف ضررا منه عند المقتدر. واذا كان «الحميد» «والشقحاء» و«عبده خال» قد حاولوا دخول هوامش الحداثة الفنية، فإن «رجاء عالم» دخلت متنها، وكانت أكثر وعياً في التعامل مع مقتضياتها الفنية واللغوية. والشيء الذي لا ننكره ان لغة هذه الطائفة تفوق لغة الرواد والمؤسسين، فهي الأكثر تركيزاً وانزياحاً ورمزية وإشارية، وهي بحق الاكثر امتاعاً ولصوقاً بالفن الابداعي. ومهما كان حجم تحفظنا على بعض فنيات اولئك او دلالاتهم، إلا أننا نعرف حظ اكثرهم من الموهبة وتوفرهم على الانزياح اللغوي والتجريب الفني، وموقفنا لا يمت الى التقليد بصلة، ولست فيما اذهب إليه بالمقلد ولا بالمحافظ، وليست المسألة عندي مرتبطة بالزمن الماضي او الحاضر ولا بشيء من المحافظة او التقليد، المسألة عندي موهبة ووعي وثقافة عميقة وتجربة صادقة وتجريب يستجيب لذائقة الأمة وحاجاتها، واحترام للشرط الفني وخصوصية كل نوع من انواع الفنون.
والمؤسف ان الذين ترهقهم سياط النقد يلوذون بدعاوى كما ثياب الزور، بحيث يتهمون النقاد بالتقليدية أو الجهل، ولا يسألون انفسهم على ضوء ما يسمعون عنها، ولربما ان مرايا النقد الحداثي المحدبة خدعتهم وصورتهم على غير حقيقتهم، ثم ان الفن السردي انتهك حماه فضوليون لا يلوون على شيء، بحيث جاءت اعمال قصصية وروائية مفتقرة الى لغة سردية والى مضمون شريف والى فنيات متميزة، وهؤلاء الذين لا يتوفرون على الحد الادنى من اللغة والمضمون والشكل هم الذين يقامرون بالفن، يتلقون فيوض المترجمات فيأخدون بأسوئها، وقد يكون هدفهم من هذه المغايرة ان ينشغل النقاد بتجاوزاتهم عن احقيتهم، ومن ثم يمتلكون حق الوجود بهذا الجدل حول مشروعية فعلهم.
وتحفظنا على تجاوزات هذا الجيل لا يمس حتمية التجديد، إذ إن التحرف الواعي للتجديد مقتضى ازلي، لا يلقاه إلا ذوو الملكات المتمكنة والثقافات المعمقة، وحين تستشري الرغبة في التغيير، ثم لا يكون وعي، ولا تكون ملكة، تختلط الأمور، وتصبح المشاهد ملاعب جنة معماة. والبعض من المتقحمين لتلك المغامرات لا يقدمون للقارئ موضوعاً متماسكاً، ولا قضية مهمة. والشعر الذي ذهبت ريحه بالنثرية والتغامض والانحراف، ضارعه السرد الابداعي في هذه الأدواء، حتى لقد تحولت القصة والرواية عند مدعي الحداثة وبعض مدعي التجديد الى عبث، وكما أشرت فإن البعض من أولئك يمتلك موهبة وقضية ولكنه لا يحفظ التوازن في تخطياته، ولو عدنا الى طائفة المجربين وحاولنا فرز أعمالهم لوجدنا عندهم بعض الصواب، ولكن التمادي في التجريب وعدم التريث يفوت فرصاً ثمينة، وهذا «الحميد» مثلاً تجد القصة عنده قد تحولت الى بوح يتخلص به من معاناته، وسخرية مرة بالذات وبالواقع، والعبارة فيها مجرد زفرة يتخفف بها من وهج الحرقة ومضاضة الألم، و«الحميد» يكاد يكتب نفسه، وقد يختصر الواقع من خلال تجاربه الحياتية الفاشلة، والقليل من القصص تقدم لك قضية مركزة، فيما تأتي بقية اعماله منغلقة، يقرؤها المتلقي ولا يبقى في ذاكرته منها إلا عبارة جميلة أو صورة خاطفة، أو كلمة ساخرة، واقرأ ان شئت قصة «أغنيات لفائزة»، واقرأ غيرها من قصصه، تحس ان القاص يوغل في الرمز والوهم والأحلام، ويقترب كثيراً من هذه المحاولة «الشقحاء»، والشيء الذي اود تأكيده ان المبدع «المتحدْثِن» فنياً على الأقل، يتعمد التمرد على اللغة، وعلى الشكل الفني للقصة، يتمرد على اللغة بحيث يعطل مهمتها الأساسية، وهي التوصيل، لا يريد أبداً اراحة المتلقي وتوصيلة المراد، وكل همه توتير الأعصاب وشد الانتباه وإثارة التساؤل، وهو لكي يصل بقارئه الى اعتاب التوتر يركن الى اللعب في الدلالة اللغوية والانزياح في التراكيب والتجريب وفي التشكيل الفني، وقد يقع في الخطأ في اللغة وفي التركيب، ويخرج على الشرط الفني، بحيث يدخل دائرة النثر الفني، ولكنه مع هذا يصر على ان يضع بينك وبينه أكثر من حاجز بما يتعمده من تراسل وتشخيص، وتلك نزعة صارت إليها طائفة من الشباب، قد تؤدي الى ارتباك دلالي وفني ولغوي، وهؤلاء في سياق ظاهرة تحطيم السوائد لا يحفلون باللغة، ولا يهتمون بالشكل، ولا يحترمون الشرط الفني، ومع هذا تحس انك أمام مبدعين يتعاملون مع اللغة والفن بطريقة غير عادية، وعلى الرغم من هذه المآخذ وتلك التحفظات فهم افضل من جيل التأسيس في التعامل مع اللغة، ودونهم في التعامل مع الفن، ومثلهم في البعد الموضوعي، واولئك حين يتخطفون المستجدات في الشكل والبناء يتطلبون آليات نقدية وعمقاً معرفياً وثقافة شمولية، تمتلك القدرة على محاورتهم، وتحرير المسائل الجديدة التي صاروا إليها، ولا مجال لنفيهم على الإطلاق او قبولهم دون مساءلة، اذ ان انقطاع بعضهم على الأقل له جذوره الفنية والفكرية ومرجعياته المعرفية، ومن الخطأ التعامل معهم عبر آليات قديمة أو مسلمات سلفية، كما لا يليق الاستخفاف بمحاولاتهم ولا الإذعان لها. وكم أتمنى تواضعهم وسماع ما يقال عنهم، وبخاصة من الذين يصدقونهم القول ويمحضونهم النصيحة، وليس من اللائق تعمد نفي النقاد او نفي المعرفة النقدية عمن لا يجاملونهم ولا يسايرونهم، والحوار الموضوعي الهادئ المتمسك بأدبياته كفيل بإحقاق الحق، والويل كل الويل لمن لا تحفل المشاهد بهم قدحاً او مدحاً، ومع أنني لا اقيم وزنا لأولئك الذين لا يملكون إلا لغة المصادرة والتجهيل ألا انني أخشى على المشهد الثقافي من مثلهم، فالذين لا يملكون مثمّنات يقامرون بسمعتهم، ويكونون اكثر شيء جدلاً، فحسابات الربح والخسارة عندهم غير قائمة، ومن ثم يركنون الى الطيش وسوء الأدب، وهم بهذه الأخلاقيات المتدنية يخوفون الطيبين، ويحولون دون التناول الحضاري لطوارئ المشاهد الفكرية والأدبية.
|
|
|
|
|