أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 18th May,2001 العدد:10459الطبعةالاولـي الجمعة 24 ,صفر 1422

شرفات

أزمنة المتنبي الشعرية
قال أبو الطيب وقد تشكى سيف الدولة من دُمَّل:


1 مَلِلْتَ مُقامَ يومٍ لَيْسَ فِيهِ
طِعانٌ صَادِقٌ ودمٌ صبيبُ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: الصبيب: المصبوب، وماء صبيب وصب. والصبيب: ماء ورق السمسم. والمقام: بمعنى الإقامة. والمعنى: يقول: أنت من عادتك الطعان في الأعداء وسفك دمائهم، فإذا أقمت يوما واحدا لم تفعل هذا مللت، وطلبت الخروج الى العدو حتى تصب دماءهم.
وقال المتنبي في قصيدة يرثي بها أخت سيف الدولة:


2 وَعادَ في طَلَبِ المترُوكِ تاركةٌ
إنا لنغفلُ والأيامُ في الطَّلبِ

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد أن الموت ترك الكبرى ثم عاد فأخذها. وقوله :«إنا لنغفل..الخ» من أحسن الكلام وأوعظه.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة:


3 فإنْ تكنِ الأيَّامُ أبْصرنَ صَوْلَةً
فقدْ علمَ الأيام كيفَ تَصُولُ

يقول العكبري عن هذا البيت: الصولة: حملة الباطش. وصال عليه: إذا استصال وصال عليه: وثب صولا وصولة، يقال: رُبَّ قول أشد من صول. والمصاولة: المواثبة، وكذلك الصيال والصيالة. والمعنى: يقول: إن تكن الأيام أبصرت وقائع سيف الدولة وبطشه، فقد علمها من ذلك ما لم تعلمه، وكشف لها ما لم تعرفه، ونهج لها سبيل الصول والقدرة، ونبهها على حقائق الغلبة، مع أن هذه الأحوال الى الأيام تنسب، وآثارها فيها تمثل.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويهنيه بعيد الأضحى:


4 ذَكيُّ تظنيهِ طليعةُ عينهِ
يَرَى قلبهُ في يَوْمِهِ ما ترى غدا

يقول العكبري عن هذا البيت: التظني: هو التظنن. والطليعة: الذي يطلع القوم على العدو، فإذا جاءهم العدو أنذرهم. والمعنى: يقول: هو لصحة ذكائه ولصحة ظنه إذا ظن شيئا رآه بعينه.وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها شجاع بن محمد الطائي:


5 وما تنقمُ الأيَّامُ ممنْ وجوهها
لأخْمَصه في كل نائبةٍ نَعْلُ

يقول العكبري عن هذا البيت: نَقَمت الشيء )بالفتح( أنْقِم )بالكسر(، أي كرهته.
ومنه قوله تعالى:«وما نقموا منهم» أي كرهوا وعابوا. والأخمص: باطن القدم. والمعني: يقول: هو عزيز شديد البأس والقدرة، فلا تقدر الأيام على مخالفته، فقد ذلت له ذل من يطؤه بأخمص قدميه، حتى تصير تحتهما كالنعل في الذل، ولاتقدر الأيام أن تعيبه، ولا ترد عليه ما يفعل.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها شجاع بن محمد الطائي المنيحي:


6 اليَوْم عهدُكمُ فأيْنَ الموعدُ؟
هَيْهاتَ ليس ليوْمِ عَهْدِكمُ غدُ

يقول العكبري عن هذا البيت: المعني: يريد أن هذا اليوم هو عهد لقائكم، فمتى موعدكم باللقاء، وهو يوم وداعهم. ثم التفت الى نفسه وقال: هيهات، وهو التفات حسن، لأنه استفهم ثم سأل عن الموعد، فالتفت حينئذ إلى يأس نفسه من الموعد، فقال: ليس ليوم موعدكم غد، لأن الموت أقرب الي من أن أدرك غداة غد، بل أموت في يومي هذا أسفا، يريد وداعهم. وهذا البيت من أحسن ما قيل في الوداع، والمعنى: هيهات، أي بعد ما أطلب، لا أعيش بعدكم.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها ابن العميد ويودعه:


7 تَفَضَّلتِ الأيامُ بالجمعِ بيننا
فلمَّا حمدنا لَمْ تُدمْنا على الحمْدِ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يقول: حمدنا الأيام : جعل الحمد منهما يعظم من حال نفسه، أي كنت تحب الاجتماع معي، كما كنت أحبه معك، فكلانا حمد الأيام على اجتماعنا، ولكنها أحوجتنا الى ترك الحمد لها، للمفارقة بالرحيل عنك والانصراف. وهذا من أحسن المعاني.
يقول أبو الطيب المتنبي في بيته الأول من أبياته السبعة السابقة مخاطبا سيف الدولة: إنك يا سيف الدولة تمل وتسأم إذا أقمت ومكثت يوما واحدا للراحة ولم تخرج به إلى مقاتلة الأعداء وسفك دمائهم. ومن هذا القول يتبين لنا أن الشاعر قد ربط بين الزمان ورغبات ودوافع النفس البشرية، فيوم واحد لم يتمتع به سيف الدولة بسفك دماء أعدائه يصبح طويلا مملا بالنسبة له، وهذا اليوم الذي أشار له الشاعر لم يحدد فقد يكون يوماً في الأسبوع، أو يوماً من شهر، أو يوماً من عام، أو أنه يتضمن أياماً عدة. ويقول الشاعر في بيته الثاني: إننا نغفل ونسهو ولا نفكر بالموت، ولكن تكرار الأيام علينا في حياتنا دليل على استعجال الموت لنا.
وفي هذا البيت بيّن لنا أبو الطيب أن تكرار الظواهر الطبيعية الفلكية والتي منها تكرار الأيام بالنسبة للإنسان هي عبارة عن زيادة في عمره، ونقص في حياته، وقرب وقوعه في براثن الموت والعدم بالنسبة للحياة الدنيا. يقول الأيوبي )1401ه 1980م(: إن الزمن له اتجاه واحد هو الموت، فالإنسان كما يرى الوجوديون كائن سائر عن وعي في اتجاه الموت. وقد أقر بذلك معظم المفكرين في الشرق، ومختلف تيارات الفكر الإغريقي الكبرى قديما، ومعظم التيارات الفلسفية حديثا.
ويقول شاعرنا المتنبي في بيته الثالث: أبصرت ورأت الأيام وقائع ومعارك سيف الدولة وبطشه بأعدائه، ولذا فقد تعلمت الأيام منه كيفية البطش. ونلاحظ من بيت شاعرنا هذا، أنه ربط بين بطش سيف ا لدولة بأعدائه، وبطش الأيام بنا كبشر، فالأيام وتعاقبها تؤدي بالإنسان الى الموت والهلاك، كما يؤدي إيقاع سيف الدولة بأعدائه الى موتهم وهلاكهم. وعندما نحاول هنا أن نفرق بين الأيام وأيام بطش سيف الدولة، فإننا نقف أمام مفهومين مختلفين للزمن. فالأيام بحد ذاتها، حادثة طبيعية فلكية متكررة بانتظام، ولها تأثيراتها المتنوعة على جميع الكائنات الحية، بما يحدث من خلالها من حياة وموت، وكوارث.. و..و.. أما أيام بطش سيف الدولة، فهي فترة زمنية غير محددة، فقد يبطش سيف الدولة يوميا بأعدائه، أو يوم في أسبوع، أو يحدث هذا في شهر أو بعد سنوات.
وربط الشاعر في بيته الرابع بين الزمان والإحساس النفسي للإنسان، فتجارب سيف الدولة السابقة مع أيامه زمنه السابقة أعطاه القدرة على توقع حدوث شيء ما في زمن آت، والذي ربما يكون غداً أو بعد غد.. وبيّن شاعرنا المتنبي في بيته الخامس أن الأيام ماهي إلا تكرار لظواهر طبيعية فلكية، وهي لا تعقل، ولا تفعل، ولا تمنع من حدوث شيء، وإنما الذي يفعل ما يريد في الأيام هو الإنسان وما يقوم به من أعمال وأفعال، فسيف الدولة بشر من البشر، وبما كان يملكه من عزة وقوة وقدرة وسلطان كان يفعل ما يريد، وهنا ربط الشاعر بين الأيام الزمان وأفعال الإنسان. وقرن الشاعر في بيته السادس بين الزمان والمكان واليأس والقنوط النفسي، فقد حدد الشاعر في يومه الذي ذكره في بيته موعداً للقاء وتوديع محبوبته في مكان الرحيل، وهو مكان اللقاء، وهذا اليوم سيمضي بكل أشجانه وأحزانه وفرحه وسروره، ففيه الحزن للوداع، والسرور للقاء، وهذا اليوم سوف لن يكون له غد، مع أن كل يوم يتكرر له غد، ولكن غد يوم شاعرنا هو لقاء محبوبه مرة أخرى، ولكن هذا لن يحدث لذلك لن يأتي غد يوم الشاعر. وحصر أبو الطيب في بيته السابع الزمن في فترة معينة، وهو زمن الاجتماع والتلاقي بينه وبين من يود.
وهذا الزمن، أو الأيام، قد تكون طويلة مستمرة لسنوات، أو قصيرة لمدة ضوء نهار، والأيام تتكرر باستمرار، ولكن من قام بالتفريق هو الإنسان أي شاعرنا ومن كان يوده.
وقال أبو الطيب في قصيدة يمدح بها كافور:


1 كَمْ زَورَةٍ لكَ في الأعْرابِ خافيةٍ
أدْهَى وقدْ رقدوا من زَورَةِ الذّئبِ
أزُورُهمْ وسوادُ الليلِ يشفعُ لي
وأنثني وبياضُ الصُّبح يغري بي

يقول العكبري في شرح البيت الأول: المعنى: أنه )المتنبي( يخاطب نفسه ويذكرها شجاعته ويقول: كم قد زرتهن )الأعرابيات( زيارة لم يعلم بها أحد كزيارة الذئب الغنم، والحافظون لهن قد رقدوا، فوقعت بهن كما يقع الذئب بالغنم والراعي راقد.
وزورة الذئب تضرب مثلا من الخبث. ويقول العكبري عن البيت الثاني: قال صاحب اليتيمة: هذا البيت أمير شعره وفيه تطبيق بديع، ولفظ حسن، ومعنى بديع جيد.
وهذا البيت قد جمع بين الزيارة والانثناء والانصراف، وبين السواد والبياض، والليل والصبح، والشفاعة والإغراء، وبين لي وبي. ومعنى المطابقة أن تجمع بين متضادين كهذا. وقد أجمع الحذاق بمعرفة الشعر والنقاد أن لأبي الطيب نوادر لم تأت في شعر غيره، وهي مما تخرق العقول، منها هذا البيت.
وقال المتنبي في قصيدة يمدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي:


3 وهبني قلتُ هذا الصبحُ ليلٌ
أيَعمى العالموُنَ عن الضياءِ؟

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد: أحسب أني قلت فيك هجرا، فكيف أقدر أن أقول والناس يعرفون فضلك وأصلك، فكأني إذا هجوتك، كمن يقول في النهار هذا ليل، فهل يقدر على ذلك أحد، لأنه إذا قال هذا أكذبه الناس، وهذا مأخوذ من قول العامة: من يقدر أن يغطي عين الشمس؟ وهو من أحسن المعاني.
وقال الشاعر في قصيدة يمدح بها سيف الدولة لما ظفر ببني كلاب:


4 ولا ليلٌ أجنَّ ولا نهارٌ
ولا خيلٌ حملنَ ولا ركابُ

يقول العكبري عن هذا البيت: المعنى: يريد أن سيف الدولة لما سرى خلفهم خلف بني كلاب لطلبهم تحيروا، فلا ليل سترهم ولا نهار، ولا حملتهم خيل ولا إبل، فهم لهيبته متحيرون، ما نجاهم نهار، ولا سترهم ليل.
وقال الشاعر في قصيدة يرثي بها أخت سيف الدولة:


5 أرَى العراقَ طويلَ الليلِ مُذ نعيتْ
فكيفَ ليلُ فتى الفتيانِ في حَلَبِ

يقول العكبري في شرح هذا البيت: المعنى: يريد: كيف حال أخيها فتى الفتيان، إذا كانت لأجل نعيها طال ليل أهل العراق.
وقال أبو الطيب في نفس القصيدة التي يرني بها أخت سيف الدولة:


6 وَلَيْتَ عينَ التي آبَ النهارُ بها
فِدَاءُ عينِ التي زالتْ ولمْ تَؤُبِ

يقول العكبري عن هذا البيت: آب: رجع. والمعنى: يقول: ليت عين الشمس فداء عين هذه المرأة التي فارقت ولم تعد.
وقال شاعرنا المتنبي في قصيدة قالها في مجلس ابن طفج:


7 زالَ النهارُ ونورٌ منكَ يوهمنا
أنْ لم يزل ولجنح الليلِ إجنانُ

يقول العكبري عن هذا البيت: جنح الليل ) بضم الجيم وكسرها(: طائفة منه. وجنوح الليل:إقباله. والمعنى: يقول: قد أقبل الليل، ولكن نور وجهك يوهمنا أن النهار باق، وأنه لم يزل، مع أن الظلمة قد أقبلت، ونور وجهك يغلب، فيظن أن النهار باق.
تطرق شاعر العربية الفذ أبو الطيب المتنبي في أبياته السبعة السابقة الى الظلمة والنور أي النهار والليل، وهذه ظواهر كونية معروفة تعتمد على الحركة والدوران للأرض حول الشمس، وأصبح تبادل النور مع الظلام بالنسبة للإنسان يوما. وقد قسم الفلكيون فترة النور ظهور شمس النهار وفترة الظلام، وهو الليل إلى اثني عشر جزءا لكل هاتين الفترتين، والحصيلة هي أربع وعشرون ساعة وهي اليوم.
يقول أبو الطيب في بيتيه الأول والثاني: لقد زرت الأعرابيات ليلا زيارة لم يعلم بها أحد كزورة الذئب الغنم، وقد زرتهن في الليل لأن سواده وظلمته الحالكة تخفيني عن أعين من كانوا يتربصون بي، وهنا فقد استخدم الشاعر خاصية الظلام، لأنه وكما هو معروف لنا فإن السواد الحالك والظلمة الشديدة تخفي عن الناظر ماهية الأشياء.
ويضيف الشاعر قائلا: وأنثني أعود وأرجع وابتعد عنهن بعدما يبدأ السواد بالانحسار ويزداد البياض، وهذا يحدث طبعا بسبب حركة الأرض حول الشمس، حيث تبدأ ماهية الأشياء تتميز بسبب بداية ظهور ضوء النهار. ويقول الشاعر في بيته الثالث: لو قلت ان الصبح، وهو زمن النور والإشراق والإبصار إنه ليل وهو وقت ظلام وعتمة لم أصدق بذلك، وهذه حالة التنوخي بالنسبة للناس فهو كالضياء الذي لا يمكن إنكاره. وفي هذا البيت استخدم شاعرنا العملاق ظاهرتي النور والظلام وهي ظواهر كونية متكررة في مدح صاحبه. ويقول شاعرنا المتنبي في بيته الرابع:
إن الليل بسواده والنهار ببياضه وإشراقه لم يحم ويخف من كان سيف الدولة يطاردهم من الأعراب. وفي هذا البيت أشار شاعرنا الى ظاهرتي الليل والنهار بوصفهما ظواهر وقتية زمانية محددة ومتكررة، لهما علاقتهما الوثيقة بالحياة الإنسانية، ففي الليل يحل الظلام، وتصعب الرؤية، ويسهل التخفي عن الأنظار، وفي النهار تسهل الرؤية وتتبين الأشياء، ولذا يسهل في النهار الهرب والابتعاد، وهذا ما لم يفعله الأعراب في كلتا الحالتين لخوفهم وارتباكهم من سيف الدولة، واستخدم أبو الطيب في بيته الخامس العلاقة بين الحالة النفسية للإنسان والزمن، فقد يطول وقت الليل، وقد يقصر تبعا للحالة النفسية الشعورية للإنسان، أما الليل من حيث انه ظاهرة فلكية محددة فوقتها لا يطول ولا يقصر نتيجة لحركة الأرض حول الشمس ويقول أبو الطيب في بيته السادس: إن الشمس ستغيب وتذهب وتختفي بعد نهار اليوم، ولكنها ستعود مرة أخرى في اليوم التالي، ولكن أخت سيف الدولة التي ماتت وفارقت لن تعود. وهنا فقد ربط الشاعر بين الزمان كحركة فلكية مستمرة متكررة بتكرار الليل والنهار. أما حياة الإنسان الذي قد مات فلن تتكرر أبدا. ويقول الشاعر في بيته السابع: بإقبال الليل ينحسر النهار ويختفي ضوؤه ولكن يظل نور وجه ابن طفج بدون تغير. ونلاحظ في بيت شاعرنا هذا أنه أشار الى وقت انحسار ضوء النهار بإقبال سواد الليل، وهذا من الناحية العلمية ناتج عن دوران الأرض حول الشمس، وقد استخدم الشاعر هذه الظاهرة في مدح صاحبه.
د. عبدالرحمن الهواوي

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved